السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حين لا يبقى سوى الحبّ

حين لا يبقى سوى الحبّ
22 يوليو 2015 22:27
«نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحبّ الاّ للحبيب الأوّل كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأوّل منزل» لا أحد ينطق لغة الضاد أو يسكنها لم ينبض قلبه يوماً على إيقاع هذا القصيد الذي أودع فيه الشاعر الكبير أبو تمّام بعضاً من معاني الحبّ الملقاة في نفوس ملّة كانت تعتبر الحبّ «مطلوب النفس ومتمّم القوة، بل الحبّ هو النفس ذاتها»على حدّ عبارات مهيبة لفيلسوف العرب الأوّل الكندي. أمّا ابن حزم فقد رسم طوقا للحمامة تسافر بك عميقا في رحاب الحبّ وأخبار المحبّين الذين تحفل بهم الذاكرة. فكان ممّ كان أنّ «الحبّ، أعزّك الله، أوّله هزل وآخره جدُّ..دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف فلا تُدرك حقيقتها إلاّ بالمعاناة». أمّا وقد ولّى زمان «أعزّنا فيه الله» وشحّت نفوسنا وهزلت حواسّنا، فإذا بالعالم يصير بين أيادينا صحراء قاحلة بعد أن كان أجدادنا يؤثّثون الصحارى بقصائد الحبّ وحكايا العشق والعشّاق، في هذا الزمان الشاحب ربّما يجدر بنا أن ننادي الحبّ من جديد. لكن كيف نناديه وقد أخذ شعراء الحبّ في ديارنا عالمهم الجميل ورحلوا عنّا فأحكموا صمتهم عن عالمنا إلى الأبد؟ وأيّ الأغنيات تناسب الحبّ من جديد بعد أن غادرتنا كل الأغنيات الجميلة؟ يبدو أنّنا صرنا وحيدين تماماً في عالم يكتظّ بالسلع وبصناعات القتل والدمار وتتراكم فيه المُتع الاستهلاكية المبتذلة إلى حدّ القرف حتّى لتكاد تخال نفسك في سوق كبرى كل شيء فيها يُباع ويُشترى من الحبّ إلى الأعضاء الاصطناعية إلى القنابل العنقودية.. اخترعوا الحب علينا أن نخترع الحبّ من جديد: هذه الكلمات كتبها الشاعر الفرنسي الملقّب «بالملعون» أرتور رامبو في نصّ يحمل عنوان الجحيم. وكأنما ابتكار الحبّ من جديد لا يولد إلاّ في جحيم ما. لكنّ الجحيم هذه المرّة ليس «جحيما من القُبل» لأنّه ليس فرديّا تماماً. إنّ هذا الجحيم هو استعارة لزمن يفشل فيه البشر في قدرتهم على الحبّ. والأخطر هو أنّ هذا الفشل في الحبّ لا يتعلّق بفشل فردي إنّما هو فشل جماعي جعل العالم نفسه غير قادر على الولادة من جديد. إنّ ما يحدث في عالم العولمة هو تسطيح كل شيء وابتذاله إلى حدّ صارت فيه الحياة تعاني من فقر في المشاعر الجميلة.. انّ هذا الزمان زمان إحصاء عدد القتلى هو الذي جعل العالم يعيش على قلق كوني كأنّما الإنسانية على حافة الكارثة. فأنت تكاد لا تسمع غير أخبار القتل والقتلى والمؤامرات والأجندات المافيوزية وسفن الإنقاذ والسفن الحربية وسفن الحرق والغرق وجثث الضحايا في مدائن الخراب وما جاورها. لقد بعثرت المتوحّشة كل قصائد العشق الجميلة وكل قصص الحبّ التي تخصّنا: جميل بثينة وكثير عزّة وولاّدة ابن زيدون.. لقد صار الحبّ علبة استهلاكية في حضارة كل شيء فيها يُستهلك من المشاعر الشخصية إلى الثورات العربية.. ضدّ الحبّ المعولم ضدّ هذا الحبّ المعولم يستعيد الفيلسوف الفرنسي المعاصر آلان باديو نمطا آخر من الحبّ في كتاب له (صدر سنة 2007) وقعت ترجمته أخيرا من طرف الكاتبة والمترجمة المصرية غادة الحلواني تحت عنوان «في مدح الحبّ» (2014). ونحن إذ نكتب عن الحبّ ههنا، فإنّما نكتب من أجل مصافحة نداء الحبّ مرّتين: مرّة بما هو نداء كوني من أجل إمكانية ولادة العالم ثانية. ومرّة ثانية بما هو انصات لايقاع