الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من أجْل المَسيحيّين العَرب إلى إلياس خوري

من أجْل المَسيحيّين العَرب إلى إلياس خوري
22 يوليو 2015 22:23
1 استطاع الإسلاميون، في ظرف وجيز، أن ينقلوا مناطق عدة من العالم العربي إلى عصر الظلمات من جديد. فمع صعودهم إلى السلطة، كانت علامات العودة إلى تلك الظلمات تُعلن عن نفسها، بكل غطرسة وجبرُوت. ولكن الدولة الإسلامية جاءت لتقطع الصلة مع جميع التنظيمات الإسلامية السابقة عليها، بما فيها تنظيم القاعدة. لا شك أن رؤية الإسلاميين إلى الحكم وإلى علاقة الفرد بالسلطة ذات درجات متفاوتة. وهي رؤية لها تفرعاتها وتشعباتها، منذ القرن التاسع عشر، أي قبل سقوط الخلافة العثمانية، حتى اليوم. ذلك ما أترك الحديث في شأنه إلى العارفين. وما له أسبقية، بالنسبة لي، هو مصير المسيحيين العرب، اليوم، على يد الإسلاميين. أوضّح، في البدء، أن المسيحيين العرب يعيشون خصوصاً في المشرق العربي، ابتداء من مصر والسودان، ومنهما في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق. ومن يعيشون منهم في المغرب العربي لا نعرف عددهم، لأنهم لا يزالون يمارسون شعائرهم في سرية. هؤلاء المسيحيون العرب، في المشرق، تعرضوا لمستويات من الطغيان، على يد الإسلاميين في جميع البلدان التي استولوا عليها. أما الطغيان في فلسطين فقد تحقق على يد إسرائيل. وجاءت الدولة الإسلامية لتقطع الصلة مع جميع التنظيمات الإسلامية السابقة عليها، بخصوص التعامل مع المسيحيين العرب، بما فيها القاعدة في العراق. أصبح التنكيل بالمسيحيين العرب في مقدمة مظاهر عصر الظلمات. فمنذ تربع البغدادي على كرسي السلطة أصبح من طقوس استعراض القوة والبطش تنفيذ أحكام الشريعة بطريقة تتنافى مع الإسلام كما تتنافى ومكتسبات التاريخ والقيم الإنسانية. ولعل الوقائع المتكررة، لجبروت الإسلاميين تجاه المسيحيين العرب، هي التي حصلت في سوريا والعراق، بالدرجة الأولى. حصل ذلك باسم تنظيمات إسلامية حيناً، وباسم الدولة الإسلامية حيناً. فهناك الخيار بين اعتناق الإسلام بالإرغام، وبين دفع الجزية أو هجرة البلد أو القتل. الوقائع والمشاهد، التي توالت عبر السنتين الأخيرتين، تبرز المعنى الوحشي الذي يعطيه هؤلاء الإسلاميون للإسلام. أما الغالبية المسلمة فتستنكر هذه الأفعال وتتبرأ منها، ومن الذين يصدرون فتاواها وينفذونها. كلُّ متتبع على علم بذلك. مع هذا فإني كنت أتمنى أن تعلن جميع البلدان العربية عن حداد على القتلى من هؤلاء المسيحيين العرب، أو إقامة صلاة الجنازة عليهم، لأنهم ضحايا الطغيان الديني باسم الإسلام. 2 إعلانُ الحداد، أو الاجتهاد في إقامة صلاة الجنازة، تعبير عن إدراك عميق لمقاصد الإسلام من جهة، والانتقال من الاستنكار والتبرؤ من الطاغوت إلى التضامن مع إخواننا المسيحيين العرب، من جهة ثانية. فعل رمزي، في النهاية. بفعل رمزي كهذا، يمكن أن نأمل في زمن مغاير للماضي أو لهذا الحاضر الوحشي. لقد عرف العرب والمسلمون حروباً طائفية على امتداد تاريخهم، بين مسلمين، ومسلمين، بين مسلمين، ومسيحيين، بين مسيحيين، ومسيحيين، وبين مسلمين، ويهود. هذا جزء من مأساة التاريخ البشري، حيث كانت الحروب والمذابح الطائفية باسم الدين وباسم الطوائف الدينية، معتادة. ولا يختلف العرب عن سواهم في هذا الجانب المظلم من تاريخهم. وأنا واحد من الذين يتتبعون فظائع الإسلاميين بحق المسيحيين العرب، وما وقع على إثر ذلك، من تمزيق شمل عائلات وفرار أفراد وجماعات إلى حيث يعثرون على مأوى آمن، أو الهجرة إلى بلدان عربية أو غربية. وفي كل مرة، أسترجع صورة المسيحيين العرب في العصر الحديث، بل أستحضر صور أصدقائي الشعراء والكتاب والفنانين، والأدباء من المسيحيين العرب. أستحضر صور هؤلاء وأسترجع صورة أولئك، فلا تفارقني الكآبة. يصيبني الخرس ولا أعرف بأي كلام أنطق ولا بأي كلام أتوجه إلى الذين ما زالوا من بينهم أحياء، مقيمين في بلدانهم أو مهاجرين في بقاع الأرض. هكذا أقضي الأيام كئيباً وعاجزاً عن الكلام بحق عرب، لهم مكانتهم العليا في العروبة والتاريخ النضالي والمواقف النبيلة. ولهم أكثر من أثر في العربية الحديثة، لغةً وشعراً وفكراً وإبداعاً. هؤلاء المسيحيون العرب عظماء في أفعالهم الثقافية، نبلاء في مواقفهم السياسية، كرماء في سلوكهم الحضاري. أستحضر صور الأصدقاء وأسترجع صور الذين تركوا للثقافة العربية إرثاً كنت دائماً أندهش لتنوعه وغناه. 