الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الفصاحة.. البكماء والت ويتمن

الفصاحة.. البكماء والت ويتمن
22 يوليو 2015 22:00
أمضى الشاعر الأميركي الكبير والت ويتمن (1818-1892) الأيّام الأخيرة من حياته في ريف هادئ بعيدا عن صخب المدن الكبيرة، وهوائها الفاسد. وفي هذه النصوص القصيرة التي كتبها من وحي تلك «الأيّام المتميّزة» Specimen Days يتحاور مع الطبيعة، ويستنطق الأشجار، ويتأمّل الأرض في نهايات الشتاء، محاولاً من خلال هذا كلّه النفاذ إلى أسرار الحياة وخفاياها. أوّل سبتمبر 1876 ليس عليّ أن أختار الشجرة الأكثر إثارة للإعجاب، أو الأكبر حجماً لكي أتحدث عنها. ها أمامي الآن واحدة من الأثيرات إلى نفسي. إنها شجرة حور صفراء جدّ مستقيمة، يبلغ طولها ما يعادل تسعين قدماً. ومن تحت، أي عند الجذع، هي عريضة بما يعادل أربعة أقدام. كم هي قويّة، وكم هي ممتلئة بالحياة، وكم هي صامدة! أيّة فصاحة بكماء تعادل مثل هذه الفصاحة! كم من شكوك تظلّ تراودنا باستمرار حين لا تهتمّ الكائنات سوى بالمظهر الخارجي التبسيطي. بعد ذلك، تأتي مظاهر تكاد تكون عاطفيّة لفنّ ملموس، بطوليّ لشجرة. شجرة جدّ بريئة. قليلة الإيذاء، متوحشة مع ذلك. ها هي.. غير أنها لا تقول شيئا. بهدوء رائع وخشن، هي تواجه تقلّبات الطقس، وهبوب الرياح العاتية. أما الإنسان فيركض باحثا عن ملجأ حالما تسقط قطرة من المطر، أو ندفة من الثلج. إنّ العالم (أو بالأحرى العالم المنقوص)، يسخر من عودة حوريّات الغابات والجنيّات (يقصد تلك الجنيّة التي تولد حسب الأساطير مع الثمرة وتموت بموتها)، ومن الأشجار القادرة على الكلام. لكن فلتظلّ الأشجار بكماء. وهي في هذه الحال أكثر بلاغة وإفادة من كثير من الخطب، والكتابات، والقصائد، والمواعظ. وفي الحقيقة، باستطاعتي أن أقول بأن هذه التذكّرات المبهمة لحوريّات الغابات هي أكثر صحّة من جميع بقيّة التذكرات، وأعمق من أغلب تلك التي تأتينا (أوقفوا هذا واحذروا ! يقول الصيادلة المشعوذون). أمّا أنا فأنصحكم بأن تذهبوا إلى غابة، أو إلى غيضة. اجلسوا هناك برفقة واحدة من أكثر الصديقات البكماوات، ثم اقرأوا ما تقدّم، وتأمّلوا. إنّ الدّرس الذي نستخلصه من هذه العلاقة الحميمة مع الشجرة، لعلّه الدرس الأخلاقي الأكثر سموّاً بين جميع الدروس التي تهبها الأرض، والصخور، والحيوانات، هو درس ما هو موجود، من دون أيّ اهتمام بما يمكن أن يتصوّره، أو يعلن عنه الملاحظ (الناقد)، أو يوافق عليه أو يرفضه. فهل بإمكاننا أن نجد مرضا أشدّ استفحالا وانتشارا من هذا المرض الذي يتسرّب إلى كلّ واحد منّا، كما يتسرب إلى أدبنا وإلى مدارسنا، وإلى موقفنا إزاء أشباهنا (إزاء أنفسنا أيضا، وجهدا مرضيا كهذا الجهد الذي يبذل حبّا في الظهور والذي عادة لا يبرز على هذا الوجه)، والذي يقابله هذا الجهد القليل أو المنعدم انعداما شبه تامّ لمعاينة المظاهر الدائمة والحقيقيّة للكتب، أو الصداقة، والزواج، والتي تشكّل ألأسس المخفيّة للإنسانيّة؟ (ذلك أن كلّ العناصر التي تجسّد نقاء الإنسانيّة وصفاءها تظلّ مخفيّة بالضرورة). 4 أغسطس: الساعة السادسة مساء أنوار وظلال. آثار نادرة على أوراق الأشجار والعشب. ألون خضراء شفّافة، رماديّة الخ... من روعة الغروب وأبّهته. الأشعّة الحادّة هي الآن مرسلة على أماكن متعدّدة جديدة. عند أسفل جذوع الأشجار، مبطّنة، مدروزة، بلون كامد كلون البرونز، مظلّلة إلاّ في مثل هذه الساعة. والآن هي تغمر الخشونة الفنيّة والعجوز للجذوع بنورها العنيف، مانحة أحاسيسي عناصر أخرى مدهشة من السحر الصامت والكثيف، هذا اللحاء الغليظ، وهذا التعبير الهادئ المصحوب بالعديد من التورّمات، والعقد التي لا تبصر أبداً قبل ذلك. وفي ما يتكشّف عنه النور وهذه الساعات الاستثنائية والحالات التي يكون فيها الفكر في مثل هذا المقام، ليس علينا أن نندهش من تلك الأساطير (وهل هي أساطير فعلا؟) التي تتحدث إلينا عن أناس أصيبوا بمرض الحيّ أمام شجرة، وانتشوا انتشاء كلّيّا أمام الواقعيّة السحريّة لتلك القوة الصامتة، والمتعذّر مقاومتها، والتي هي قوّتها. هذه القوة