الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التجريف بالتحريف والتخريف!

21 نوفمبر 2017 22:43
ارتاح العرب جداً للتفسير التآمري لكوارثهم ومصائبهم، وأزماتهم، فلا شيء يحدث عندنا في أمة العرب إلا ووراءه مؤامرة كونية ضد العرب.. الكون كله يتآمر على العرب والفصول الأربعة والشمس والقمر والنجوم والكواكب والناس والدواب والزلازل والعواصف، كل هؤلاء يتآمرون على العرب. حتى صارت المؤامرة في عرف العرب قضاء وقدراً لا سبيل إلا التسليم به. ولا تكاد تسمع أو تقرأ محللاً أو من نسميه محللاً أو مفكراً إلا ويرد على لسانه التفسير التآمري لكل أمر. فالمؤامرة قضاء لا راد له وسيناريو على كل لسان وعلى كل قلم. والمؤامرة تفسير مريح ويعفينا من التفكير في عيوبنا ونقائصنا ويلقي تبعات خيباتنا على الآخرين. والمضحك المبكي أننا نعرف المؤامرة والمتآمر ومع ذلك تنجح المؤامرة ويفوز المتآمر، بل وتتكرر المؤامرة الواحدة ألف مرة وتنجح ألف مرة. لا توجد حركة ولا سكنة ولا قول ولا فعل إلا ووراءه في رأينا مؤامرة ومخطط. ولم يسأل العربي نفسه عن الحمار المخطط الذي لا تفشل أي مؤامرة ضده. والتفسير التآمري حاضر في أي مجال عربي، حتى في مجال العمل العادي.. هناك خوف من زملاء يتآمرون ويدسون ويطعنون في الظهر ويغتابون عند الرؤساء ويشوهون السمعة، ولا نتهم أنفسنا أبداً. هناك من شوهني عند رئيسي في العمل، ولا أسأل نفسي: هل قصرت أو ارتكبت خطأ؟ لا بل أنا بريء وزميلي هذا شوهني ووشى بي زوراً وظلماً. وهكذا هناك دائماً تربص وترصد وتوجس يؤكد أن الأجواء كلها تآمرية وملوثة. خيالنا التآمري واسع جداً ونسحبه على كل شيء، حتى الحسد بالغنا فيه مبالغة ممجوجة وسخيفة، فنحن العرب فريقان: فريق الحاسدين وفريق المحسودين. ونتبادل المواقع باستمرار، وحتى الذين يثيرون الاشمئزاز أو الشفقة أو الرثاء يتحدثون عن الحسد وعين الحسود التي أصابتهم. ودخل الحسد والعين في لعبة المؤامرة حتى صارت العين الحاسدة لها مواصفات محددة في اللون والشكل. ولدينا آلاف المتخصصين في إبطال مفعول العين الحاسدة أو إجهاض مؤامرة الحسود. وقد اقترحت يوماً أن نشكل قوة أو جيشاً عربياً من الحاسدين، ونجعله على الحدود مع إسرائيل، ونعطي كل جندي حاسد منظاراً مكبراً وينظرون جميعاً نظرة رجل واحد إلى إسرائيل فيدمرونها تدميراً ويكفوننا شر القتال، ولتعرضوا الاقتراح على الجامعة العربية. العرب قوم خرافة بامتياز وطال التفسير والتحليل الخرافي كل شيء حتى السياسة. ويتميز العرب بما أسميه تذاكي الأغبياء، فهم يبحثون دائماً عن سبب غير معلن أو تبرير خفي لأي قرار أو إجراء، لأن السبب المعلن لا يشبع شهوة الخرافة والفكر التآمري لدينا، فإذا صدر أي قرار أو اتخذ أي إجراء ترى أغبياء المواقع بالتحديد يقولون إن وراء الأكمة ما وراءها وهناك حكاية خفية وغير معلنة وراء القرار أو الإجراء.. فالعرب إما متآمرون أو ضحايا مؤامرة. لا بد من البحث عما يسميه أهل الفن «الأكشن».. أو ما نطلق عليه «افتكاسات». لا يرضينا الوضوح والسبب المعلن، بل نحب اللف والدوران والبحث عن أسباب لا يخترعها غيرنا ولا يقولها سوانا. نحن نحب التفرد حتى في الخرافة والتميز في الشر، والمصريون يقولون دائماً: «الموضوع فيه إنّ»، ويظلون يبحثون عن «إنْ»، فإن لم يجدوها اخترعوها. نبذل جهداً ضخماً في البحث عن أسباب خرافية والتفتيش عن مؤامرة. وهذا البحث يشغلنا عن الإنجاز والأداء والإيجابية، فنحن مبدعون فقط في التفسير التآمري والخرافي لكل شيء، وأنا موافق على أن هناك مؤامرة كونية ضد العرب، فما الحل؟ الحل هو الاستسلام والتسليم أم الحل هو أن نعتدي على المتآمر بمثل ما اعتدى عيلنا؟ لماذا لا نتآمر نحن؟ فيا أيها العرب: تآمروا يرحمكم الله، كونوا متآمرين مرة واحدة بدلاً من أن تظلوا طوال الوقت ضحايا مؤامرة. لا يريد العرب أن يكفّوا عن اختراع أشباح غير مرئية تتآمر عليهم وتحسدهم «وتعمل لهم أعمالاً سفلية» وتسحرهم، حتى الجن لا يتلبس إلا العرب. ولم أسمع أبداً عن أن جنياً تلبس إسرائيلياً أو أميركياً أو أوروبياً. وكل الأمور موجودة: الجن موجود، والحسد موجود، والسحر موجود، ولكن المشكلة في الغلو والمبالغة والخرافة وننسى تماماً آيات وأحاديث واضحة وصريحة: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا...)، «سورة التوبة: الآية 51».. حتى هذه نفسرها بالشر فقط، رغم أن الإصابة تكون بالخير أو الشر، أي لن يصيبنا شر أو خير إلا كتبه الله. وعن الملكين هاروت وماروت قال الله تعالى: (وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، سورة البقرة: الآية 102». لكننا دائماً في حالة خوف من أشباح ومردة وشياطين لنبرر الفشل. وإذا كانت هناك مؤامرة ما حقاً، فهي مؤامرات العرب ضد أنفسهم وضد بعضهم. وإذا كانت هناك مخططات غربية أو شرقية، فإن جنودها والمنفذين لها عرب، فالتآمر بضاعتنا التي ردت إلينا. والحق الذي لا يراه أحد أن «الإخوان» ومن والاهم هم الذين اخترعوا لعبة المؤامرة ونشروها في الأمة، على طريقة «رمتني بدائها وانسلت»، فهم متآمرون حتى الثمالة، ويتحالفون مع الشيطان لبلوغ مآربهم، ولكي يبعدوا التهمة عن أنفسهم يتهمون ويرمون بها غيرهم. تماماً كما كانوا يقتلون الناس في مصر إبان «خريف يناير» من أجل أن يتهموا الشرطة والجيش. وحتى في «اعتصام رابعة» عندما رحل مرسي قتلوا المعتصمين واتهموا الشرطة، ودليلي على ذلك ناصع وبرهاني ساطع: لقد كانت كل القيادات الإرهابية لـ«الإخوان» الموجودة في السجون الآن.. كلهم كانوا في رابعة فلماذا نجوا جميعاً ولم تقتل منهم الشرطة ولو واحداً فقط؟! حتى انتشار الخرافة كان «الإخوان» وراءه.. فهم الذين نشروا في الناس لعبة إبطال السحر وإخراج الجان وإحباط العمل السفلي وما سموه إبطال مفعول الحسد. وكل ذلك لهدف سياسي واضح وهو اكتساب أنصار واتباع من البسطاء والسذج والبلهاء وهم في أمتنا أكثر من الهم على القلب. وأظن أن اللعبة نجحت تماماً، حتى صارت الأوساط الشعبية حاضنة لهم ولمن والاهم ممن يسمون السلفيين. وأصبحوا هم قادة الرأي وموجهي القطيع العربي ونجوم المشهد كله. وهم الذين دشنوا ثقافة الخرافة في هذه الأمة المنكوبة، نحن نقدم للمتآمرين أضعاف ما يطلبون مجاناً. ويكفيهم التآمر والتجسس ودفع رواتب للجواسيس، وحزب «نصر الله» و«الحوثيون» و«الإخوان» وقطر و«داعش» و«النصرة»، وكل الفرق الهالكة في هذه الأمة جنود بلا أجر في جيش التآمر، بل هم الذين يدفعون للمتآمر ليرضى، الخلاصة أن العقل العربي الجمعي تعرض للتجريف بالتحريف والتخريف! *كاتب صحفي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©