الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حكاية قديم يسعى ليدوم

حكاية قديم يسعى ليدوم
23 فبراير 2009 00:33
أصحاب هذه المهنة توزعوا في أحياء المدينة وشوارعها، بعضهم افتتح دكاناً صغيراً يتابع مهنته، وآخر افترش بسيارته رصيفاً ليحصّل قوت عياله، وآخر داوم في مصبغة يلتقط رزقه من الزبائن المتوافدين لكي ملابسهم· وفي زمن الغلاء تخلى اللبنانيون عن عادة رمي ملابسهم التي قد تتعرض للاهتراء، فتراهم يعيدون تجديدها بدلاً من شراء ثياب جديدة كلفتها تفوق رواتبهم الشهرية· واذا كان ''رتْي'' الملابس (أي ترميم الممزق منها) اقتصر سابقاً على القطعة النادرة او الثمينة، فالوضع المعيشي الحالي، أجبر العديد من المواطنين على ''رتي'' ملابسهم، مهما كان ثمنها، لأن كلفة الجديد تعادل مرات ''رتي'' القديم·· مهنة ''رتي'' الملابس كادت تنقرض وتغيبها الأحداث المأساوية في لبنان، بعد خراب الاسواق التجارية، فقد تجمع اصحابها بداية في منطقة باب ادريس، سوق البزركان، لينتشروا فيما بعد ويتفرقوا بين صيدا وطرابلس وبعض القرى· يروي أصحاب هذه الحرفة، أن روح الحياة عادت تدب من جديد في المهنة التي يرفض اولادهم تعلمها، لحاجتها الى الصبر وبرودة الاعصاب، فهي جزء من مهنة ''الحياكة'' و''النول'' وعدتها إبرة وخيط· السيارة·· ''الدكان''·· ''الرتّى'' زياد عزالدين، حل مكان والده في المهنة، بعدما تهدم المحل في الاسواق التجارية، واقتنى سيارة تحولت الى دكان، تراه يجلس على كرسي بالقرب من رصيف الجامعة الاميركية، ويمارس مهنته، التي يقول عنها: ''المهنة تحتاج الى برودة أعصاب وقوة نظر وصبر ايوب، وحتى الآن لم اتخط نصف تعليمي، بسبب عدم توافر الرغبة لدي في أن استمر بهذا العمل، الا ان والدي يريدني أن أمتهن مهنته''· ويضيف: ''الوالد يعمل في هذه الحرفة منذ 35 سنة، عيناه باتتا جاحظتين لفرط ما يحدق في الثياب، وقال له الطبيب: اذا اردت ان تريح نظرك عليك التوقف عن هذه المهنة· وانا في الحقيقة لا اريد ان اكمل هذا المشوار·· الزبائن في هذه الايام تزايد عددهم، ولكن ليس كثيراً، والزبون في حال ''تمزقت'' قطعة ثياب يلبسها، يركض كي يصلحها، لأن أجرة ''الرتي'' اقل بكثير من عشر ثمن قطعة جديدة يشتريها في زمن الغلاء· الا ان اكثر الناس لا تعرف ''الرتّى'' وهم قلة في بيروت وغير معروفين· وفي اليوم الواحد ممكن ان يأتي اربعة او خمسة زبائن، ومدخولنا الشهري حالياً لا يكاد يسد رمق العيش، في حين كان ايام ''سوق البزركان'' في عزه''· الخيط··· وخرم الإبرة ''الرتّى'' بيضون يعمل في هذه المهنة منذ عشرات السنين، ويوضح قائلاً: ''مهنتنا فنية ومتعبة لأنها دقيقة، نجد فيها السعادة والشقاء في الوقت نفسه، وهي بحاجة الى عينين ثاقبتين وأفكار مطاطة''·· ؟ كيف تنظر الى مهنة ''الرتّى'' حالياً؟ - قبل الحرب كان الإقبال على هذه المهنة جيداً، أما الآن فقد تراجعت حتى أنّ معظم الناس لا يعلمون بوجود ''رتى''· ؟ هل تجد صعوبة في عملك؟ - طبعاً، لأن الشراشف والفساتين والبرادي واللوحات القماشية والعباءات المطرزة التي بحاجة الى تصليحات، يلزمها عمل دقيق لكي يتم ترميمها· فالخيط أكل من يدي، وخرم الإبرة اضعف نظري·· ؟ اذا أحب أحد من أولادك تعلم هذه المهنة، هل ترضى بذلك؟ - كلا لانها متعبة، ولا يستطيع صاحبها ان يصرف على منزله بسبب غلاء المعيشة·· اي انها لا تطعم خبزاً·· ؟ كم بدل اجرة ساعة عمل؟ - حسب الشغل وصعوبته·· - ''رتّى'' في المصبغة - سعد عياش يعمل كموظف ''رتّى'' في مصبغة، وهو يقول: '' تعلمت المهنة في سوق ''البزركان'' الواقع قرب باب ادريس، وكنت صغيراً بحدود الـ15 سنة· وبعد عشر سنوات عملت في محل افتتحته في منطقة بربور، الا انني قبضت تعويضاً لقاء اخلائه، لأن البناء قديم واقيم مكانه بناء حديث، وعلمت خلال هذه الفترة في منزلي حيث يقصدني بعض الزبائن، الا ان الحال كانت غير جيدة، ومنذ شهرين بدأت العمل كموظف هنا ''رتّى'' في المصبغة''· ويضيف: ''هذه المصلحة محدودة، وقلائل هم الذين يعملون في هذا المجال، وهي تحتاج الى بال طويل وصبر، وان يكون صاحب المهنة يتميز بقوة نظر وبرودة اعصاب، وفي ذات الوقت ''فناناً'' في استعمال الابرة التي تشكل اساس وعدة المصلحة· ومن حيث المدخول، ايام يمكن ان يكون عندك عمل وايام ننتظر زبوناً، وفي السابق كنا نحظى بمدخول شهري لا بأس به، أمَّا الآن فأعيش من خلال ''معاش'' شهري محدود باعتباري موظفاً لا اكثر·· ؟ ما الفرق بين الخياط و''الرتّى''؟ - هناك فرق·· وأكثر الأحيان يقصد الناس الخياط دون أن يعلموا بوجود ''رتّى''، رغم ان عمل كل منهما يختلف عن الآخر، وهذه المصلحة تكاد تنقرض لانها لا تدخل في مجال التعليم المهني، واكثر الذين يمارسونها اما تعلموها بالوراثة، او في سوق ''البزركان''· وانا شخصياً تعلمتها عبر ابن خالتي، كنت ارى كيف يعمل واحاول تقليده، لكني لم اتقن المهنة، الا عندما علمني بيده·· ؟ مَن من الزبائن المعروفين كان يقصدك؟ - في أوائل الستينات، الكثير من الناس كانوا يرممون ملابسهم ذات الأسعار المرتفعة· وفي إحدى المرات ارسل لنا رئيس الجمهورية الراحل كميل شمعون ''جاكيت'' الصيد العائدة له، من اجل ''رتيها''، ويومها كنت لا أزال اعمل في سوق ''البزركان''· وهناك اسماء عديدة وبارزة اخرى· كنا في السابق نقول للزبون، ان تكلفة ''الرتّي'' لاي قطعة اقل شيء ثلاث ليرات، وكانت الليرة ليرة وتعادل اكثر من دولار، وكنا نعيش افضل من الآن، وحالياً لا نستطيع ان نطلب من الزبون السعر العالي جداً، ولكن بدأت الروح تعود للمهنة الآن بسبب الغلاء، والبعض بدأ يفكر في حال ''اهترت'' ملابسه مهما كان نوعها باعادة ''رتيها'' بدلاً من شراء قطعة جديدة· 'شح'' نظري·· ''الرتّى'' محمد الخطيب يتواجد ايضاً في مصبغة يمتلكها صديق له، قال: '' تعلمت المهنة من خالي في سوق ''البزركان''، وكان عمري في العشرينات، وهذه الحرفة كانت مقتصرة على مجموعة اشخاص يملكون محال في سوق ''البزركان''، وهم من آل الحلبي والبرجاوي والحلاق والخطيب·· وصفات هذه المهنة انها تعتمد على اصول ''الحياكة'' وتنسيق الخيطان، وهي مسألة فن وذوق اكثر مما هي صنعة· و''الرتي'' صنفان، هناك ''حياكة''، وهناك ''لحمة''، اي تنزيل ''شقفة'' لاي انواع من القماش او الالبسة، وعلى كل حال المهنة مستمرة الآن، وقد حاولت تعليمها لأولادي، ولكنهم رفضوا لانها متعبة، وهي تذيب النظر· فالنظارات التي معي (6 درجات)، كما ان مدخول المهنة غير مشجع كثيراً''· وختم قائلاً: ''اليوم لا احد يرمي قطعة ملابس، والناس بعضهم يسأل عن ''الرتّى''، والبعض الآخر لا يعرف بوجوده· في اليوم الواحد يمكن ان يأتينا زبون واحياناً يأتي خمسة زبائن، واذا اردت تحديد المدخول الشهري، فهو لا يكفي اطلاقاً بسبب غلاء المعيشة· وتابع: كانت هناك شخصيات سياسية كثيرة ترسل لنا ثيابها كي ''نرتيها''، خصوصاً ايام سوق ''البزركان''، الوزير الراحل هنري فرعون، وعقيلة رئيس الوزراء صائب سلام، النائب عبد اللطيف الزين، والنائب فؤاد لحود وغيرهم· البعض كان يأتي شخصياً الى المحل سابقاً، وبعضهم يرسل اولاده او سائقه''···
المصدر: بيروت
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©