الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جارتنا العجوز

جارتنا العجوز
26 أغسطس 2006 02:39
سعاد جواد: امرأة عجوز نسيها الزمن فتراكمت عليها السنين بلا عدد محدد· تعلو رأسها كومة من الصوف الأبيض المنكوش تتخلله فراغات تظهر جلدة الرأس بوضوح· وجهها مليء بالتجاعيد والنمش· تعيش وحيدة ولا أدري لم كرهتنا تلك العجوز من أول نظرة! شاءت الظروف أن نسكن في منزل مجاور لمنزلها، أنا وزوجي وأطفالي الثلاثة، أكبرهم في الخامسة من عمره تليه أخته وهي في الرابعة أما الأصغر فهو في الثالثة· اصطحبنا زوجي معه إلى تلك الدولة الغربية بغرض استكمال الدراسة العليا· بقيت تلك العجوز تتلصص من شباكها ومن الباب عندما كنا نرتب أغراضنا وأمتعتنا· لاحظت وجودها واستعذت بالله من شر ما قد يحدث في المستقبل· لدى تلك العجوز كلب صغير له ملامح قريبة جداً من ملامحها· جلده متهدل على شكل طبقات تغطي وجهه فلا يمكن أن ترى عينيه بوضوح· في اليوم الثاني من وصولنا نهض الأولاد مبكرين وأطلقوا ضحكاتهم وكلماتهم المبتهجة بالمنزل الجديد· اخذوا يتقافزون هنا وهناك مستكشفين أرجاءه· كنت مسترخية على فراشي بينما كان زوجي لا يزال نائما· فجأة شعرت بأن صوت الصغار قد انقطع فاستغربت لذلك· ساد الهدوء لدقائق ثم انطلقت صيحات الفزع منهم وجاءوا نحوي مسرعين وهم يصرخون -جنيّة··· جنيّة عجوز- ذهبت مسرعة بالاتجاه الذي أشاروا إليه فوجدت شباك المنزل المجاور مفتوحا والعجوز قد أخرجت رأسها منه وهي غاضبة· ابتسمت لها وحاولت أن أعتذر عن خوف أولادي منها معللة ذلك بأنها ربما قد فاجأتهم ففزعوا منها· لم تستمع لما قلت وبادرتني بسيل من السباب والشتائم وأغلقت شباكها بقوة· عدت لصغاري وطمأنتهم إلى أن تلك المرأة ليست جنيّة وإنما هي عجوز مسكينة تعيش لوحدها· وهي ربما قد انزعجت بسبب صراخهم· لم يقتنع الصغار بما قلته لهم وبقيت صورة تلك المرأة مخيفة بأذهانهم تثير في نفوسهم الفزع· وصاروا يعيدون تمثيل مشهد خروج رأسها من الشباك بشكل مفاجىء وصراخها الغريب الذي أفزعهم· وصاروا يخافون من مجرد الاقتراب من تلك النافذة التي تطل على منزل العجوز وأخذوا يطلقون عليها اسم (بيت الجنية) فلا يرضى أي منهم المرور بتلك النافذة حتى لو سقطت كرته أو إحدى ألعابه قربها· المواجهة الثانية خرج الأولاد يوما ليلعبوا في الحديقة الصغيرة التابعة لمنزلنا· فشاهدوا كلب العجوز وهو يمشي بكسل قريبا منهم· ببراءة أخذ الأولاد بمداعبة الكلب بأصوات وتصفير دون أن يفكروا بالاقتراب منه لأنهم يخافون الكلاب·· ولم يسبق لهم أن شاهدوا كلبا حقيقيا إلا من خلال شاشة التلفاز· يبدو أن ذلك الكلب أراد أن يعبث قليلا مع الصغار فتقدم نحوهم خطوات لكنهم فزعوا منه وتراجعوا نحو باب المنزل· عرف الكلب بأنهم يخافون منه فتقدم بجرأة نحوهم وهو ينبح بصوته المبحوح المتحشرج· ارتعد الصغار وصرخوا خوفا منه· فخرجت العجوز وصارت تلاحقهم بعصاها وهي تنوي ضربهم· أدركتهم في الوقت المناسب وأدخلتهم إلى المنزل بسرعة وأغلقت الباب، فبقيت تلك العجوز تضرب الباب بعصاها وهي تسب وتشتم حتى تجمع بعض المارة وصاروا يستمعون إليها ثم انصرفوا كل إلى حال سبيله، وقد أصبت أنا وأولادي بالفزع الشديد خوفا مما يمكن أن يفعلوه بنا أثناء غياب زوجي· فكرت أن أكسر حدة التوتر الحاصل بيننا وبين جارتنا لأزيل سوء الفهم ولأخفف الخوف الذي يشعربه أولادي من تلك المرأة· اشتريت زهورا وذهبت إليها قاصدة التصالح معها وإفهامها بأننا لا ننوي شرا نحوها، وأفسر لها الالتباس الذي حصل بسبب ذلك الكلب، فلربما اعتقدت بأن الأطفال قد آذوا كلبها أو فعلوا شيئا أغضبه· وقفت أمام