التي يمكن أن تكون في آخر المطاف الجمال الأسمى والأقصى والأكمل. الأرض أيضا. لنترك الآخرين يسودون البحر بالحبر، والهواء (كما أحاول أن أفعل بين وقت وآخر). لكن لي الآن رغبة في أن أختار الأرض كموضوع للحديث. الأرض ولا شيء آخر على الإطلاق. الأرض السّمراء هنا (بالضبط بين نهاية الشتاء وبداية الربيع وانفجار الخضرة). المطر في الليل، والرائحة الجديدة لليوم القادم. الدود الأحمر الذي يخرج من التراب مسرعا. الأوراق الميّتة. العشب الطالع على مهل، والحياة الكامنة هناك في الأعماق. الجهد المبذول من أجل الشروع في شيء ما. الآن هناك بعض الأماكن المستورة ببعض الزهور. اللون الزّمرّديّ للمشهد البعيد لقمح الشتاء وحقول الجودر. الأشجار التي لا تزال عارية بفجواتها المكشوفة التي تمنح طرقا للنظر ليست متوفرة في الصيف. الأراضي المستريحة الخشنة، وأدوات الحراثة، والفتى المفتول العضلات الذي يحثّ خيوله. وهناك الأرض الدهماء، الغليظة بخطوط طويلة ومقلوبة. 5 سبتمبر1877 أكتب هذا في الساعة الحادية عشرة صباحاً، في ظلّ شجرة بلّوط كثيفة بالقرب من المنحدر، محتميا بها من مطر مفاجئ. لقد جئت إلى هنا (نزل رذاذ عبوس طوال الصباح، ثم حدث صحو منذ حوالي ساعة)، من أجل ذلك التمرين اليومي الذي يعجبني، وعنه تحدثت، أي أن أحرّك شجرة الجوز، وأثني غصنها، وأخضع نفسي لقوة جذعها المستقيم اللين. وربما أغذّي جسدي العجوز بشيء من ليفتها المرنة، ومن نسغها الصافي. وها أنا واقف فوق العشب. وقد قمت بمثل هذه الحركات الصحيّة دون إفراط طوال ساعة بأكملها. على فترات زمنيّة متباعدة، مالئاً صدري بنفحات من الهواء العليل. عندما أتجوّل قرب النهر الصغير، تكون عندي ثلاثة أو أربعة أماكن يمكنني أن أستريح فيها. وأنا لا أنسى أبداً أن أحمل معي كرسيّا أجلس عليه كلّما عنّ لي ذلك. وفي أماكن أليفة أخرى، اخترت شجرة الجوز، وأغصان زان قويّة، وطريّة، صالحة في تكون لي بمثابة أدوات رياضية لليد والصدر والعضلات. ثمّ لا ألبث أن أشمّ النسغ وهو يصعد من جسدي تماما مثل الزئبق وقت الحرارة. بعدها أشاغب الأغصان والأشجار الصغيرة بلطف في الظلّ، وفي الشمس، وأواجه براءتها القويّة، وأعرض خصائلها التي تتسرب منها إليّ. (أو ربما نحن نقايض أدوارنا وربما تكون الأشجار أشدّ وعيا بما يحدث أكثر ممّا أنا أظنّ). والآن أنا سعيد أن أكون تحت شجرة البلوط الضخمة. المطر الذي ينزل، والسماء المغطاة بسحب دكناء، ولا شيء غير بركة على هذه الناحية، ومساحة من العشب على الناحية الأخرى، مبقّعة هنا وهناك بالإزهرار الحليبي للجزو الوحشيّ. ثمّة صوت فأس يقطع أخشابا هناك بعيدا. ومع ذلك، من هذا الإطار الرتيب (كما يمكن أن يقول البعض) لماذا أنا سعيد وأنا هكذا وحدي؟ لماذا يقوّض أيّ اقتراب أو تطفّل حتى من جانب من أحبّ مثل هذه الفتنة؟ وهل أنا وحيد؟ ربما تأتي لحظة - لقد سبق وأن أحسست بها- نلج فيها كامل كياننا، خصوصا الجانب الحسيّ منه، أي الهويّة بين الذات والموضوع، والتي يحبّ كلّ من فيخته وشيلينغ الدفاع عنها (...) خلال الصيفين الماضيين غذّت هذه الهويّة جسدي وروحي العليلين كما لم يتمّ ذلك من قبل أبدا. شكرا لك أيّها الطبيب الخفيّ لوصفتك. وصفتك التي من الصمت واللذات. شكرا لنهارك وليلك/ لمياهك وهوائك/ لضفافك/ لعشبك/ لأشجارك ... 5 يونيو اليوم شاهدت طائراً ضخماً، بحجم مقطوشة. صقر متعال، بجسد أبيض وبجناحين داكنين.أعتقد أنه صقر استنادا إلى منقاره وإلى مجمل ملامحه، سوى انه كان يطلق صوتا قويّا، رنّانا على فترات منتظمة، ومن دون توقّف، من فوق قمّة ميّتة لشجرة تطلّ على الماء.ظلّ منتصبا هناك.وأنا ظللت على الضفّة ألأخرى أراقبه.ثم فجأة انطلق نحو ألأسفل حتى لامس النهر.بعدها ارتفع من جديد، وكان ذلك المشهد فاتنا للغاية.وراح الصقر يحلّق فوق صفحة الماء بجناحين مفتوحين لكن من دون أن يأتي بحركة، راسما دوائر أمام نظري وكأنه يرغب في إمتاعي بذلك. ومرة اقترب من رأسي ورأيت أنا بوضوح تام منقاره المعقوف، وعينيه القاسيتين اللتين لا تعرفان الكلل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©