السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجدران تتباهى بوجودها

الجدران تتباهى بوجودها
23 يوليو 2015 01:12
ظل لافتاً ما يمكن استخلاصه من نتائج تفاعل الإنسان مع الجدار، وبالأخص دخول الفن، بأنواعه المختلفة كمؤشر للتعبير الاجتماعي، الذي أعاد صياغة محور الجدار، ممثلاً بذلك بانوراما بصرية؛ متضمناً الفن التشكيلي، كأيقونة تفاعلية، وتقنية الجص المجففة «سيكو» المستخدمة من العصور القديمة، وفن «الجرافيتي»، الذي يلاقي رواجاً محلياً والأكثر تأثيراً في حس المشاهدة المحلية، خاصة أن «الجرافيتي» ساهم في إحياء استخدامات الخط العربي، بعد سنوات من جموده في إطار اللوحات المتحفية. وما يمكن ملاحظته من اهتمام ملحوظ بالجداريات، يقدم تصوراً نوعياً لإمكانية تحول المدينة إلى «جاليري» مفتوح، يُلهم الثقافة في الإمارات، ويُعيد رسم خريطة الفنون البصرية، وبالتالي الانفتاح على متغير فكري، يقود المجتمع إلى فهم علمي لاهتماماته وتوجهاته، مما يؤهل المؤسسات الثقافية، لاستحداث وسائل بصرية مبتكرة، للتفاعل مع الثقافة، من خلال الدفع بعجلة تأسيس البيئات التعليمية. وفي سياق آخر، فإن فن «الجداريات» يوازي القطاع العمراني، بوصفه القطاع الأكثر نمواً في الإمارات، والبحث في سبل دعمه لهذا الفن يُعد رؤية مستقبلية واردة. سبب للاتصال «امتلاك تجربة حسية، سيساهم في خلق الاتصال»، هنا.. الفنانة الإماراتية نجاة مكي، تفسر أهمية الجداريات، وعلاقتها مع المشاهد، خلال مشاركتها بلوحات تشكيلية جدارية، بالتعاون مع الإدارة العامة للإقامة وشؤون الأجانب بدبي، مضيفة إنه «إذا نظرنا لواجهة المبنى، الذي أُنجز فيه المشروع، فإن حالة من الالتقاء عبر حساسية اللون أو منظومة اللوحة، تداهم المتلقي، الذي سينتقل تدريجياً للاهتمام بتعابير اللوحة، وهناك ما هو أبعد في اللوحات الجدارية، يمكن استثماره، وهو فعل (الطاقة) المتشكلة في اللوحة، وهذا ما يستدعي دراسة مستقلة، في ميدان البحوث العلمية». ويحسب للمؤسسات الحكومية الخدمية تبنيها الجانب الفني، الذي انطلق من فكرة زيادة الوعي المجتمعي، بأهمية الفنون كرافد ثقافي، يساهم في رفع الذائقة الفنية، ويؤدي لتعميق مستوى الحوار بين الأفراد، بل ويدعوهم للمشاركة في الإنتاج الفني، والأخير يستدعي دائماً حضور تجربة الفنان نفسه، وعن ذلك قال الفنان الصيني (Zeng Fanzhi) في أحد الحوارات الصحفية: إنه يتساءل عن ضرورة تجربة الحياة كما هي، وكيف أنه قرر رسم الأشياء التي من حوله، تلك التي جربها ورآها يوماً بيوم، الأشياء التي حركته وجعلته يشعر. وبالرجوع إلى معنى الجداريات، فهي تميل إلى أن تكون قطعة من الأعمال الفنية المرسومة أو تم تطبيقها على الأرض إلى السقف، أو على سطح دائم، والصفة المميزة لتلك الجدارية، هي قدرتها المتناغمة على التداخل مع عناصر العمارة، وتحديداً الدمج المتناغم بين الجدار والصورة، ويحضر فن الجرافيتي بقوة، في توجه أغلب المؤسسات المحلية في تبنيها فن الجداريات، ومنها ما أقدمت عليه هيئة دبي للطرق والمواصلات، بتحويل واجهات المترو إلى جدارية وتحفة فنية، تحتفي بإمارة دبي، كمتحف مفتوح، إلى جانب مشروع «اليدار» التابع للمكتب الثقافي للشيخة منال بنت محمد بن راشد آل مكتوم، وفي السياق نفسه، احتفاء مؤسسة «تشكيل» الفنية بالفنان إل سيد، المشهور بفن الجرافيتي، الذي قدم عدة ورش في المجال، بمشاركة طالبات من جامعة زايد، وتوج حضوره في الإمارات، بافتتاح معرض «إشهار»، متجلياً بالأحرف العربية، منبعاً متجدداً لفن الجداريات. واستمر الاهتمام بهذا الفن محلياً، لينضم إلى أهم وسائل التعبير الإبداعية في اليوم الوطني، مؤكداً على قوة المشاعر البصرية في تكوين الهوية وتعزيز الانسجام مع المفاهيم المجتمعية، مما شجع الثقافات الأخرى، والمتمثلة بالسفارات الأجنبية، كالسفارة البريطانية في الإمارات، التي شاركت بجدارية فنية، تعبر فيها عن احتفائها الدبلوماسي، وعلاقتها الممتدة مع الدولة. جغرافيا التجلّيات إقدام «مركز مرايا للفنون» بمشاركة الفنان العالمي إل سيد على استثمار إحدى الأبنية في منطقة السوق القديم