بابها وضربت الجرس، فلم تفتح لي الباب· شعرت بها وهي تتلصص علي من فتحة العين السحرية فرفعت باقة الورد أمامي لكي تتأكد بأنني لا انوي إلا الخير ولكنها لم تفتح الباب· قلت لها: أيتها الجارة لقد جئت إليك معتذرة عن كل ما حدث وأود أن نبدأ صفحة جديدة لعلاقة طيبة بيننا وبينك· نحن لا نكرهك··· أنت امرأة طيبة· فتحت العجوز الباب وأطلت برأسها وصارت تخاطبني بكلمات السب البذيئة· تماسكت وقدمت لها الورد فسحبته من يدي وقذفته على الأرض وهي لا تزال تسب وتشتم ثم أغلقت الباب بوجهي· شعرت بحرج كبير وتمنيت لو أنني لم أقم بتلك المبادرة التي عرضتني لموقف سخيف جداً· بعدها طرحت على زوجي فكرة تأجير منزل آخر حتى لا نتعرض إلى المزيد من المواقف المحرجة والسيئة مع هذه الجارة غريبة الأطوار· لم يكن الأمر سهلاً، فعقد الإيجار لم ينته بعد ويجب أن نصبر حتى ينتهي العام بأكمله وإلا سيضيع علينا الإيجار السنوي الذي دفعناه وهو بالطبع مبلغ كبير· لذلك قررنا الصبر واحتطنا لعدم إثارتها في شيء، ولكنها لم تنته من مخططاتها التي ترمي إلى تطفيشنا من هذا المنزل· نهاية مسلسل العداء قامت تلك العجوز برسم الخطط لإفزاعنا، فبمجرد خروج زوجي من المنزل تبدأ بالدوران حول المنزل هي وكلبها ثم تقوم بالضرب على الباب أو نقر الشباك بعصاها ثم تختفي··· أو أنها ترمي قطع الحصى على زجاج الشباك، أو تترك كلبها يعوي عند الباب لفترة طويلة· لم يكن سهلا علي ترك أولادي ليتحملوا كل تلك المضايقات فأقنعت زوجي بترك البيت وتأجير منزل آخر مهما كانت الخسائر المادية المترتبة على ذلك، ولكن حدثت أمور غير متوقعة إطلاقا· فجأة اختفت تلك العجوز ولم تعد تصدر عنها أية فعاليات لثلاث أيام متتالية· كان الأمر غريباً، فهل يعقل أن تترك منزلها بشكل مفاجئ هكذا؟ والى أين يمكن أن تذهب؟ فطوال الأشهر التي عشناها بجوارها لم نجد أحدا يدخل منزلها أو يسأل عنها· شعرنا بالقلق أنا وزوجي··· فلربما تكون قد ماتت ولا احد يدري عنها! ومما زاد في قلقنا عواء كلبها بشكل غريب وكأنه يطلب المساعدة· عندها قررنا الاتصال بالشرطة لمعرفة ما يحدث لتلك المرأة· جاء رجال الشرطة وقاموا بكسر الباب بعد أن ضربوا الجرس لمده طويلة ولم يفتح أحد الباب· دخلوا إلى المنزل فوجدوا العجوز راقدة على السرير تصارع الموت من شدة المرض· أسرعوا بنقلها إلى المستشفى وأدخلت في قسم العناية المركزة وهي فاقدة الوعي تماما· تابع زوجي حالتها لعدة أيام ثم بعد أن أخبره الأطباء بأن صحتها قد تحسنت اطمأن عليها وطلب من المسؤولين إبلاغ ابنتها الوحيدة عن حالتها كي تقوم بواجبها تجاهها فإن ذلك سيساعدها على الشفاء بشكل أسرع· بعد أيام أخبروه بأن ابنتها قد أبلغت بحالة الأم وأنها تعتذر بشدة لانشغالها بعملها· تأثرنا أنا وزوجي لحال تلك المرأة وطلبت منه السماح لي بزيارتها والاطمئنان عليها فوافق على ذلك وصار يجلس مع الأولاد عند ذهابي لزيارتها· صداقة جديدة بصعوبة استعادت المرأة عافيتها، وقد أدركت بأننا أنا وزوجي كنا نزورها ونرعاها طوال فترة غيبوبتها فصارت تنظر نحوي بانكسار شديد وتشد على يدي في حين تعجز كلماتها المتقطعة عن إبداء كلمات الشكر والامتنان· تواصلت معها الى ان خرجت من المستشفى وعادت إلى بيتها وهي في صحة جيدة· عندها أقمنا لها وليمة طعام شرقي أنا وزوجي وأولادي· كانت المرأة سعيدة بشكل كبير ولكنها كانت متحفظة معنا يسايرها خوف مجهول منا· لذلك قررت عدم التمادي معها كثيرا وتركها لتعيش كما تحب دون أن أفرض نفسي وصداقتي عليها· فقط صرت اسلم عليها من خلال النافذة وأقدم لها بعض الأطعمة واشتري لها زهوراً كلما سنحت الفرصة لذلك· في أحد