الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

يصدأ الذهب ولا يصدأ الشعر...

يصدأ الذهب ولا يصدأ الشعر...
27 يوليو 2011 19:26
حاملاً روحه الموزعة بينهنَّ يمضي الشاعر العربي السوري علي كنعان في مغامرة البوح، يقول القصيدة لتقوله لكنهما يبقيان، هو وقصيدته، عصيّان على القول. أما هنَّ المقصودة هنا فليست بنات الخيال ولا أولاده حتى، بل بلاد ومدن ونساء من لحم ودم ووجع يغلي في الشرايين. هنَّ الواردة هنا بكل هيبتها وتجليها الشعريين هي: الشام وفلسطين ولبنان والعراق والجزائر وأبوظبي وكل المرتحلات الجغرافية التي نزل فيها الشاعر ونزلت في محل ما من قلبه وقصيدته، وهي القصيدة بكامل أنوثتها وجمالها إذ تعبر أفياءه وتبني فيه خمائل من ياسمين دمشقي لا يمنع ورود العروبة من أن تتفتح إلى جانبه. وهي التجربة اليابانية بكل أهميتها التي تبدو للشاعر مثل طيف غازلة ذات قصيدة واستقر في روحه الباحثة عن جغرافيتها وفراديسها الغاربة... وهي المرأة بكل جوّانياتها ودواخلها وهواجسها وسرّانيتها التي تتهدّل بشفافية بين الكلمات... كلهنَّ موجودات بكامل حزنهنَّ وألقهنَّ ومتعتهنَّ الغائبة او الغاربة. كلهنَّ حاضرات بالتمام والكمال، لا ينقص من حضور هذه حضور تلك، لكنها القصيدة تضيق أحياناً عن سراباتهنّ وجمالاتهنّ وحتى خيالاتهن المضمخة بروائح الغربة ووجوه الموت فتجترح أمداء أخرى فسيحة، وتذهب إلى قافيات متحولات تخترع من خلالهنَّ سحراً إضافياً يعليهنَّ أكثر وينبئ بتحولاتهنَّ على النحو الذي يرضيه. تلك توليفة عشقية لا يتقنها إلا شاعر عاشق مثل علي كنعان، يوزع جسمه الشعري في جسوم كثيرة، في نوع من الكرم الشعري (الحاتمي) لا يبزّه إلا كرمه الإنساني العابق بروائح الوفاء للأصدقاء الغائبين. كائنات الشاعر لا تبدأ جسوم علي كنعان/ مجراته الشعرية الصغيرة بالمرأة التي تشهدها القصيدة وتشهد لها، وتشهق بها.. ولا تقف عند تخوم الأصدقاء الجميلين الذين يحضرون بكل غياباتهم وبهائهم في المتن ويسطون على الهامش ليصبحوا شيئاً من روح الشاعر ودمه وشهادة، تشبه شهادته، على مرحلة لم تمنحهم سوى المرارة والخيبة التي أتقنت الحياة إنضاجها على نار الهزائم. بل تكتمل كائنات روحه، صغيرها وكبيرها لترمح في براري اللغة، ريانة، نديانة، محمولة على ذاكرة وفيَّة، تصرح وتلمح، تخفي وتظهر، وتنام على مقول كثير يلتف في بياض الورق وفي بياض روحه التي ترفُّ في جميع قصائده. وللقصيدة أيضاً اجتراحات أخرى بعيدة، تنقب في أقانيم الكلام عما يجعل القول شعرياً، والمسرود مرئياً، والمعنى الآتي على جناحي فكرة مجنونة وإن كان عابراً قابلاً للحياة في كلام (غير عابر). في كونه الشعري الخاص يؤلف كنعان بين كائناته بعد أن يزيل عن وجهها كآبات رحلة مضنية، ويحررها من شرائع العادي واليومي ليطلقها الى مدى يحفل بالحياة والمحبة. تلك معادلة أولى في شعره: لكي تحظى أي حالة شعرية بشرف القصيدة عليها أن تقدم له العهود والمواثيق على أنها مجزية، غير عبثية ولا مجانية، من هنا يبدأ رحلته التجريبية المحسوبة في جسدها مثل جراح ماهر، يستخرج الحي ويرمي الميت والسَّقَطْ، ويشيد مما تبقى جسداً يانعاً يصبه في قالبه اللغوي والفني وصياغاته البصرية العالية معلياً شأن السؤال، ثاقب البصيرة، مرهف الحس، قابضاً على جمر النار الشعرية التي ينفخها في قصيدته لتحيا. والمرأة عنده درّة القصيدة وتاجها؛ فهي السرّ الوجودي الأعمق، وفيها وفي تحولاتها