الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سلفادوردالي.. روائياًً

سلفادوردالي.. روائياًً
22 يوليو 2015 22:26
* يرى دالي أن ثلاثية الماركيز دي ساد ناقصة لأنها اكتفت بالسادية والمازوخية فجاء هو بـ «الكليدانية» * يمارس دالي تشويهاته الروائية كما في التشكيل من دون أن يغيب عنه وعي التاريخ * تألق الفن الروائي في «وجوه خبيئة» عبر بناء الشخصيات وبناء المشاهد وتشغيل الأسطورة وتسريد المعلومة * تنعجن في الرواية الثقافة اللاتينية بالثقافة الفرنسية والسياسة بالدين بالفكر بعلم النفس بالموسيقى بالأوبرا بالشعر.. نبيل سليمان --------- في عام 1944 ظهرت رواية سلفادور دالي الأولى والوحيدة: (وجوه خبيئة). وإذا كان ظهورها بالإنجليزية في أميركا قد تأخر ثلاثين سنة، فقد تأخر ظهورها بالعربية، في اللاذقية، سبعين سنة (حتى 2014). وإذا كانت الترجمة العربية قد استقبلت بحفاوة، فقد استقبلت في أميركا بالدهشة التي بلغت حد الإنكار، وبالسؤال عما دفع بالفنان التشكيلي إلى بناء عالم روائي متخيل من الكلام. ------ كتب دالي الرواية عام 1943، في لجّة الحرب العالمية الثانية. وإذا كان مترجم الرواية إلى الإنجليزية هاكون شيفالييه، قد رأى فيها بعد ثلاثة عقود من ظهورها، شاهدةً على ضريح أوروبا قبل الحرب، فقد كانت الرواية شهادة على أوروبا وأميركا في أثناء الحرب. وبالتالي، إذا كان شيفالييه قد رأى أن «وجوه خبيئة» تقرأ كرواية تاريخية، فإن ذلك لا ينبغي أن يجعلنا ننسى أنها كتبت في الحرب وعنها، أي في اللجّة وعنها، وهذا ما ينادي السؤال اللائب دوماً عن المغامرة الروائية المتمثلة في الكتابة عن الراهن/ الحاضر، أو: التاريخ الجاري/ الساخن/ المتشكل. وهو السؤال الذي يخص دعوى الحاجة الروائية إلى (التخمّر) وانقضاء الحرب العالمية الثانية، أو الحرب الأهلية اللبنانية أو السورية –مثلاً- قبل الكتابة الروائية عنها، فالأمر رهن بما يتوفر للرواية المعنية من الإبداع، سواء أتعلق زمنها بزمن كتابتها أم بقرن مضى. عالم دالي بين التشكيل والرواية يرسم شيفالييه في تقديمه للرواية، بكثافة ودقة، ملامح عالم دالي التشكيلي: عالم معذب، إيحاءاته مرعبة، تشحذ انفعالاته المنحرفة والأولية نفسية الإنسان إلى أقصى حد. وقد قدمت لوحات دالي هذا العالم ذا القوانين الخاصة، والمشيد من ميثولوجيات الفنان، حيث المناظر المعدنية المقفرة، والقرى الإسبانية الشاحبة المظللة بسموات من طموح بلا حدود، والمأهولة ببشرٍ عالقين بتعابير ووضعيات قلق أو نشوة... وكما في التشكيل، هو عالم دالي في الرواية: عالم من التحولات التي تتعرض فيها الظواهر دوماً إلى تشوهات غريبة، وتكرر الأشكال والحدود الخارجية بعضها بعضاً، بتفاعل من المحاكاة الديناميكية. وهنا، على القول أن يمضي قدماً إلى ما بين التشكيل والرواية. فالكاتب هو ذلك الفنان المفتون بالسحر والتعاويذ والتمائم والخرافات والطقوس والمبالغات، والمسكون بما يكمن ثمة في (غياب) الخيال. وهكذا، تأتي الصورة الروائية، كما الصورة التشكيلية، مظللة بعناصر روحية تتجاور الحواس والمنطق، ومحفزة في الآن للصوت والشم والتذوق واللمس. والرواية (الدالية)،كما اللوحة (الدالية)، مجلى لألعاب دالي النارية في فلسفته وأفكاره، وهو القائل: «عاجلاً