الحبّ الذي تتقن الانصات إليه دوما امرأة ما. لأنّ كلّ امرأة هي على نحو ما سليلة لأفروديت وفينوس وعشتار وشهرزاد التي تهزم الموت بالحكي وبالحلم. «في مدح الحبّ» إذن هو استعادة فلسفية بهيجة للحبّ في زمن ساد فيه الاعتقاد بأنّ الجميع انّما يبحث عن مصلحته، في حين يأتي الحبّ دوما -هذا الشعور الكوني اللازمني- من أجل الفتك بهكذا اعتقاد. انّ الحبّ هو لقاء ما بالصدفة، مخاطرة جميلة لا أحد يتوقّعها ولا أحد يمكنه حسابها وتحويلها إلى سلعة. هو الحبّ كصدفة سعيدة تجعل حدثا ما على وشك الوقوع بين يديها..هو الحبّ كآخر ما تبقى من الإنسان فينا وكأجمل ما بوسعه أن يساهم في ولادة العالم على نحو مغاير. وهنا يقوم الحبّ شرطا جوهريا للفلسفة نفسها ما دامت الفلسفة هي من حيث الاشتقاق اللغوي الدقيق فيلوسوفيا أي حبّ الحكمة. فأيّ شكل من الحبّ يجعل الحكمة ممكنة بيننا مرّة أخرى في عالم مسعور باستهلاك الحياة وتحويل البشر إلى مختبرات، ومشاعرهم إلى أشكال من العصاب في زمن الاكتئاب؟ من أجل إعادة ابتكار الحبّ علينا أن نؤمن مرّة أخرى بالحقيقة في عالم لم يعد يؤمن بأيّ شيء حتى بإمكانية العالم نفسه. لكنّ هذه الحقيقة تولد دوما في شكل أحداث حبّ أو فنّ أو علم. فهي ليست حقيقة واحدة بل هي مفتوحة ومتعددة ولامتناهية هي نتاج قدرتنا على اقتناص الفرصة والتقاط الصدفة في أوانها. فما يحدث إنّما يحدث على شكل صدفة أو ومضة أو حظّ ما. كل الشعوب تملك فرصة ما بوسعها اقتناصها وصيدها كأن نقتنص ثورة ما فنحولها إلى فكرة جميلة لعالم مشترك دون أن تصير تلك الفكرة إلى فكرة فاشية وهو ما يحدث لربيع عربي فشل في اختبار صدفته التاريخية فارتدّ على أعقابه كمحبّ مهزوم مكسور الفؤاد. إنّ الثوّار أيضا يفشلون في اقتناص الصدفة كلّما فشلوا في ابتكار الحبّ من جديد: حبّ العالم بشكل مغاير. رُبّ حبّ يحرّر العالم من السخرية العدمية لنظام إمبريالي عالمي يحوّل البشر كل يوم إلى أفراد مصابين بالهشاشة والكآبة من فرط الإدمان على نهارات بلا أفق. لذلك نحن نحتاج إلى تصوّر جديد للحبّ ليس هو التصوّر الرومانسي للشعراء الذين أغرقوا العالم بقصائد الغزل والهجر ومعاناة المحبّين ونزواتهم. فعالم الإمبريالية الغارق في السلع الى حدّ الغثيان لم يعد يتّسع لأحلام الشعراء. ههنا نحن بمحضر فلسفة جديدة في الحبّ لا تشتغل على الحبّ الخاصّ بالأفراد في حميميّتهم الضيّقة وأغوار جراحهم الغامضة، إنّما بالحبّ كشكل من المقاومة للعولمة القاتلة. الحبّ في كتاب «في مدح الحبّ» هو موقف وجودي لبناء الحريّة من أجل ولادة العالم مرّة أخرى. انّ الحبّ الذي علينا ابتكاره من جديد هو حبّ يقاوم تسطيح الذات الإنسانية واختزالها في صورة الفرد الليبرالي العصابي ذي الرغبات الأنانية. ههنا يقترح علينا المفكّر آلان باديو حُبّا يغيّر من مفهوم الذات في علاقتها بالآخر، هذا الآخر الذي يغدو في الحُبّ بوصفه حبيبا لا بوصفه وعاء لنزوة أو متعة أو شهوة. انّ الأمر يتعلّق إذن بحبّ مضادّ لثقافة الحبّ الإمبريالي الاستعراضية الفجّة التي تختزل الحبّ في الرغبة، في حين أنّ الحبّ فكرة تحرّرنا، من أمراض الفرد العصابي وتجعل من الواحد منّا اثنين، أي اقتدار على التحرّر من عزلتنا في العالم. لم يعد «العشّاق وحيدين في العالم». لأنّ كلّ عاشق سيتدرّب من هنا فصاعدا على النظر الى العالم من وجهة نظر «اثنين» وقد التقيا في الحبّ من أجل الاشتراك في بناء حرية. حب تحت التهديد لقد أصبح الحبّ «حبّا تحت