وصورها يتجلى هذا السرّ راسماً لها صورة غير نمطية عبر المتن الشعري. فهي ليست المعشوقة فقط التي يرفع لها الشاعر آيات الحب ومن أجلها يقيم طقوس الهوى بل هي جُماع الحياة كلها، بكل تحولاتها وتقلباتها وفوضاها، وبكل ما فيها من ألق وتعب وحزن وملل وفرح وغيظ وظلم تحصد منه النساء غالباً النصيب الأوفر، كل ذلك يحاول الشاعر تجذيره وموضعته في أبعاده الفلسفية والفكرية والمجتمعية واضعاً المرأة في حيزها الإنساني، حاجزاً لها مكانتها التي تستحق بعيداً عن فكرة الإغواء الجسدي. لا تأتي المرأة في قصائد علي كنعان سافرة أو معلنة إلا في حالات نادرة، والحقيقة أن المرء يعثر لدى هذا الشاعر على نظرة تبجيلية تحمل من القداسة الكثير لهذا الكائن الذي يندغم في موجودات الكون كله، يتساوى معها في الأهمية بل ويبزّها أهمية في بعض الأحيان. إننا هنا أمام تجربة روحية سامقة في العلاقة مع المرأة، تجربة تؤسس لحضورها في الوعي المجتمعي والفكري بوصفها شريكاً كاملاً يدوزن الحياة على إيقاع متحرر من ربقة التسلط والقهر والتمييز الجنسوي وغيره مما لحق بالمرأة من صور نمطية حبستها في شرنقة الجسد. في الموضوع الإنساني والوطني والتاريخي تبرز المرأة في أكثر من صورة موحية ونابضة بالرموز والمعاني، وتظهر بوصفها الخط الأخير، والجدار الأخير الذي يحافظ ليس على الفلسطيني فقط بل على العربي من ان يتحول الى هندي أحمر العصر... وهي أيضاً جدار الشاعر الأخير الذي يسند إليه روحه حين تضيق الأحلام وتصغر الجغرافيا مفسحاً لها أن تدخل في صيغة الروح وأن تصبح في حنانها وطناً آخر. جمرة الشعر ومع المرأة وفي صلب صورتها تبرز صورة الطفولة في تواشج غريب... كأن ذلك الطفل علي كنعان المولود في قرية سوريّة صغيرة اسمها (الهزة) يريد أن يقول لنا إن صلابته الفكرية وثباته على ما يراه حقاً جاءت من هناك، من تلك التربية التي تلقاها صغيراً في كنف امرأة أرضعته من النبل والكرامة ما رشح في قصائده بعد ذلك، ليزاوج بين نبل الشاعر ونبل الشعر في اقتران يصعب أن يتوفر كثيراً في هذه الأيام. ويبدو أن “الهزّة” هزَّت أعماقه بحسنها فلم ينفطم عن حبها، وظلت مشاهدها وخبراتها تشاغله في حله وترحاله... كأن الشعر لا يهتز إلا على إيقاعها ووفق ما تحب وتهوى. تلك الهزة الجمالية الأولى التي أشعلت جذوة الشعر في روحه لم تكن سوى البلسم الذي سيشفي جروحاته الموغلة كي لا يهتز أمام الإغواءات الكثيرة... وفيما كان كل شيء حوله يهتز، كان هو يستمد الثبات من (هزَّته) الجميلة، ويمعن في فرادته الجمالية واستقامته الفكرية، رامياً كل مجد دنيوي زائل وراء... قلمه. تحضر سوريا كلها في قصيدته، بشامها وحلبها وحمصها ومواسمها وعبقها وطيوبها، بغاداتها وغادراتها، بغرابها وغبارها، تزوره وتملي عليه ما تشاء من دنف العاشقة ثم تترك بين شغاف قلبه أكثر من غرام. يقولها في مغترباته ويشتهيها في كل وقت ومكان: في اليابان التي سحرته طبيعةً وبشراً ولغةً وتجربةً علمية تفوقت رغم كل جراحها الكونية التي رمتها بها الحرب، وغذت السير إلى مكانها في الصفوف الأولى بين الأمم. في مطر الغمامات التي تأخذه من قلبه الى ملاعب الصبا، فتمطر غيوم رأسه شعراً مقطّراً صافياً تعلم أن يستدرجه إلى حقوله في عشرته الطويلة معه، عشرة متجددة يوثق عقدها مع كل قصيدة يكتبها ولا يركن إلى ما حققته في قصائد سابقة. عشرة متوترة، مستفزّة، لكنها درّبت روحه على كتابة الشعر الحقيقي... وفتحت له الطريق إلى