أم آجلاً، لا بد أن يأتي الجميع إليّ»، وهو القائل أيضاً: «من الصعب تجنّب الوقوع تحت تأثيري بشكل أو بآخر». ولقد بلغ بالتشكيل من ذلك قسطاً كبيراً أو أكبر، مما لم يتحقق في الرواية، ربما ليس لسبب فيها، أو ليس لذلك وحده، بل لأنها جاءت (بيضة الديك)، بخلاف النهر التشكيلي الدافق لهذا الفنان الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. دالي يقدم لروايته: يتحدث دالي في تقديمه لروايته عن نبوءة فيدريكو جارسيا لوركا عام 1922 بأن صديقه دالي منذور للأدب، ومستقبله يتركز في «الرواية النقية». ويتحدث دالي عن أنه ولوركا قد خططا في ربيع 1927، وهما على شرفة مقهى في مدريد، لأوبرا (أصيلة جداً). وحين تلقى دالي نبأ مصرع لوركا أضمر أن عليه أن يؤلف وحده (أوبرانا). وهو يجدد العهد على أن يكتب الأوبرا الموعودة بعد ما يفرغ من الرواية، ويعود إلى الرسم حيناً، ويتعلم الموسيقى سنتين... يعلل دالي نجاحه بأنه على الأرجح «الفنان الأكثر اجتهاداً بأيامنا هذه». وفيما يتعلق بروايته يذكر أنه قضى أربعة أشهر في عزلة، في جبال نيوها مبشر، قرب الحدود الكندية، ويكتب يومياً أربع عشرة ساعة. ولعل من يقرأ هذا من كتّابنا وكاتباتنا أن يجد فيه مثالاً يقتدى، فالمرء يمتلك الإلهام والعزيمة، كما يضيف دالي، من خلال العمل الجاد والمرهق كل يوم. يطرح دالي السؤال الذي يعاجل نبأ روايته: لماذا كتبت هذه الرواية؟ وفي الجواب تأتي (شطحاته) – وهو من وقّع مقدمة الرواية بـ: سيلفادور دالي الأول – في قوله إن لديه وقتاً كافياً ليفعل ما يريد، وإن لم يكتب هو هذه الرواية، فسيكتبها غيره بشكل سيئ. ولكن الأهم في الجواب هو أن قصة الحرب، وبخاصة الفترة اللاذعة لما بعدها، يجب أن تكتب. ولأن توقّع التاريخ وتركه يحاكي بأفضل ما لديه، ما توقّعه الكاتب – الفنان، هو أمر أكثر إمتاعاً من نسخ التاريخ. وأخيراً يقول دالي إن التاريخ المعاصر يقدم إطاراً فريداً للرواية التي تتعامل مع تطورات وصراعات العواطف الإنسانية العظيمة. وجملة ذلك تكشف عن وعي دالي العميق بتجربته الروائية، على الرغم مما قد تشي به (شطحاته) من مزاجية أو هرف، وهو الطامح إلى أن تكون له رواية (داليّة)، على العكس (تماماً) من زعم من زعموا قبل أن ينتهي من كتابة الرواية، بأنه يكتب رواية بلزاكية أو هوبسمانية. وقد أشار هاكون شيفالييه إلى أن دالي إذ يرسم شخصياته بدقة تجعلها أقرب إلى الفوتوغرافيا (قديمة الطراز)، إلا أن كتاباته تصويرية أولاً وأخيراً. ولعل غاية وعي دالي بروايته – كما سيتكشف في النص، وبما يشبه لعبة الميتارواية – تبدو في أطروحته الروائية: الكليدالية، نسبة إلى الشخصية المحورية في (وجوه خبيئة)، وهي سولانج دي كليدا. فدالي يرى أن ثلاثية الماركيز دي ساد ناقصة، لأنها اكتفت بالسادية والمازوخية، فجاء هو بالثالثة: الكليدانية، وهي لذة وألم مصقولان بالتماثل المتسامي مع الشخص. فسولانج دي كليدا شخصية قديسة، أعادت تأسيس شغف طبيعي حقيقي، ومعها وبها يحترق أبيقور وأفلاطون في شعلة واحدة من الغموض الأنثوي الأبدي. قبل الحرب تتوزع (وجوه خبيئة) على ثلاثة أقسام، ويتعلق أولها (السهل المضيء) بما قبل الحرب. وإذا كان هذا القسم يقدم أغلب الشخصيات، فهو يقدم ما لا يقل أهمية: سهل كرو دي ليبرو، حيث