الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قبعة لا تقي من البؤس

قبعة لا تقي من البؤس
22 يوليو 2015 22:15
ليس عالماً افتراضياً. إنه العالم الحقيقي. إنه الواقع. فمرحباً بنا هنا حيث تنتفي الأقنعة وتتلاشى. ويذوب الكذب ليبقى الصدق وحده سيداً. لا يشبه هذا المكان ذاك الذي تشاهده وتعيش تفاصيله بشكل يومي. لكن كن واثقاً، من أن الآلاف وربما الملايين، يعيشونه كواقع مفروض وأزلي وحدث، وتأقلموا مع أركانه، مع شخوصه، مع أغراضه ومع كل ما فيه من إكسسوارات وأشياء. لا يخشونه لكنهم لا يستطيعون الفرار منه، ومن الممكن أنهم لا يرغبون أصلاً بالعيش في مكان غيره، يجهلونه وقد لا يقبلهم بوجوههم المتشحة بالفقر والسواد. لذا فهو عالمهم الذي لا ينفصل أبداً عن عالمك. لكن كل ما في الأمر أنه بعيد عنك بضع خطوات أو أكثر. أكوام وأكوام من القمامة مرصوفة بجانب بعضها البعض في أكياس بيضاء وأخرى سوداء. وعلى كامل البقعة تنتشر شذرات من أقمشة وأثواب ملونة، هي حتماً تأتي من مكان أفضل أو أجمل، ويتبع فعل التفضيل هنا لدرجات متفاوتة تحتمل التأويل والتوقف. وتحت قبعة الأمم المتحدة، يرسخ كل هذا البؤس. وحتى القبعة اتسخت وصار الأبيض فيها أسود وبقي اللون الأزرق يتوسط المساحة ليشعّ باسم «كينيا». ينقسم المشهد إلى قسمين أو فضاءين: الأول تظهر فيه الفتاة كعنصر بارز له حضوره القوي والجاذب وسط المكان المليء بالقمامة والذي تحتشد فيه أنواع مختلفة ولا تعد ولا تحصى من المخلفات الإنسانية. يفصله عن الفضاء الثاني، تلة من القمامة أيضاً، تنتهي من جهة اليسار ببضع شجيرات بعضها متيبس بينما يقاوم بعضها الآخر بما تبقى له من لحظات في الحياة. أما الفضاء الثاني، فهو ذلك البعيد. المرمي على مسافات لا نعرفها وتراها تمتد نحو الأفق. قد تكون أسوأ من هذا الذي نشهده بوضوح، والأمر قد يحتمل العكس أيضاً. ولك أن تتخيل، بحرية مطلقة، أحداثاً وشخوصاً تناسب ظروف البيئة الزمانية والمكانية، كحكايا ثانوية مصاحبة لحكاية بطلتنا الرئيسية الجالسة في الصورة. تبدو السماء قريبة من الأرض بشكل لافت. وكما كل شيء، فيها من السواد ما يساويه من البياض. لكن.. لماذا تقترب السماء بهذا القدر من مكان بائس دون أن تحييه؟ هل هو الغضب؟ لا نعرف الإجابة ولا تهمنا أصلاً. فالباقي من مفردات المشهد هو ما يثيرنا للبحث فيه. نكاد نجزم أن جميع من شاهد الصورة، جذبته المفارقة القائمة فيها. والتي تعود لوجود امرأة تعمل وتجلس في هكذا مكان، وتظهر عليها كل هذه المعاناة، بينما هي تهتم بقراءة كتاب وبمطالعة ثقافية تحت عنوان لا على التعيين. وكأن الثقافة حكر على الناس ذوي الملابس النظيفة. وعلى الرغم من أننا نستنكر حالياً فعل «الاستغراب» والدهشة، إلا أننا وقعنا فيه. حتى أن قوة تأثير الصورة تأتي من كونها تعكس مفارقة ما، تتصارع فيها الحقائق ويصطدم من خلال عناصرها كافة، الجمال بالقبح. كذلك قد يحيل البعض المفارقة إلى المسافة الفكرية الشاسعة بين «الثقافة» وبين «القمامة». ونسأل، متى كان للثقافة أمكنة غير ملائمة أو أمكنة مضادة؟. والتي إن وجدت فحتماً ليس هذا المكان من بينها. إنما تلك الأمكنة الباردة والنظيفة البعيدة جداً عن الحميمية، وما أحوج ثقافاتنا إلى حميمية الحياة. في قراءتنا لملامح بطلتنا، نجد أن ابتسامة تعلو وجهها. هل هي ابتسامة الرضا النابعة من أرض سلام تقبع داخلها؟ ربما نعم.. فجلستها الواثقة تقدم للمتلقي حالة من التوازن النفسي والجسدي. الأمر الذي يترجم على أرض الواقع بأفعال نحن لا نعرف منها إلا الموازنة بين عمل شاق ومتعب على جميع الأصعدة، وبين عشق المطالعة وتصفح الكتب. ثمة كيس خلفها مليء بالقصاصات الورقية. لذا من الممكن أنها أخذت كتابها منه. لقد نبشته نبشاً. عن قصد.. وبنظرة فاحصة لما تحمل بين يديها، لا يمكننا أن نرى سوى صفحات ملونة. صديقتنا تحب الألوان. روحها ترفض السواد والظلام، ترفض الفقر والكآبة، وترنو إلى النور بين صفحات كتاب.. أيضاً، من المحتمل أنها لا تعرف القراءة والكتابة، وهذا احتمال كبير للغاية، لكنها في الوقت نفسه تسعى إلى ثقافة لسنا معنيين بتقييمها. ويبقى السؤال: ألم تستطع الأمم المتحدة، التي قدمت قبعتها لتعتمرها هذه السيدة على رأسها، أن تقدم لها حياة أفضل؟ أن تضمن حقها في التعليم، في الثقافة، في العيش الكريم؟ الجواب في الحقيقة إن أممنا المتحدة مشغولة بالانقسامات والحروب التي تقف أمامها صامتة متفرجة، وقد أكلها القلق لدرجة أنها لم تعد قادرة على العمل أو المساعدة، فباتت قيد التقاعد تقريباً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©