الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شذريّات في الكتابة الشذريّة

شذريّات في الكتابة الشذريّة
22 يوليو 2015 22:15
ما كل كتابة مفصولة كتابة شذرية. الانفصال في الكتابة الشذرية مضمون وليس شكلاً. أو قل إنه شكل- مضمون يكرّس مفهوما معينا عن الزمان، وفلسفة خاصة عن الكائن، وممارسة خاصة للكتابة، ومفهوما بعينه عن النص، ورؤية معينة لتوليد المعاني، وفهما خاصا للغة، ونظرية معينة عن المؤلف. *** بدل «بحر برهان» تقيم الكتابة الشذرية «جزر معان». ذلك أن الشذرة تصدّع الخطاب، وتقضي على الوصل فيه، ذلك الوصل الذي يرمي إلى بلوغ المعنى النهائي، واستخلاص «النتيجة» بعد «المدخل» و»النمو والتحليل». *** إقحام الانفصال داخل النصّ لا يعني تقطيعه إلى أجزاء، وإنما إقحام اللانهائية في بنائه ذاته. النصّ الشذري ليس هو النصّ الذي يتجزأ إلى وحدات منغلقة، وإنما هو النصّ المنفتح الذي يقطن التعدد كل وحدة من وحداته. إنه نصّ لانهائي، ورمزيته لا حدود لها، إنه نسيج من الإحالات اللامتناهية ومن الأصداء المتوالدة. *** ليس النصّ الشذري نصّا فارغا، أو قل إن فراغه ليس فراغا مكانيا، وإنما هو فراغ زمني. فلا يتخلل الكتابة هنا بياض الورق، وإنما انفصال الكائن، واختلاف المعاني وتصدّع الذات. *** ليس الفراغ الذي يفصل أجزاء الكتابة الشذرية هو فراغ الفيزياء التقليدية الذي لا يبتعد، في حضوره ودوامه واستقراره، عن الامتلاء. إذا كان الامتلاء، أنطلوجيا، هو الهوية، وزمانيا، هو الاتصال والماضي الجاثم، ورياضيا هو الوحدة، وإيديولوجيا هو الدوكسا، وتاريخيا هو التقليد، فإن الفراغ المقصود هنا هو الاختلاف والانفصال والتعدد والتجدد والتحديث. *** الكتابة الشذرية تحيل إلى الكائن كحقل متنوع مفتوح لا يرتد إلى شفافية المفهوم، ويرفض كل تعميم وكلية. كما تردّ إلى مفهوم مواز للذات العارفة كفضاء منفتح من المنظورات، وكحقل من التأويلات اللامتناهية. تفسح الكتابة الشذرية المجال لظهور ذات تفتّت نفسها عبر الكتابة، وتنسج خيوط أفكارها عبر زمنها المفصول. ليس الهدف هنا إلغاء الحدّ وتفتيت الهوية، وإنما جعلهما حركة وليس سكونا، خطا وليس نقطة، هجرة وليس عمارة، نسيانا وليس ذاكرة، تعددا وليس وحدة، اختلافا وليس تطابقا. *** الكتابة الشذرية خطاب الجسد، إنها تنطوي على بطانة لاشعورية تنفلت من رقابة العقل، وتحكّم الإرادة. *** كتب نيتشه: «إن مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب... ما لا يقوله في كتاب بأكمله». *** وكتب بارث: «الشذرة ليست تكثيفا لفكرة أو لحكمة أو لحقيقة». الشذرات ليست خلاصات ونتائج، وهي ليست حِكَما و حقائق نهائية، ليست حقيقة مستغنية عن كل تدليل، ليست «زبدة فكر». إنها ليست بديهة لا تقطع مسافات، ولا تحتاج إلى توسطات، ولا تسكن خطابات. الشذرة لا تغْني عن إعمال الفكر، إنها تدعو إليه وتحث عليه، بل هي ما يستفزه. *** كتب موريس بلانشو: «وحده شكل الانفصال يمكن أن يوحّد الكلام