غابة البلوط التي ترسل براعمها الخضراء المصفرة كل ربيع، والتي تتقد رمزاً روائياً يشتبك فيه التاريخ – الحرب والإنسان والزمن. فعلى عهد والد الكونت إرفه دي جراندساي، كانت غابة البلوط مقدمة متجانسة للبانوراما الواسعة، ومكونة من أشجار البلوط العاتم المتموج الأسقفي، ومتناقضة مع المساحات المضيئة للوادي، لكنها تشبهها بكونها أفقية وقائمة بشكل لطيف. بيد أن (صلعة ترابية) تكسر بغير انسجام مجرى السريان اللحني لغابة البلوط. وهذه (الصلعة) أو المربع المقزز الذي تعرى من الأشجار، هو تدنيس لطفولة الكونت الذي يجسد ظاهرة الطين السحري، ومن هذا الطين تشكلت روح (أرض بلادنا). يتواتر مثل هذا التصوير – الوصف البديع في الرواية. ولعل ما يمثل صنيع دالي هنا، هو ما جاء عن الصدور الطبيعي للصور عن شخصية جيرارديان: صور من خيال لاذع قليلاً وساخر، ولها قدرة غريبة على اختراق الأحلام ومناطق الإغواء، وسريعة التأثير في العقول الخيالية؛ ولكن، أليست صور دالي الروائية، أولى بهذا القول؟ تلك هي وجوه ضيوف الكونت في حفل العشاء السقراطي الذي يقيمه في قصره. إنها الوجوه التي تضارع الوجوه الوحشية التي رسمها ليوناردو دافنشي، وبريشة – كلمات دالي تبدو عالقة في خيوط الشبكة المشوهة والمفترسة، تتلوى وتتجعد، تتمدد وتطول، تنضغط الجماجم وتتسطح الأنوف وتتحول إلى الأعضاء الأثرية الطوطمية الأبعد لحيوانيتهم الخاصة. وهكذا يمارس دالي لعبه – تشويهاته الروائية كما في التشكيل، غير أن وعي التاريخ لا يغيب. ففي قصر الكونت (قصر دي لاموت)، تملأ الحوارات في السياسة الفرنسية العشاء السقراطي، كما كان لسقراط، ففرنسا تستعد للموت عبر إطلاق النكات ومناقشة القانون، مما يرطن به أصدقاء الكونت جراندساي، لكنها الرطانة /الوعي إن صح التعبير، ومنه – مثلاً – ما يخاطب به سينتونج مضيفه الكونت ببعض الوقاحة: «شئنا أم أبينا، التاريخ المعاصر كثيف جداً ودراماتيكي، وكل منا متورط في كل ما يحدث، في ميدانه الخاص، حتى الأكثر تحفظاً، ولو لم يدرك ذلك». وإذا كان سينتونج يمضي إلى أن لكل منا ورقة حاسمة يلعب بها الآن – زمن الحرب – فورقة الكونت، من قبل ومن بعد، هي المحافظة على تراث سهل ليبرو، وأن يكون قادراً على زراعة (الصلعة)، بينما التقدم الصناعي يزحف إلى الريف. وقد جعلت الرواية من ذلك إيقاعاً لها منذ الصفحة الأولى، كما جعلته رمزاً. الحرب ليست الحرب في (وجوه خبيئة) بالحرب العالمية الثانية فقط، بل هي أولاً وأخيراً حرب سولانج دي كليدا والكونت، وهي المستعرة منذ خمس سنوات، بلا رحمة: الحب، التحدي، الغزل، الصراع. إنها حرب شرسة من الإغواء المتبادل والقلق والشغف. وفي هذه الحرب تترك سولانج نفسها تغرق في خيال معقد وعنيد واستحواذي: أليس هذا بخيال الكاتب؟ كما كان لأصدقاء الكونت عشاؤهم السقراطي، كان لأصدقاء سولانج دي كليدا حفل الكوكتيل الذي يتابع تقديم الشخصيات الروائية، وبخاصة من النساء: الأرملة الأميركية الثرية باربرا ستيفن، وابنتها فيرونيكا الشقراء التي يبدع دالي في رسمها، فشقرتها ليست بسبب شعرها الذهبي، بل بسبب الضياء المنبثق من جسدها، حتى لكأنها تجعل الأثاث حولها أشقر. ولرسم فيرونيكا يوثق دالي ما اقتبسه من حديث لوركا عن صديق له، فإذا بفيرونيكا «هادئة مثل تمثال