نفسه فصار يعرف كيف تؤتى القصيدة ومن أي الدروب يعبر إليها ليحظى بمباهجها الكامنة. ومن هنا، يقع القارئ في أعماله الكاملة على تلك الافتراقات والاختلافات الفنية والتمايزات الجمالية التي تتبدى عند إجراء مقارنة بين ديوان وآخر... وتظهر كم باتت القصيدة غنية وثرة بحمولاتها ودلالاتها الفكرية والإنسانية، وتتوضح تشابكات الحياتي والشعري في قصيدة ذات نفس ملحمي تجتمع بين أردانه المحاورة والمسرحة، ويوظف فيها الشاعر معرفته العميقة والواسعة بالتراث العربي والإسلامي والاساطير والمحكي والأمثال الشعبية والأدب العالمي والميثولوجيا ورموزها... يضعها كلها في خدمة القصيدة لكي تأتي في بهاء استثنائي مقدماً دليلاً لا يأتيه الباطل على أن الالتزام لا يستلزم التخلي عن بعض فنيات الشعر كما يرى بعض النقاد والشعراء، شرط أن يكون الشاعر... شاعراً. وفي اقتران عجيب بين الشقيقتين الأختين ترافق فلسطين دمشق في القصيدة، تنموان معاً في حدائق الشاعر، تغردان وتحزنان، تبوحان وتصمتان، ترفّان/ تحلّقان/ تهدلان هديل الغريبات ثم تغذان السير الى مفاتن النص، تفتّحنه كما صبية تجلس على سطوح بيت دمشقي تعدّ أوراق الورد وعلى لسانها سؤال الحب. وبين الشقيقتين ثمة قرابات كثيرة ليس آخرها عشق الشاعر لكل منهما. بيد أن فلسطين في حضورها الشعري في القصيدة لا تحضر بوصفها وطناً سليباً ولا جرحاً غائراً ولا كل تلك التعبيرات المكرورة التي اعتادت القصيدة أن تجعلها أفقها التعبيري عن فلسطين... بل تحضر بوصفها قضية مصير ومشروع حرية يبحث عن إمكانية التحقق في ليل بهيم لا يرى فيه المرء موضعاً لأصابعه، وإن أخرج يده لم يكد يراها، لما يتراكب فيها من ظلمات يمسكن برقاب بعضهن البعض. ها هنا، في صورة الوطن، يتسع الإطار الشعري تعبيرياً وفكرياً لتحضر ملامح الوطن الكبير كله: تشظياته الفكرية، هزائمه، زمنه الرديء، منافيه، وحدته المحلوم بها بلا جدوى، تاريخه، عمقه الحضاري والثقافي، أعراس الجنوب اللبناني التي زرقت في عروق الشاعر بعض دم الأمل في نصر سيأتي، وأصدقاء رحلته ومرحلته الجميلين الذين ذهبوا إلى موتهم كاملين ... كأننا أمام مرآة كبيرة تنعكس عليها تجربة طويلة من الحب والألم والغربة والحنين والبحث عن الذات الإبداعية التي اختصرتها أو حاولت قصائد الأعمال الكاملة، التي تتجلى بين صفحاتها منذ ديوانه الأول “درب الواحة” وإلى “أبجدية الينابيع” الديوان الأحدث، ملامح تجربة شعرية اتخذت من الرصانة لها نبراساً ومن أحلام الناس وأشواقهم الى الحرية والعدل والكرامة طريقاً من دون أن تبخس الجمال الفني حقه، معلنة لنا بكل قواها أن الذهب يصدأ لكن الشعر الجميل لا يعرف الصدأ. لقد حمل علي كنعان الشعر على محمل الجد، لم تكن القصيدة مداراً للهو والتسلية أو التفريغ الانفعالي عن مشاعر كانت تغلي بها القلوب في الستينيات من القرن المنصرم. ولم يكن هو مجرد واحد من الشباب الشعراء الذين يكتبون كيفما اتفق ليقولوا نحن هنا: لقد بدا الشاعر الشاب واعياً لما يفعل، وفي عقله مشروع يريد أن ينجزه... ولعلها، الأعمال الكاملة، تضع بين أيدينا صورة الشاعر في ذهابها نحو الاكتمال... وصلتني المجموعة الكاملة لعلي كنعان مع إهداء يقول: “هذه القصائد خلاصة حياة إنسان من جيل غسان.. مقطَّرة من معاناة وجدانية.. لجيل مختلف. أرجو أن تجدي فيها شيئاً من العزاء رغم الشجن والمرارة”... وقد وجدتُ...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©