الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إنه التراب

26 أغسطس 2006 02:43
هل يمكن أن ينمو الحب ويتفتح مثل الورد الجوري في نهارات الحروب ولياليها الدامية؟ هل له مكان؟ هل له صوت؟ هل يرد الكف بقبلة، ورصاصة القناص بسهم من مخمل الشام؟ هل نصادفه في عتمة الملاجىء المكتظة بالخائفين واللاهثين وراء خبر يصدقونه رغم أنوفهم ليخرجوا الى النور؟ حكايتنا اليوم ليست حكاية حب عادية، مع التأكيد بأن كل قصص الحب غير عادية· هي قصة حب مبتدؤها مع صرخة النفس الأول وتداعياتها أبدية· ليست حكاية من الملاحم الإغريقية، ولا من أدب روميو وجولييت، او عبلة وعنتر او ليلى وقيس بن الملوح··· حكاية حب آخر هي، قد تدرس في الإبتدائيات والثانويات والجامعات، ويمكن الا تدخل المناهج التعليمية، ولكن يعيشها الكبير والصغير ما ان يمس طرف مدينة لهم بسوء· اسم الحكاية: حب الوطن· ذات يوم، جلست مجموعة من التربويين والشعراء والكتاب الصحفيين وأطباء في علم النفس في بلد نكب بحرب أهلية، كره خلالها المواطنون بعضهم بعضاً وقتلوا بعضهم بعضاً باسم حب وطن، هو-الوطن- من ذلك الحب براء· السؤال المطروح على جدول الأعمال كان: كيف نعلم أولادنا حب هذا الوطن، وأين؟··· في البيت؟ في المدرسة؟ في الشارع؟ في فصول التربية الوطنية···أين؟ كان يجلس بين الحاضرين أستاذ ابن فلاح· طيلة فترة النقاش لم يتفوه بكلمة، وقبل ان ينفض الجمع دون التوصل الى حل جازم وقاطع ونهائي للمشكلة···وقبل ان تدخل المقترحات والتمنيات والتوصيات الأدراج الحديدية الى غير رجعة، تململ وطلب الكلام بحياء··· قال: عندما كنت صغيراً لم يكن في قريتنا مدرسة إبتدائية، ولكن كان لدينا استاذ· كان الأستاذ يجمعنا ونحن حوالي 20 صبياً وفتاة، تحت شجرة وارفة ايام الربيع والخريف، وفي غرفة العلف الدافئة ايام الشتاء· ايام الربيع والصحو كان يأمرنا بالإمساك بأوراق الشجر وبجذوعه، بالتراب الذي يحيط بنا، بالورود والتفاح وأوراق التبغ، بحبات الزيتون وعروقه وغصونه، بالأقحوان الأحمر و''السيكلما'' البنفسجية المنعشة· كنا نلتقط الضفادع من الساقية الصغيرة وأحياناً نأخذ خبزنا وحبات الزيتون والبيض المسلوق ونرحل صوب النهر، نعمد أنفسنا بمائه، ونشرب ونشرب ولا نرتوي· كان الأستاذ يتكلم بشبق محب، والكل منصت ··· وماذا بعد هذه الخطبة؟· توقف الأستاذ للحظات واستطرد ··· الحل برأيي هو ان نسمح لأولادنا، حب الوطن· وقبل ان يتلقى الهجوم من أساطين التربية والتعليم أردف بسرعة: أقترح ان يخصص يوم في الأسبوع تنتقل فيه الصفوف من حرم المدارس الى مدرسة الطبيعة· دعوا الأطفال يمسكون التراب ويشمونه ويوسخون مرايلهم وكتبهم به· عرفوا ابن الشمال على تراب الجنوب وبحره وزيتونه وتينه، وابن الجنوب على شجر الصنوبر ورائحة وحل الشمال· أطلقوا اولاد المدن في البراري واتركوهم يتسلقون الجبال ليصلوا الى أحراش الصنوبر· دعوهم يستمعون الى اناشيد الصفصاف، ليركضوا خلف الفراشات وعصافير الدوري· خذوهم الى سهول القمح ليلمسوا جذور الرغيف· خذوهم الى الشواطىء والينابيع ليكتشفوا ان الماء لا يولد في زجاجات زرقاء، وان السماء هي نيل البحر ولونه··· عندها لن يفارق الحب - الوطن··· الحب الذي يجمع ويضم ويحضن· اليوم تعود المدارس وتفتح ابوابها هنا، في بلد عرف مؤسسه ''رحمه الله''، أسرار الحب الحقيقي، فدعى الى تربية الأجيال بيئياً قبل تعليمهم الحرف· وبالتالي مازالت معادلة الحب تحمي اسواره من حقد وشر· في لبنان وفلسطين والعراق، مئات الآلاف من الأطفال لن يلتحقوا هذه السنة بالمدارس ولن تسمع الصفوف ضوضاءهم، ولن تشهد الألواح السوداء الكبيرة خربشاتهم ورسومهم المميزة· في لبنان تحول ما تبقى من مدارس الى مأوى كبير· وفي العراق تخاف الأمهات من سير أطفالهن على الطرقات خوفاً من القنابل العنقودية البشرية التي تغتصب حيوات المارة على كيفها· اما في فلسطين، فالبحث عن الأطفال لتسجيلهم في المدارس لا يزال جارياً··· فأطفالها ولدوا حسب قانون الغاب الحاكم···شهداء· قصة هذا الحب تبدأ من رحم التراب، عليه تعاش··· وفيه تحيا· نورا فاخوري
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©