السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

حبيب زيات يغوص عميقاً في تاريخ وأحوال صناعة النشر والطباعة

24 يوليو 2013 23:45
جهاد هديب (دبي)- «كان المتنبي يكثر زيارة سوق الورّاقين، ومطالعة ما يقع فيها من محاسن المؤلفات، أخبر ورّاقٌ كان يجلس إليه قال: «ما رأيت أحفظ من هذا الفتى ابن عبدان (المتنبي الفتى)، كان اليوم عندي وقد أحضر كتاباً من كتب الأصمعي يكون نحو ثلاثين ورقة ليبيعه فأخذ ينظر فيه طويلاً، فقال الرجل: يا هذا أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك فإن كنت تريد حفظه من هذه المدة فبعيد. فقال: إنْ كنت حفظته فما لي عليك؟ قال أهب لك الكتاب، قال الورّاق فأخذت الدفتر من يده فأقبل يتلوه إلى آخر ثم استلبه فجعله في كمّه، فقام وعَلِقَ به صاحبه وطالبه بالثمن فقال: ما إلى ذلك سبيل قد وهبته لي فمنعناه منه وقلنا له أنت شرطت على نفسك هذا للغلام فتركه عليه». تُؤْثَر هذه الحكاية عن أبي الطيّب المتنبّي، مثلما وردت عليه في الكتاب الشهير تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، كما أنها وردت لدى الكثير من المؤرخين في سياقات مختلفة، كما هي الحال في كتاب «الوراقة وصناعة الكتب ومعجم السفن» والذي ليس سوى ثلاثة أبحاث كان المؤلف قد نشرها في واحدة من أقدم الدوريات العربية التي كانت تسمى «المشرق» وصدر العدد الأول منها في شهر يناير من العام 1898، أي في السنة ذاتها التي صدر خلالها العدد الأول من مجلة «الهلال» في القاهرة، ثم جُمعت هذه الأبحاث الثلاثة لقيمتها التاريخية والأدبية والمنهجية في كتاب حمل العنوان المشار إليه عن دار الحمراء للطباعة والنشر البيروتية العام 1992. السياق التاريخي هنا الذي يورد فيه حبيب زيّات الحكاية ليس أخبار الشعراء بل الأحوال المتقلبة للوراقة والوراقين وصناعة الكتابة في الحضارة العربية والإسلامية كما جاءت عليه في المصادر التاريخية العربية. أي أن الكتاب باثنين من مقالاته المطوّلة يغوص عميقاً ونقدياً في أحوال صناعة النشر والطباعة مثلما كانت عليه، دون أن يلجأ الباحث إلى التصنيف الكرنولوجي الكلاسيكي للتاريخ العربي والإسلامي بدءا من ما قبل الإسلام فظهوره ثم دول الخلافة ما بين دمشق وبغداد، بل نحى في الكتاب منهجاً مختلفاً يقوم على تصنيف المعرفة بصناعة الكتابة والوراقة مثلما كانت عليه بوصفها حرفة ومهنة وليس بوصفها مرتبطة بشخص خليفة أو وليّ أمر. ومن خلال السطور، يبدو أن الباحث زيّات لا يفصح عن موقفه من هذه الحكاية أو تلك، ولا يرجّح رواية أحدهم على أخرى، الأمر الذي ملأ الكتاب بالكثير من الحكايات، التي من الممكن تصديقها وتلك التي غير ذلك، إلا أنه أبقى لمقالاته صفة الطرافة التي تمنح المعرفة «المملحة» بالحكايا والنوادر التي اقترفها أهل هذه الحرفة في فترات ازدهار الحضارة العربية والاسلامية، وحتى في فترة نشوء الدول– المدن. وبدءاً ينقل المؤلف تعريفاً للوراقة ينسبه لابن خلدون، يلفت الانتباه فيه ارتباط هذه المهنة بالمعاناة فيقول: «إنها (أي الوراقة) معاناة الكتب بالانتساخ والتجليد»، أما الوراقون فهم: «الذين يعانون انتساخ الكتب وتجليدها وتصحيحها». فيشير الكتاب إلى الكثير من المثقفين في أزمنة عربية مختلفة من الذين ارتبطوا بهذه المهنة كان يُنظر إليهم إلى أنهم أدنى من