في الشارقة، وتحويلها إلى جدارية، جمالية مهمة، تضاف إلى منطقة الفنون بالشارقة. محلياً يُعرف أهل المنطقة المكان الذي يتموضع فيه البناء المحتفي بالجدارية بـ «منطقة البنوك»، وفي الجهة المقابلة من الشارع، يشهد المتابع حركة السفن، التي تبحر باتجاه مناطق المراسي المختلفة، بينما خلف المبنى مباشرة، يختزن أهالي الإمارات، آلاف الذكريات حول تراثيات السوق، الذي لا يزال حياً بتفاصيله، لذلك فإن اختيار «مرايا للفنون» الاحتفاء بالجدارية وسط جغرافيا التجليات التاريخية، يحفز استراتيجية ابتكار التمازج الفني والتراثي. ومن بين أجمل الأمثلة، في السياقات الدالة على التزامن التراثي، وأبعاده في تجليات الابتكار الحضاري، ما ذكره عالم الأنثروبولوجيا (المختص بعلم الإنسان) إدواردو أرتشيتي، الذي تحدث في كتاب «الملعب المسار والحلقات: المكان البريطاني للرياضة الأرجنتينية»، عن العلاقة الساحرة بين كرة القدم والتانغو، حيث جاء الاعتراف الأول بلاعبي كرة القدم الأرجنتينيين في القرن العشرين تزامناً مع توحيد موسيقى التانجو والرقصة المثيرة الخاصة بها، التي صممت بصعوبة، الأمر الذي ساهم في تعريفها كواحدة من إبداعات الحضارة الأرجنتينية، وهنا نجد القدرة الساحرة للفنون في التعريف بالثقافة المجتمعية وإعادة إنتاجها، والسؤال المطروح: كيف تعزز الجداريات مقومات إنتاج الثقافة، أو إعادة تشكيل التراث، أو التوجه نحو صناعة الحداثة محلياً؟ خاصة مع احتفاء الجداريات بـ الجرافيتي والخط العربي، كعنصرين من أهم عناصرها. حوائط تعبيرية في أغلب عمليات الدراسة التوثيقية، حول ما يهدف إليه الرسامون من المشاركة في صناعة عالم مختلف من الألوان، يتوصل الباحث إلى أن الجدار يمثل مساحة من إيقاع الحرية، ليعبر هؤلاء الفنانون عن أنفسهم، وهو ما أقدم عليه أشهر الفنانين، كـ رسام الجداريات المكسيكي دييجو ريفيرا، الذي استثمر إبداعه الفني ليعكس حياة الطبقة العاملة والسكان الأصليين في المكسيك، وما يستوقف القارئ لسيرة ريفيرا أنه ولد في غوانا خواتو، وينحدر من طبقة النبلاء ذات الأصول الإسبانية، خلافاً للصورة النمطية في أن مرتادي هذا الفن وممارسيه مرتبطون عادةً بالمهمشين. ويذكر أن تطور أبعاد الجداريات أو ما يسمى بـ «الجرافيتي الحديث»، جاء ضمن عوامل مختلفة من بينها ثقافة «الهيب هوب» في ستينيات القرن الماضي، والتي يتفرع منها كل من كتابة السيناريو والرسم والرقص والموسيقى، وجماليات تلك الثقافة تكمن من وجهة نظر مؤيديها في أن الانتماء لها لا يحتاج إلى أن تكون ضمن طبقة اجتماعية معينة، أو أن ترتاد نوعاً معيناً من الأكاديميات، بل يكفيك بالعموم حساً مرهفاً، لماهية التعبير عن ذاتك المبدعة. ويستخدم في «الجرافيتي» غالباً بخاخ «البويه- الدهان» للرسم على الجدار، وهناك أيضاً أقلام من نفس مادة البخاخ، تستخدم للتواقيع، إلى جانب أغطية خاصة تتحكم في مساحة الرش، والقبعة للبخاخ، ويصف الرسامون تلك الحالة من الإمساك بالبخاخ و(القبعة) المعنية بتحديد المساحة والحجم، بالحركة المتناغمة، حيث إن كل شيء يبدأ صغيراً ويتمدد في الحجم والمساحة، ويكبر عبره التعبير والمعنى، جاعلاً من الجدار كائناً يتباهى بوجوده. ماذا يعني لك الجدار؟ أقصد الجدار كفكرة، كمضمون، كحالة سرمدية في حوار عابر، وما هي تلك الأسئلة الفعلية التي تتحول أمام الجدار إلى مفاهيم، كمفهوم (الفصل) مثلاً، باعتباره الأشهر، أو (الاستقلالية) بوصفها الأدق، أو (الالتقاء) بمعناه الأعمق؟ وجميعها مفردات تمثل بحثاً لماهية (الجدار)، في ذاكرة التكوين الإنساني. الوقوف بجانب الجدار في الإمارات، مثلاً، يحمل (نوستالجيا) من تاريخ البساطة المعيشية، في الماضي.. أتذكر تماماً تلك الخطوط الطولية، التي كان يحرص من يجلب الماء على رسمها على جدران البيوت القديمة، مشكلةً علامة لاحتساب قيمة الفاتورة اليومية، مروراً بالنقوش والرسوم الحجرية، التي تمثل أهم معالم الآثار في المنطقة، وصولاً إلى استثمار الجدار، كأول الطرق المستخدمة لمشاهدة الأفلام السينمائية المستوردة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©