الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كاندنسكي.. أمير الروح

كاندنسكي.. أمير الروح
13 أغسطس 2014 22:07
لمّا يتم الحديث عن الفنان التشكيلي الروسي- الألماني فاسيلي كاندنسكي (16 ديسمبر 1866 – 13 ديسمبر 1944)، الأكثر شهرة في عصره، الذي يُنسب له قصب السبق عن جدارة واستحقاق في تجريد الفن التشكيلي الحديث، ويعد من المجددين والمبتكرين في هذا الفن ومن رواده. وأطلق عليه الدارسون العديد من الألقاب والصفات التي تليق به، فهو «أمير الروح» و «الفارس» نسبة إلى انتمائه إلى مجموعة «الفارس الأزرق» وهي حركة فنية ساهم في تأسيسها. إن نظرة أرهف على المشهد الفني في عصر كاندنسكي تؤكد بأن هذا الأخير لم يبق خاضعاً للمتعارف عليه في الفن، فرفض الأشكال الثابتة كما هو حال الفنان المتطلع للحرية وكسر قيود الماضي، وطريقته لتحرير الفن تمثلت في تجريده، ونتيجة ثقافته الواسعة استوعب التغيرات التي عصفت بالغرب ومنها الفتوحات في الشرق، والتطور الهائل الذي عرفته وسائل الاتصال، وأيضاً الاطلاع على حضارات الشعوب الأخرى، فامتلك منهجاً فريداً في التفكير والتنظير، فجاءت أعماله مزيجاً من الفلسفة والشعر والخط والتصوف والموسيقى. وقد قال النقاد وأعادوا القول فيما يخص روح الشرق الجميلة التي سرت في أعمال كاندنسكي فمنحتها تفرداً وألقاً، هذا الشرق الذي لقي هوى في نفسه، فتأثر بتلك الصبغة الروحية التي تدمغه، سواء تعلق الأمر بالفن الإسلامي أو أجوائه أو دفء ألوانه. وما يؤكد أثر الشرق والموسيقى أيضاً في أعمال كاندنسكي، تلك الألوان التي يسمعها حسب تعبيره، وتلك الخطوط والأشكال الهندسية التي منحت أعماله خصوصيتها وفرادتها، وبما أننا خصصنا هذا المقال لأثر الشرق في أعمال كاندنسكي، فسنترك الحديث عن أثر الموسيقى جانباً رغم أنها تلتقي في تأثيرها على الروح كما الفن الإسلامي وروح الشرق بصفة عامة، وسنكتفي بتخصيص حيز هذا المقال لأثر الشرق عند فارسنا، الذي زاوج بين التنظير والتطبيق ليكون مقنعاً. من الظاهر إلى الباطن ابتعد كاندنسكي بفرشاته عن تمثيل الواقع وتخطى مظاهر الأشياء، فانتقل من الظاهر إلى الباطن، أو من ظاهرية الشيء إلى عمقه الروحي، فلم يخرج بذلك عن روحية العمل الفني ولم يتجاوز أعماقه الخفية، وفعل ذلك من خلال الخطوط والألوان والأشكال التي استثمرها أساساً في أعماله الفنية. فسجل للمخاض الفني للتجريدية الغنائية، وجرد الأشكال من مدلولاتها، فأضحت تترجم ما يمور في روحه من أحاسيس، فجاءت تحمل كينونتها في ذاتها، دون حاجة للشرح والتفسير المتجلي عن طريق عكس الواقع. والفن الأرفع عنده حسب تعبيره، ليس مجرد صدى أو مرآة لزمنه، بل إنه فوق ذلك يملك قوة النبوة والتي تعود بعداً وعمقاً إلى المستقبل. فكيف استطاع أن يجعل روح الشرق وسحره يسريان في أعماله فيمنحانها التميز والتجدد؟ لنحاول، كبداية، القيام بوضع إطار عام لتأثر كاندنسكي بالشرق وفنه وأجوائه، وتبعاً لذلك لابد من طرح سؤال أساسي وهو: كيف استجابت تلك الأجواء الشرقية لأفق انتظاره ولما كان يدعو له؟ وللإشارة فإن عدوى سحر الشرق انتقلت للكثير من فناني أوروبا، ولم تقتصر على كاندنسكي وحده، وتحضرنا هنا الكثير من الأسماء التي شدت رحالها للشرق ملبية نداء جاذبيته التي لا تقاوم، كهنري ماتيس وكلود رونوار وغيرهما كثير. إن سحر الشرق وشمال أفريقيا بصمتهما واضحة على أعمال كاندنسكي الذي لم يستطع أن يظل خارج إطار التجربة ويفعل ما فعله فنانون غربيون آخرون جذبهم الشرق موطن ألف ليلة وليلة وموطن الألوان والشمس والأساطير والأسرار والزخرفة والعمارة والبهارات والتوابل المتنوعة وأزياء الرجال والنساء القشيبة، لقد حاول استنباط جوهر هذا العالم والتشبع بسحره على أرض الواقع فزار تونس بين 1904 و1905، ومصر وسوريا وتركيا سنة1931. أسرار وخصائص إذن ما هي الخصائص التي يتمتع بها الفن الإسلامي ليشكل عنصراً جاذباً لفناني الغرب ومنهم كاندنسكي؟ الفن الإسلامي من الفنون التي استطاعت أن تساير كل العصور، محملة بسحر خاص، وغموض محير وجمال آسر، إنها مميزاتها الرئيسية وخصائصها التي راوحت بين الثبات والتغير، لكن روح هذا الفن ظلت ثابتة، فاتسمت بقوة وسحر لا يتبدلان. هذه الإمكانيات الجمالية التي يتمتع بها الفن الإسلامي من زخرفة وخط وغيرهما، أبهرت فناني أوروبا ومبدعيها، الشيء الذي حدا بالكثير منهم إلى شد الرحال إلى البلدان الإسلامية، وصولا إلى آسيا في بعض الأحيان، للوقوف على أسرار هذا السحر في منابعه الأصلية. إن ما شد انتباه كاندنسكي في الشرق، تجليات الفن الإسلامي بألوانه الصافية، وإيقاعيته وتشكيلاته الهندسية وخطوطه وتلويناته المبهرة وزخارفه ومعماره، وأيضاً الألوان الدافئة والشفافة، وكل هذا ملفوف بغلالة روحية ونورانية تشد البصر والروح وترقى لتلامس المطلق، وقد ترجم كاندنسكي هذا التأثر والانبهار مع فنانين آخرين مجايلين له إلى مدارس واتجاهات فنية، وعبر عن ذلك عبد الكريم الخطيبي بقوله: “التنقيطية والتلطيخية التجريدية أو المنحى الهندسي في الفن، كلها قائمة تشهد هذا التقاطع الحضاري عبر الفن”. وكاندنسكي المبشر بالتجريدية، والعامل على تطبيقها في أعماله، وجد في سحر الشرق وفي الحضارة الإسلامية باعتبارها حضارة العلامة ككل، ما يشبع رغبته وغروره أيضاً لهذا التجريد الذي تُنسب له أبوته، وما أثار اهتمامه بالدرجة الأولى، استقلال الألوان، وقوة الزخرفة والخطوط الهندسية في تداخلها ولا نهائيتها. ومن ثم فإن التجريدية والمنحى الهندسي والألوان الدافئة في أعمال كاندنسكي التشكيلية تأكيد لا يقبل الشك على التقاطع الحضاري المثير بين الشرق والغرب عبر الفن، وهو تقاطع يبرهن على حوار الحضارات، ولقد تعامل كاندنسكي بذكاء مع مميزات الشرق فتمكن من إخضاعها لروح عصره، إذن كيف تجلت روح الشرق في أعمال كاندنسكي؟ الصفاء والتجلي إذا بدأنا حفريات مع المؤرخين والدارسين في تاريخ كاندنسكي الإبداعي للاستدلال على دعوته للتجديد في مجال الفن ستفاجئنا إنجازاته الفنية المتمثلة في لوحات من ميزاتها بقع الألوان والخطوط المتفجرة والمتشذرة وتجريد الأشخاص والأشكال ولمسة واضحة من أثر الشرق. وثمة ما يميز تجربة كاندنسكي ويؤكد مقولة تأثره بسحر الشرق، تلك الأشكال الهندسية، أو الحدود الهندسية الحرة كما يسميها، والتي لا ترتبط بالأشياء، فهي تثير حسب تعبيره انفعالات عدة تماماً كاللون، وهذا ما يمنحها حريتها ومرونتها، وفي الوقت نفسه تبرهن على الحوار السري بين الشرق والغرب، حيث الزخرفة المجردة التي زين بها المسلمون المساجد والقصور والدور وغيرها، وهي زخرفة تنهل من معين لا ينضب من الأشكال الهندسية التي بلا بداية وبلا نهاية، تأثر بها كاندنسكي ومعه فنانون آخرون غربيون ومنهم بول كيلي. وأيضاً هذا السحر الشرقي لم يقتصر على الأشكال الهندسية، وإنما تجاوز المباشر المادي إلى ما هو روحي، أو تجاوز الشيء إلى عمقه، والجدلية اللونية عنده يسمها الصفاء والتجلي، فهو لا ينزاح عن الأشياء أو يتجرد عنها، وإنما يغوص إلى جوهرها ليستخلصه، فلم يخضع للبيئة الفنية التي أحاطت به في تلك الفترة والتي اتسمت حسب تعبيره بالمحافظة وضيق الأفق، وإنما بحث عن مصادر إلهام تغني تجربته التي تمثلت في استكشافه لسحر الشرق. والاطلاع على أعمال كاندنسكي يؤكد مقولتنا بما لا يقبل الشك، ففي لوحته “الحياة بالألوان” 1907، نقف على زخارف وألوان مستوحاة من دفء الشرق وسحره، والشخصيات يتأكد انتماؤها لهذا الشرق حيث النساء يرتدين الحجاب والرجال يتزيون بالزي العربي، وأيضاً يبدو تأثير المنمنمة واضحاً على اللوحة وبالخصوص في اختيار الألوان والخطوط والشخوص. وعمله المحفور على الخشب “عصفوران” 1097، تتجلى فيه خطية واضحة مستوحاة من روحية الخط والزخرفة العربيين، وتطور الأمر عنده في لوحة “رفوف” 1929، التي استثمر فيها بعض الحروف العربية، وتبدو كذلك بصمة الخط العربي واضحة في بعض أعماله من خلال حركة الخط وانسيابيته كما هو الأمر في الخط العربي. وكما عند الفنان المسلم، نجد كاندنسكي أيضاً يملأ الفراغ من خلال مهرجان لوني وشكلي يغطي به مساحة اللوحة، وقد وصف جوزيف أميل مولر هذه الألوان بكونها اكتسبت عظمة تستحق أن تنعت بشرقية. ومما لا يقبل الشك في توجه كاندنسكي الروحي والصوفي، إيمانه بكون التجريد في الفن لا ينفي الطبيعة كما يدعي البعض، لكنه يغوص في عمق أعماقها ليستخلص جوهرها، لتصل إلى مستويات روحية، يدرك الوجدان خلالها الذات الإلهية بقلبه أولا، فيقود الفكر التجريدي العقل إلى الفكر الصوفي الذي يسمو بالروح للكشف عن نور الله الكامن بداخلها. وهذا يجعلنا نتأكد بأنه ليس من المدهش في شيء إذا طالعنا تميز تجربته بتركيزه على الإيقاع الداخلي للمواضيع التي تناولها. وبذلك يكون فاسيلي كاندنسكي قد أغنى تجربته الفنية بما أضافه لها من سحر الشرق، هذا الشرق الذي بغناه الروحي والفني قد لقي هوى في نفس الفنان الداعي لتجريدية الفن التشكيلي، فجاءت أعماله مشبعة بأجوائه وبألوانه وبأثر فنونه، هذه الأخيرة التي تتسم بالتجريد، وبذلك تكون قد سبقت التجريد الغربي بقرون عديدة، فكان ذلك سر جاذبيتها لتكون مصدر إلهام للفنانين الغربيين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©