سواهم، بالمعنى الطبقي الصريح للكلمة وخاصة من أصحاب السلطة الذين لا يتوانون عن توجيه الإهانة إليهم أمام الملأ كما هي الحال مع «أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء» أبي حيّان التوحيدي إذ يروي في كتابه أخلاق الوزيرين أن أقبل إلى الوزير الصاحب ابن عبّاد «بأمل فسيح وصدر رحيب فقدم له رسائله في ثلاثين مجلدة على أن ينسخها له، فقال التوحيدي: «إن نسخ مثلها يأتي على العمر والبصر. إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب وزاحمت منتجِعي هذا الربيع لأتخلص من حرفة الشؤم» ويقصد حرفة الوراقة والكتابة، ثم يقول في موضع آخر من الكتاب ذاته: «طلع ابن عبّاد عليّ يوما وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئاً قد كان كادني به فلمّا أبصرته قمت فصاح بحلق مشقوق: «اقعد فالورّاقون أخسّ من أنْ يقوموا لنا» وبدوره يعلق حبيب زيّات على هذه الحادثة بالقول: «وحقّ لأبي حيّان، على ما اشتهر به من سعة العلم وبلوغه الغاية من الفصاحة والبلاغة، ومع ما طُبع عليه من الولع بالنقد واللذع، أنْ يضجّ من نكد الوراقة إذا كانت قاصرة على رزق الكتبة من شقّ تلك القصبة، كما قيل في ذمّ حرفة الأدب»، ويورد المؤلف أكثر من حادثة عن هذا الوزير الذي كان يُحسن الردّ بصفاقة واستخفاف على حاجات أهل العلم في زمانه. ولم يقتصر الأمر على التوحيدي فحسب، بل واجه المصير ذاته الوراق الأبعد صيتاً من سواه وهو المؤرخ محمد بن إسحاق النديم صاحب «الفهرست» وكذلك ياقوت الحموي صاحب المعجمين: معجم البلدان ومعجم الأدباء، مع ذلك الوزير الذي لا يذكره التاريخ الآن إلا راجماً أحد رجال العلم بالكذب والافتراء عليه بعد رحيله: «كان رحمه الله وعفا عنه رومي الجنس، أُسر صغيراً وابتاعه ببغداد تاجر يُعرف بعسكر الحموي وجعله في الكتّاب لينتفع به في ضبط تجارته... ولما كبر ياقوت هذا قرأ شيئاً يسيراً من النحو واللغة وشغّله مولاه بالأسفار في متاجره فكان يتكرر إلى كيش والشام، ثم جرت بينهما نبوة اقتضتها الحال فعتقه وأبعده عنه فاشتغل بالنسخ بالأجرة وحصّل بالقراءة فوائد اقتضاها فهمه على عسر كان في فهمه ومكابرة كانت في خلقه». غير أن ما هو مثير للاهتمام ها هنا أن هؤلاء المثقفين الثلاثة، الذين ماتوا ميتة الفقر والعوز، قد ظهروا معا في أواخر القرن العاشر ومطالع الحادي عشر الميلاديين، أي في القرن الخامس الهجري، ذلك القرن الذي يُعدُّ واحدا من أكثر عصور الأدب العربي ازدهارا على الإطلاق وحتى اليوم، وفيه ظهرت نوابغ كثيرة في الثاقفة العربية والاسلامية في الشعر والأدب ونقدهما وسوى ذلك من الفنون والعلوم والترجمات من اللغات الحية والثقافات المجاورة. أيضاً أفرد حبيب زيّات في «الوراقة وصناعة الكتب ومعجم السفن» بابا خاصا بالشعراء الورّاقين الذين يوصفون، في أغلبهم وفي بعض المصادر التريخية دون غيرها بالمجّان والخلعاء، وينقل عنهم من تلك المصادر حكايا طريفة مثلما ينقل بعضا من ما تبقى من أشعارهم، غير أنها أشعار، في وصف الخمر والغلمان وازدراء مهنة الشؤم، كما سمّاها التوحيدي، لا ترقى إلى ما أُثر عن أبي نوّاس مثلا أو ديك الجنّ الحمصي أو سواهما من الشعراء الذين باتوا يُعرفون في النقد الأدبي الحديث بالصعاليك، ولو كانوا من المحدَثين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©