التهديد». هو الحبّ الذي تؤمّنه الإعلانات الإلكترونية كما لو كان بإمكانك أن «تحصل على الحبّ دون أن تنتظر الصدفة». انّ حبّا تسوّق له وسائل الدعاية هو حبّ لا نشوة فيه ولا مخاطرة، هو الحبّ تحت «التهديد الآمن». والخطير في هذا النوع من الحبّ الذي تنتجه مكنة الرأسمالية وتؤمّنه بوليصة التأمين هو حبّ أناني قائم على إقصاء للآخر. ههنا يقوم تماثل مفزع يكشف عنه باديو بين قوانين الجيوش التي تقول دوما «أنّ المخاطر سوف تلحق دوما بالآخر» وبين الحبّ الإمبريالي القائم على ثقافة الاستهلاك والمتعة الفردية التي تقصي الآخر بوصفه ذاتاً بتحويله إلى موضوع رغبة جنسية. إنّ الحبّ في زمن يملك دوماً نفس الأسلوب الذي للجيوش . يقول باديو «انّه الأسلوب ذاته (صفر قتلى) الذي ينطبق على الجيوش الغربية..ذلك أنّ القنابل التي تسقط تقتل الكثير من الناس، لكنّ هؤلاء يقع عليهم اللوم لأنّهم يعيشون تحتها». فذاك الأمان الساخر لحبّ تصنعه المكنة يجعل الحبّ يعاني حسب باديو من عدوّين اثنين: «الأمان الذي تضمنه بوليصة تأمين ومنطقة الراحة التي تهدّدها المتع المحدّدة». إنّ الحبّ الذي علينا ابتكاره من جديد هو الحبّ بما هو «بناء للحريّة» حيث تعني الحرية إمكانية اختبار العالم من وجهة نظر اثنين. سيغيّر الحبّ من أسئلته إذن وسيكون عليه أن يسأل: «ما نوع العالم الذي يراه المرء حين يختبره من وجهة نظر اثنين وليس واحدا؟ كيف يصبح العالم حين يختبره المرء ويمارسه ويعيشه من وجهة نظر الاختلاف وليس الهويّة». يكتب باديو في فقرة مثيرة حول معنى الحبّ مرّة أخرى: «حين أميل إلى كتف المرأة التي أحبُّ أرى..سلام الشفق فوق جبل ما والحقول الخضراء الذهبية وظّلال الأشجار والخراف الصامتة..الساكنة وراء أهداب الشمس.. وأعرف..أنّ المرأة التي أحبّ ترى العالم ذاته وأنّ هذا التطابق جزء من العالم..».. إنّ الحبّ لقاء وابتكار للحياة وولادة للعالم حيث يفقد العالم قدرته على الولادة. لكن علينا أن نفصل بين الحبّ والسياسة ففي «السياسة هناك أفراد لا يستطيع أحد أن يحبّهم». إنّ المشكلة التي تواجهها السياسة ليست الحبّ، بل هي الكراهية. وعليه فالساسة مطالبون بالسيطرة على الكره لا بإدارة مشاعر الحبّ. إنّ أهمّ ما نظفر به من هذا الكتاب الفلسفي الذي يقترح فيه باديو تصوّرا طريفا حول الحبّ هو الأفكار التالية: * هو حبّ نضالي يحرّرنا من حبّ إمبريالي أناني قائم على المتعة وثقافة السلع. انّه خبرة للحقيقة من وجهة نظر اثنين تجعلنا نستطيع أن نقابل العالم بوعي آخر غير الوعي المنعزل. * إنّنا إزاء حبّ ابداعي يجري تحويراً عميقاً على تصوّرنا للذات البشرية بما هي شوق إلى الحياة المشتركة في عالم جميل يتسع للجميع. * ضدّ حبّ لاهوتي لمسيحية الورع والخضوع ثمّة إمكانية لإبداع شكل آخر من الحبّ، إبداع أرضي وولادة مختلفة لعالم جديد لديه قدرة على التجدّد وسعادة ننتزعها نقطة نقطة. * وإن أردت أن تعثر على مشاعر الحبّ الجديد عليك ألاّ تبحث عنها لا في الكهنوت الكئيب ولا في السياسة التي لا تحبّ أحدا.. بوسعك أن تلتقي الحبّ في الفنّ حيث بوسعك أن تستعيد «بُعد المعاني للقاء، للثورة، للتمرّد». لكن لا ينبغي الاعتقاد في أنّ الثورة هي الإمكانية الوحيدة لولادة العالم. * علينا مقاومة عبادة الهوية للتكرار بحبّ كل ما هو مختلف وغريب ومتجدّد. فالحبّ هو طاقة ما على التجدّد الدائم فمن لا يتجدّد بالحبّ يموت قبل موته بكثير.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©