والصّمت، الجدّ والهزل، الحاجة إلى التعبير وتردد فكر موزع لا يقرّ له قرار، وأخيرا رغبة الفكر في أن يعمل وفق منهج ونظام، ونفوره من المنظومة والنسق». *** الكتابة الشذرية كتابة المفارقات: فهي تجمع في الآن نفسه بين الإثبات والتردّد، بين التأكّد والارتياب، بين الامتلاء والفراغ، بين الحضور والغياب، بين الظهور والتستّر، بين الإفصاح والإضمار، بين الجدّ والسّخرية، بين الانتظام والخلل. *** مقابل الانسجام الذي يشد أجزاء الخطاب ويجعلها تتساكن جنبا إلى جنب، تقيم الشذرات «نصّا» متوّترا بلّوريا، وتسعى لأن تلخّص كثافة العالم في «نصّ» متصدّع، وتقحم اللانهائي في فضاء محدود، والتناقض في الاستدلال المنطقي، والبرادوكسا في الدوكسا. *** تلائم الكتابة الموصولة الفهم الأفلاطوني للمعرفة التراكمية، المعرفة-التذكر، التي تقوم على مفهوم الوحدة، تلك الوحدة التي ليست، في نهاية الأمر، إلا انعكاسا لوحدة الذات المتملكة للمعنى والمتحكّمة فيه. *** تكرّس الكتابة الشذرية نسيانا فعّالا لماضيها. إنها العدوّ اللدود للخطاب- الذاكرة. زمانها ليس الزمان الهيغلي الذي يركّب لحظاته ويضمّها في مفهوم موحَّد موحَّد. إنه ليس الزمان الكلياني، وإنما زمان الانفصال والتعدد. *** ليس زمان النصّ الشذري صيرورة يفصل فيها حاضر متحرك الماضي عن المستقبل، وإنما حركة التباعد التي تنخر الحاضر نفسه، وتمنعه من أن يحضر ويتطابق. *** في الكتابة الشذرية لا تتوالد المعاني عن تحليل Développement. فهنا لا يحدد السابق اللاحق، ولا تُستخلص النتيجة عن طريق التركيب بين الأطروحة ونقيضها. منطق المفارقات ليس هو منطق المتناقضات، ليس هو المنطق الجدلي. النتيجة لا تستخلص هنا بعد تقديم فتحليل فنمو فتركيب. المعنى هنا قد يحدد ما تقدمه وقد يحيل إلى ما هو أبعد عنه. النص المكتوب هنا يطبعه التصدع. انه نسيج من الإحالات اللامتناهية، والأهم من ذلك من الإحالات التي لا تخضع لأي تراتب، فلا يتقدم المعنى الآخر لا تقدما بالشرف ولا بالزمان ولا بالمنطق. إن كان ولا بد من الحديث عن تقدم فهو تقدم بالوضع. *** ليست الكتابة الشذرية وسيلة لحفظ المعاني أو عرضها، وإنما مجالا لإنتاجها. إنها ليست أداة تعبير، وإنما حقل إنتاج. *** كأن هذه الكتابة تضبط الفكر وهو يعمل، إنها تعرضه أثناء مخاضه. فلا معنى هنا للتمييز المعهود بين منطق العرض ومنطق الاكتشاف، فهذه الكتابة تعرض نفسها وهي تكتشف. إنها توحد بين التحرير في المبيضة le propre والتسويد، le brouillon. *** يبدو التفكير الذي تفترضه هذه الكتابة وكما قيل، تفكيرا بـ «الخطف». ومع ذلك فليست الشذرة توقُّفا و عدم حراك. إنها «حاضر» متحرك، حتى لا نقول هاربا. وهي تومئ إلى وجهة من غير أن تدل على طريق، إنها لا تغني عن إعمال الفكر، وإنما تسعى لأن تضبط الفكر وهو يعمل.لنقل إنها «بريق» فكر يرغب في الانفلات من قهر المنطق وثقل الحاضر ورتابة الاتصال.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©