الأيام أشارت لي من نافذتها أن احضر إلى منزلها فأسرعت إليها· أخبرتني بأنها بانتظار زيارة ابنتها الوحيدة التي اتصلت بها وأخبرتها بأنها ستزورها· وطلبت مني إعداد بعض الأطعمة لها فقمت بإعداد ما طلبت وساعدتها على تنظيف المنزل وتجهيز المائدة· وقد كانت العجوز في غاية الفرح والسرور· بقيت أراقب منزلها وقد شدني الفضول لرؤية ابنتها· طال الانتظار والعجوز تجلس عند النافذه تغفو وتصحو ولا أحد يأتي··· حتى غالبها النعاس فذهبت إلى سريرها ونامت· تأثرت كثيراً لذلك الموقف وتحدثت مع زوجي باستغراب عن عقوق الأبناء في هذا المجتمع وقد كنت بحاجة لمعرفة السبب الحقيقي وراء ذلك، فأخبرني بأن العقوق يبدأ من الوالدين أولاً··· فهم يمتنعون عن الإنفاق على أولادهم في سن مبكر ويتخلون عن مسؤوليتهم تجاههم ويطالبونهم بالاعتماد على أنفسهم في العمل وتوفير السكن· هذا التخلي يولد الجفاء في قلوب الأولاد· فهم يتربون بعيداً عن ذويهم ويتحملون المسؤولية بشكل مبكر جداً مما يجعلهم بلا تواصل مع ذويهم فتكون قلوبهم جافة قاسية لا تعرف الرحمة· في اليوم التالي استيقظنا على صراخ وأصوات تكسير وتهشيم تنطلق من منزل جارتنا، فأسرعنا إلى الشباك لنجدها في حالة هيجان وثورة تصرخ وتكسر الأواني والأشياء· أردت أن أذهب إليها فمنعني زوجي من ذلك خوفاً من أن تكون المرأة قد فقدت عقلها فترميني بشيء يؤذيني وهي لا تشعر· وقام بالاتصال بالشرطة وإبلاغهم بما يحدث لها· جاء رجال الشرطة وأخذوا المرأة في سيارة الإسعاف إلى المستشفى وهي في حالة هستيرية غريبة· عاد الخوف والفزع الى نفوس أولادي من جديد بعد أن شاهدوها على هذا الشكل· وقد واجهنا أنا وزوجي صعوبة بالغة لإقناعهم بأن المرأة مسكينة وهي ليست مجنونة وإنما هي غاضبة ومتضايقة وتعاني من أمراض كثيرة تؤثر على نفسيتها· لم يقتنع الأولاد بسهولة وصاروا يتحدثون عنها بخوف كما كانوا يفعلون ذلك من قبل· بعد يومين من ذلك الحادث جاءت امرأة شابة إلى منزل العجوز وأخذت تطرق الباب فذهبت إليها لأخبرها بأن العجوز في المستشفى· سألتها عمن تكون فقالت إنها ابنتها· رحبت بها وأدخلتها منزلي وحكيت لها الحالة التي مرت بها أمها بسببها· فقد تأذت كثيرا لأنها لم تحضر إليها كما وعدتها··· وصرت ألومها على تصرفها مع أمها· تصورت بأن الابنة ستتأثر لهذا الذي حدث لأمها··· ولكنها سكتت قليلا ثم شكرتني على اهتمامي واعتذرت منصرفة لأنها مرتبطة بعمل ووعدت بأنها ربما ستمر على والدتها في المستشفى لتطمئن على حالتها قبل العودة إلى البلدة التي تسكنها· على الرغم من كل ذلك فقد كنت سعيدة لأن العجوز سترى ابنتها ولربما سيساعدها ذلك على استرداد عافيتها ولكني فوجئت عند زيارتي لها بعد أيام بأن العجوز قد ماتت لوحدها دون أن تكون ابنتها إلى جوارها· رحلت تلك المسكينة وهي وحيدة ومحطمة ويائسة·· كم هي بشعة تلك العلاقات الاجتماعية التي يعيشها هؤلاء الناس· أحمد ربي ألف مرة لأنني لست منهم وأنني أعيش في مجتمع يحاسب فيه الإنسان على أرحامه حسابا شديدا في الدنيا والآخرة· بعد أيام من وفاة العجوز سمعت جلبة وضوضاء في منزلها فنظرت من الشباك فوجدت ابنتها وهي تهيئ المنزل لتسكن فيه· شاهدتني وسلمت علي فرددت تحيتها وبداخلي شيء يرفضها· لقد أصبحت هي جارتنا الجديدة بعد أن ورثت البيت عن أمها فجاءت لتستقر فيه بعد أن رتبت نقل عملها لهذه البلدة· أشعر بأن الزمن سيكرر نفسه وستبقى هذه المرأة في نهاية المطاف وحيدة بهذا المنزل متوحشة ومستوحشة تتصرف بغرابة كما كانت تفعل أمها وستموت وحيدة أيضا، دون ان يأسف على موتها أحد·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©