أعجمي»، لا تحب نفسها، لكنها تود لو تجد شبيهها «الذي سوف أعبده». ولفيرونيكا علاقة مثلية مع بيتكا العذراء ذات الثمانية عشر عاماً والتي تكره والدتها، وترى الجماهير نهراً موحلاً من الأجساد البشرية في حالة التخمر الكامل. وقد رسم دالي بألمعية تجربة بيتكا مع سيسيل جودو في المخدرات (الأفيون). ببيتكا وطفلها تفتتح الرواية سيرة الحرب. فقد تعرضت بيتكا للاغتصاب من جماعة، وحملت من الطيار (بابا) وأنجبت، بينما الحرب تضطرم في أكثر الحروب الأهلية رعباً عبر التاريخ: الحرب الأهلية الإسبانية، وكذلك في الحرب العالمية الثانية، حيث تقدم الرواية (الحكمة الدالية) وهي: «يمكن توضيح الأفكار العبقرية بأفضل شكل من خلال أكثر الصور شيوعاً». وبتشغيل الحكمة الدالية روائياً تأتي ساعة الميتارواية، فيكتب الكاتب أن أبطال روايته، بالمسوخية كقدر لهم، سيرتدون سماتهم الحشرية الجديدة، وبها يرتقون إلى مستوى الشخصيات الملحمية، لذلك سيكون سهلاً على قارئ الرواية أن يرى الواقع العميق لشخصياتها، فإذا بـ «بيتكا» فراشة، وجراندساي فراشة أيضاً، لكنها فراشة أبي الهول الليلية الرمادية.... وفي السماء الصافية لهذه الرواية يتلألأ ستة أبطال في برج الثور، مخلدين الأسطورة الأبدية لظهور الثريا. والأمر كذلك يبقى على المؤرخ المخلص لتلك الحيوات، أي على الروائي، أي على سيلفادور دالي، أن يصف فقط معانقاتهم الجسدية بموضوعية عالم الحشرات، واقتران أقدارهم بالبرود الحسابي لعالم الفلك. تخاطب الرواية أسطورة تريستان وإيزولده المستوحاة من الأساطير التوراتية السلتية، والتي صارت أسطورة شعبية في القرن الثاني عشر، من خلال شعر العصور الوسطى الفرنسي. وعلى إيقاع الحرب تذخر الرواية بالحوار الفكري بين العاشقين اللدودين اللذين يمارسان التعذيب التانتالوسي (شوقْ ولا تدوقْ). إنهما سولانج وجراندساي الذي جعل من كتاب بيرولد (حلم بوليفل) إنجيلاً له، والبوليفانية تعني فلسفة الوقوع في الحب، أو التورط العاطفي مع أكثر من شخص معاً. هنا، كما في مواطن شتى من الرواية، وحيث يقتضي المقام فقط، وليس بالرطانة الثقافية، تتجلى ثقافة الكاتب العميقة والواسعة، في علم النفس كما في الفلسفة، وفي التشكيل أو الموسيقى كما في الأدب، بل وفي العلم أيضاً. وسوانح ذلك كثيرة وجديرة، من مكتبة جراندساي وقراءاته، إلى ثقافة سولانج، وصولاً إلى (العظام) بصدد الطيار (بابا) الذي تحطمت طائرته وتفتت جمجمته، وصارت له الخوذة العظمية الجديدة. إلى الدار البيضاء تقذف الحرب بجراندساي مرسلاً من حكومة فيشي للتفاوض على زيادة الواردات من شمال أفريقيا. وستقذف الحرب من بعد بالكونت إلى أميركا، حيث قذفت فيرونيكا، والطيار بابا. وعلى إيقاع الحرب يبدد الكونت حلم الزواج من سولانج، فيورثها العياء. وكما يتنكر لها ويتزوج فيرونيكا باسم نودير، يتنكر لها ابنها الذي يحتقر سلطتها وأمومتها، ولا يرى فيما بنت لنفسها من (سحر) في باريس إلا رمزاً لهزيمة 1940. وكان الراوي قد جعلها من قبل تجسيداً للحقيقة الباريسية، حين بدت كأنها واحدة من نوافير ساحة الكونكورد وقد انكسرت. لقد أخذت الحرب تطوّح بالشخصيات جميعاً، ولكن ليس بهم وحدهم. فسهل ليبرو يتطوح أيضاً، ما إن بلغه التعدين واحتله الألمان. وإذا كان ثمة من يقاوم