الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه سليم بركات.. سديم البشروش

وجه سليم بركات.. سديم البشروش
22 يوليو 2015 22:00
كثافاتُ السّديم تتلاوحُ كملاءاتِ نساءٍ متطايرة من قرى مبعثرة، هي ما يستأثر بشرود وجه سليم بركات المنهوب بالنفير. نفيرٌ يصخب من قرون حيوانات خارجة لتوها من أحلام القيلولة. سديمٌ نبغ في أن يتشكّل طيورا غريبة، تتبادل مهمّة إيقاظ كوابيس الظهيرة وصرف الرياح جهة المهبّ الأثير: مهب الجنادب الغفيرة المندلعة من صندوق «موسيسانا». شرودٌ يتقصّى ذيل الأفق الرّاقص كذيل الحنكليس، أو علّه خائض في متحف الذاكرة، يستغور لقطة مهملة، بزغتْ فجأة على حاشية العمر. لقطة غادرة هي الدليل المفقود إلى فكّ لبس المعضلة. تماماً وكمالاً هي المعضلة التي تطابق إمعان هذا الوجه في الحيرة وقيافة أثر الغموض الملغز. الوجه المهووس بأقفال المتاهة. من يهتف بمعدن هذا الوجه المختوم بدهاء البوم، غير سلالات حيوان منقرض أبى خيال المكان إلا أن يحتفظ بأثر خياله. بين هذا الوجه الطاغوريّ (نسبة إلى الشاعر الهندي طاغور) وبين الغبار مواثيقُ صائفاتٍ يهسْهسُ بها شفقُ البيادر. بين هذا الوجه المثقل بنيكل الدّهشة وبين الرياح مواثيقُ أزلٍ ودم فريسة وغوايةُ عشبٍ وبحيرات. بين هذا الوجه المسترسل في نهْب السراب من هباء الأبدية وبين الثلج مواثيقُ غربان وشمال وقنص لا يستقيم إلا في غسق البياض. ثمّة دجاجٌ أحمق يضجّ في حواشي هذا الوجه. تبنٌ يتطاير من عربات تتكدس في طريق سوق الغجر. قمحٌ وشعيرٌ يتساقط من حمولات العتالين. غمامٌ ينتحل شكل سرْب من القطا. زوابعٌ تُوائمُ بين الثعالب والرّيش ورؤوس الشوفان... أراهن أن في جيبه يخبّئ جناح حباحب، مخلب وشق أو جمجمة حرباء، ريشة صرّد أو قرلّى... دعابات حرّى ينشغل بها أزيز الوجه الممهور بطنين الزيزان. وجه يبطش بيقظة تعوي داخلها الكلاب البرية. يتسلل إلى مراعي النوم، حيث يدفن الموت جراره تحت حجر بازلتيّ في خلاء ملغوم بالصمت والغياب. كهولة وطفولة تتناحر في كيمياء هذا الوجه المتأرجح بين غلس الملهاة وغسق الملحمة. بين فجر اللون ومساء الجريمة. بين منتصف ظهيرة التيه ومنتصف ليل القتل أو المنفى. ما الذي يجعل الوجه جفلاً؟ كجفول حيوان باغتته حشرجة شاحنات الحرب! هنا دم المسالخ (حيوانات وطيور وسحليات) يضرّج الوجه وصمت الوجه ولغة الوجه، وغير الدم هناك رائحة زرائب فواحة من صهد المسامات الغائرة. للوجه مدارات تشبه في تهويماتها مدارات أفاعي المياه النهرية (هل هي أفاعي نهر جغجغ أم نهر الخابور؟). عبر تلك المدارات التي تتناسل في ظهيرة الوجه، تنقشع أطيافٌ لقرى تتضاعف إلى ما لانهاية: بريفا/ عامودا/ كيستك/ بهارنك/ موزان/ سيمتك/ حلكو/ كوجك...الخ، قرى مشدودة أرساغها بخيط شيطانيّ إلى رسغ الطفل بداخله، يرنّ معدنها خلفه أنّى مشى أو حلّق. هكذا بأثر طقطقة حدوات البغال، بصليل إطباقات الفخاخ وحزن العصافير الميتة، بخدوش صراع الديكة وكدمات عراك الأكباش...الخ. وأما صرير الزيزان، فلا يغالبه إلا أزيز ماكينات الحصاد وقشّها المتطاير اللاذع، المقض للمضجع... تبدو النظرة الغائصة كسكين مخروطية في عضلة المدى، شعواء ومتشعبة، مفتولة من سياط البرق: إنه البرق الذي يضيء في لمح خاطف غسق المقبرة الشمالية. سمنٌ وملحٌ يدمغان اللون الطاعن في فضة الغرابة. كأن مواسم سلق الحنطة تحتفظ ببصمة بخار القدور في خيال الوجه. الوجه الذي يضيئه انعكاس القمر في أنياب جمجمة ابن آوى نافق. ما حكاية نديف الريش وطريق التوابل وصليل حروبها في هذه النظرة؟ ما قصة الشجرة العزلاء في أقصى هذه النظرة؟ ما سرّ العمارات السامقة للروث (وقود الشتاء)، التي تحاول العين الانفلات من بين أثلامها، أو النظر من أعالي سطوحها الشواهق؟ خراب عميم ينصرف إلى شؤونه هذا الوجه المترف بلمعة الفلز، المفتول من قنّب الفزع. إلى الهباء الأعمى يستنفر طيوره الجارحة، كي يصيد وحيش المجاهل. بلى، المجهول طريدته. مطبخه موصول بالباب الخلفي للرواية، وهندسة العدم لعبته الأثيرة. هنا يقرع ناقوس المصائر الأكثر إشكالا... حِيَلٌ كثيرة وكمائن دوارة يفخّخ بها الطريق إلى نفسه، وهو يرتكن في الحدّ الشبحيّ الأشدّ مجاورة للموت. تلك هبة الإقامة المريبة في الجانب الغامض من اشتباك المصائر... من جملة الايحاءات التي تجنح بها صور وجهه كمحارب ثوريّ وكمروّض للأفاعي الضّخمة وكسائس للفيلة في البنغال وكصائد لبنات آوى أو قنّاص للغربان البيض وكمنجّم أو فلكيّ...الخ، يرسخ وشمٌ لصورتين قرينتين: الأولى لشجرة نسابة هندية محتملة، حيث الشبه أقرب إلى وجه الشاعر طاغور، والثانية تمليها عنايته المفرطة بمعمار جسده، فتذكرنا بجسد الروائي الياباني «يوكيو ميشيما». موسيسانا وبيروت ونيقوسيا، هي مثلثه الفلكيّ، يسهل النبش على معادنها البرّاقة بين أثافي عزلته بسكوغوس السويدية، إنها مرصوصة مجازا في وجهه كطبقات متكارسة ومتلازبة. وجه ٌكأنّه منعكس في بئر القبيلة، حيث ريش القبرات يعتور هدوء الصفحة. كيفما اختلج الوجه بالمياه والأعشاب والريش، وكيفما ظلّ حريق عامودا يومض في خزائنه، فلا شيء يعدم دخان شواء الجنادب المندلعة من «موسيسانا» الذي يفعم الوجه ويختم على شماله الصلصالي بشكوك ضارية يفتقدها أنين اليقين في خرائب الشرق. هي ذي حفنة من سديم وجه سليم بركات، الشبيه بسديم مجرّة البشروش.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©