الألمان، فالسهل سيقضي كما ستقضي سولانج بينما يكتب جراندساي لها، معترفاً بحبه وبزواجه وبهزيمته. أما موت سولانج، فهو ما يبئر الرواية في عنوانها الفرعي بالعربية: الموت في الحب. لقد أصبحت فيرونيكا بالنسبة لجراندساي هي سولانج. وفيرونيكا أدركت أن في حياة جراندساي امرأة أخرى، ورغبت في أن تصبح هي تلك المرأة. أما سولانج، فقد أدركت أخيراً وهي تكابد الحمى الدماغية أن عدوها الحقيقي هو جراندساي الحقيقي. والرواية تكرس سولانج مثل شجرة البلوط المسلوخ جلدها، رمزاً حياً، والمضحى بها بسبب الحرب، والمسلوخ جلدها بسبب السلام. ويتقد الفن في رسم الرواية لسولانج: نهدان من صخور حية، يصرخ الأولاد، ويغني الرجال: سيقان من العشب الطازج، إنها سولانج دي كليدا: فرنسا. وإذا كانت الرواية تنقفل على ذلك، ففي هذه القفلة – الخاتمة يحضر هتلر على إيقاع مقطوعات لفاجنر، حيث تدوي في أعماقه الأصداء الأولى للنغمات المتصاعدة في مشهد الموت لأوبرا تريستان وإيزولده. إنه المجنون الذي يهدر أنْ ليس عليه طرح أفكار، فهو يمنح العالم شذرات من روحه، هي بحسبانه شذرات من روح الشعب الألماني، ولكن ماذا عن جسد الشعب الألماني: يسأل الراوي وهو يقرن المجنون الألماني إلى المجنون الفرنسي: جراندساي. الفن الروائي فيما تقدم، تألق الفن الروائي في (وجوه خبيئة) عبر بناء الشخصيات، وبناء المشاهد، وتشغيل الأسطورة، وتسريد المعلومة. وفي التسريد بخاصة تتبدى الثقافة العميقة والواسعة لسلفادور دالي، حيث تلتمع الأسماء في العقد الروائي النظيم: من الرسامين الإخوة الثلاثة لونن – ماريا فورتوني – إل جريكو – ألبرت دورير، وسواهم من فناني القرن السادس عشر والسابع عشر، وصولاً إلى زمن الكاتب الفنان. ومن الأدباء: ستندال وراسين وألفرد دي فيني ولوتريامونت.. حتى بوخارين وبليخانوف من أعلام الفكر الروسي، لهم حضورهم في الرواية. وباختصار، تنعجن في الرواية الثقافة اللاتينية بالثقافة الفرنسية، والسياسة بالدين بالفكر بعلم النفس بالموسيقى بالأوبرا بالشعر.. ومن ألق الفن الروائي أيضاً في (وجوه خبيئة) هذا التفاعل العميق بين الجوّاني – الدخيلة – السريرة، وبين الخارجي – الموضوعي – الواقعي. ومن أمثلته الكثيرة، هو ذا انشغال كل شخص بعد الأحداث الدامية، جسدياً وروحياً، بالاستفادة إلى الحد الأقصى من حصته الصغيرة من السعادة (الذهاب إلى المطعم – تضخم الشعور الجبان بالخمول – الشعور بالدوران حول الذات – الشعور باللامسؤولية...). وهي ذي ما يدعوه دالي بالمتعة المنحرفة، وهذان هما العاشقان (بابا) وفيرونيكا اللذان يبدوان كأنهما ثنائي من حشرة فرس النبي في أسطورة تريستان وإيزولده، يلتهم أحدهما الآخر. وكذلك هي سولانج التي تصير في الأوبرا كاليدونيا فراستر بأجنحة بيضاء وجسد من الزئبق، ويصير أنجرفيل عاشق سولانج خنفساء سوداء. بألق الفن الروائي ستعرف كل من هذه الشخصيات خراب انفعالاتها الغريبة، بينما تبلغ المميزات البيولوجية الجنونية للحشرات الأكثر ضراوة. وستبقى مدارات حيوات هذه الشخصيات دوماً بعيدة مثل الومضة الباردة لمجموع النجوم. ولأن الأمثلة كثيرة، أكتفي بهذا الذي كان بين سولانج وأنجرفيل عندما كانا في طاحونة دي سورس، في سهل دي ليبرو، حيث زارت سولانج ضريح والدة جراندساي. في المقبرة، وعلى التابوت الحجري القديم، الذي نمت بين شقوقه سيقان سنابل طويلة وناعمة، تمددت سولانج وقالت لعاشقها: انظر إليّ كيف أكون عندما أموت. ثم أوقفت تنفسها، وشابكت يديها بين نهديها، متخذة وضعية الميت. لكن تعابير وجهها لم تتطابق مع الدور المفترض، بل بدت كأنها لا تستطيع التحكم بشفتيها اللتين كانتا مفتوحتين بابتسامة شهوانية. وقد أعلن أنجرفيل ما يراه في ذلك من رغبتها بأن يحل هو محل جراندساي، وأن يسيء لها مثله، فتعلن سولانج أنها ترغب بأن يأتي جراندساي الآن، وطلبت من أنجرفيل أن يقبلها من فمها، فلم يلبّ، حتى رآها كأنها ميتة حقاً، فقبلها كما طلبت، فصار جسدها جامداً كقطعة من خشب، ثم أصبح متصلباً كجسد عارضة في واجهة متجر أزياء! لقد عاد الكونت جراندساي في النهاية إلى قصره وسهله، مع الراهبة ومع ابن بيتكا. وكما يليق بالخاتمة التراجيدية – ومنها موت سولانج – تنتفض الراهبة فتنعته بالعجوز المعتوه، وتعدد من جرائمه قتله البطيء للقديسة سولانج: «لقد مزقتَ جلدها الحي قطعة قطعة عبر سنوات استشهادها الطويلة. وفي النهاية عندما اعتقدت أنك آت لتسعدها أعطيتها نصل سكينك الأخير في منتصف صدرها». وإذا كانت جريمة الكونت الكبرى هي أنه لم ينجب طفلاً، كما تعدد الراهبة، فهي تعلن له أنه لن يحظى بطفل إلا منها هي، إذ لازالت قادرة على الحمل على الرغم من بلوغها الخامسة والستين. عندئذٍ رأى جراندساي فمها الشيطاني كجدول، وأصابه لعابها بالهلوسة، وخيل إليه أنها شيطانة الحلم المخيفة التي طاردته طوال حياتها، وأن سولانج الملعونة أبداً بسببه، قد حلت في جسد الراهبة الشيطاني، لتكون معه. *** يكتب هايكون شيفالييه أنه أمضى أسابيع مع دالي وجالا – وإليها يهدي دالي الرواية – عندما كان دالي يكتب الرواية. ويصف شيفالييه لغة دالي الفرنسية بالثرية والملونة، وبأنها مليئة بالتوابل والرعد الإسباني. وكما يحدث عادة مع الأشخاص الذين ليسوا كتّاباَ بالأصل – يضيف شيفالييه – فإن غرابات اللغة المحكية تصبح مفرطة في الكتابة. وبالتالي كانت المشكلة التي واجهها شيفالييه، هي تخفيف الإفراط في التعابير المحلية وتحويلها إلى لغة مكتوبة من دون أن تفقد خصائصها، وهذا ما لعله كان واحداً من أسباب تألق الترجمة العربية. يتساءل شيفالييه عما إذا كان قد نجح في نقل نكهة أسلوب دالي وقوامه إلى الإنجليزية. وقد ردد الصديق متيم الضايع الذي ترجم الرواية إلى العربية، تساؤل شيفالييه، وقوله: «لا أستطيع الادعاء أني فعلت أكثر من نقله بشكل تقريبي». وبقدر ما في هذا القول لصاحبه ولمن ردده من التواضع، ربما يكون للمرء أن يتلذذ ويزهو بقراءته لـ (وجوه خبيئة)، مردداً مع شيفالييه، ما خاطب به سيلفادور دالي: أنت سيد الاستعارة المركبة، والنعت الفائض. أنت تحيل أزاهير إسهابك حول موضوعك، وتنيره بألعاب نارية وهاجة...». أخيراً، وفي مثل مقام رواية (وجوه خبيئة) لابد للمرء أن يلوّح بالتقدير لمن كتب الرواية أو القصة من الفنانين التشكيليين العرب، ابتداءً بالراحل فاتح المدرس (سورية) وليس انتهاء بـ عبد الحميد الغرباوي وزهرة الزيراوي (المغرب)، ولكن، أيهما أهم: تلويحة الوعد بالفنان الكاتب / الكاتب الفنان، أم تلويحة التقدير؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©