3 لا يمكن أن نتحدث عن الثقافة العربية الحديثة بدون الوقوف على المساهمات العديدة، والمتفردة، للمسيحيين العرب في تكوينها ونشرها. فهل لأجل ما قدموه، وما سعوا إليه، في الثقافة والعلم والسياسة والمجتمع ينالون، اليوم، على يد الدولة الإسلامية كل هذا التنكيل؟ ربما. لأن الجواب باليقين يعني أن الإسلاميين قرؤوا وعرفوا، ما كان للمسيحيين العرب من دور في تاريخنا الحديث. الإسلاميون جاهلون، ولا يعنيهم أمر الثقافة والتاريخ. أتوا ليلغوا تاريخنا الحديث بكامله. تلك مهمتهم على الأرض. إن فكرة العروبة، بالمعنى السياسي، تعود إلى بداية القرن العشرين. أو كما يكتب ألبرت حوراني في كتاب الفكر العربي في عصر النهضة: «الاعتقاد أن الناطقين بالضاد يشكلون أمة، وأن هذه الأمة يجب أن تكون مستقلة ومتحدة، لم يتضح ويكتسب قوة سياسية إلا في القرن الحالي [العشرين]»، ويعتبر جميع الإسلاميين، بدرجاتهم المختلفة، من الوسطيِّ إلى المتعصب، أنهم جاؤوا لتكريس فكرة مضادة تماماً لهذه الفكرة. الإسلاميون يقومون على مبدأ تقويض فكرة العروبة، والعودة إلى الفكرة الإسلامية. تقويض فكرة العروبة إلغاء لتاريخ عربي حديث، لأنها، بنظرهم، سبب كل ما لحق العرب المسلمين من هزائم. أدبيات الإسلاميين تفصح عن هذا الموقف، الذي يتضمن نقداً، بهذا القدر أو ذاك، لفكرة العروبة. نتفاءل عندما نعتقد أن الإسلاميين يقومون في موقفهم السياسي على بناء نظري وفكري. ويصبح التفاؤل أكثر فداحة مع تنظيم الدولة الإسلامية. هذه التنظيمات العقائدية والسياسية تسحقُ الثقافة والفكر عند النطق بكل رأي أو حكم. موقفها الواضح هو الإسلام، لا شيء بعده ولا قبله. ويعني الإسلام السيف، كناية عن السلاح الذي ينصر الشريعة على أعدائها. أو شعار الدولة الإسلامية «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» الذي هو الشهادة التي ينطقها المسلم. وإذا كانت الشهادة هي «أفضل الذكر عن المسلمين» فهي، عند الدولة الإسلامية، فرض الشريعة الإسلامية كأساس للحكم والحياة في دولة الخلافة، التي يرونها على طريقتهم في تأويل منهج النبوة. جميع التنظيمات الإسلامية تتفق على نبذ فكرة العروبة وتقديم فكرة الإسلام عليها، حتى في النظر إلى العربية، التي يعتبرونها لغة القرآن قبل أن تكون لغة العرب. نبذ فكرة العروبة نبذ للمسيحيين العرب. فهم الذين كانوا وراء صياغة هذه الفكرة والتعريف بها والنضال من أجلها. حدث ذلك ابتداء من 1870، حيث عبرت الدعوة عن نفسها من خلال مجلة «نفير سورية»، التي أنشأها بطرس البستاني سنة 1860، ثم تحولت ابتداء من 1862 إلى مجلة «الجنان». تاريخ عريض لفكرة العروبة، لكن المعلم، بطرس البستاني، هو مؤسسها الكبير. 4 سيرة بطرس البستاني تعطينا فكرة عن هذه الشخصية العالمة والنبيلة، التي يمكن أن نختصرها في عبارة المحب للغة العربية، التي كرس حياته لتحديثها. فهو ألف معجم «محيط المحيط»، أنشأ في بيروت «المدرسة الوطنية» سنة 1863، جعل من الحديث النبوي «حب الوطن من الإيمان» شعار الانتماء لأرض الوطن، وألف موسوعة عربية باسم «دائرة المعارف» التي اشترك في تأليفها معه ابنه سليم البستاني. إضافة إلى العديد من الكتب التربوية، ومجلة «نفير سورية»، ثم «الجنان»، اللتين كانتا ناطقتين بفكرة العروبة. تنطلق فكرة العروبة من اللغة العربية، مقابل سيادة التركية في البلاد العربية التي كانت (باستثناء المغرب) خاضعة للدولة العثمانية. والعربية المقصودة هي العربية الحديثة، لذا كان المشروع يهدف إلى تحديث للعربية، متعدد الوجوه، بحيث تصبح العربية قابلة للتفاعل مع المعارف والعلوم الحديثة. وإلى جانب اللغة هناك المدرسة، التي كان إنشاؤها بداية عهد تربوي جديد عبر العالم العربي، إذ أصبحت فيه مفتوحة في وجه جميع أبناء الوطن، تعطى فيها الأولوية للثقافة التي تربي في الناشئة الحس الوطني وتتغلب على ثقافة الطائفة بين الأديان أو ضمن الدين الواحد. وبتأليف المعجم اللغوي والموسوعة تكتمل حلقات المشروع الثقافي لبطرس البستاني، الذي هو القاعدة الصلبة لمشروعه التربوي والسياسي في آن. لبطرس البستاني لقب المعلم. وهو لقب مستحق، لأنه كان يرمي إلى توصيل فكرة العروبة بوسائل عملية، يعتمد فيها على نفسه وعلى النخبة السياسية التي آمنت بالفكرة. وإلى جانب بطرس البستاني لائحة طويلة من المسيحيين العرب الذين وهبوا حياتهم للعمل من أجل عالم عربي حديث، ومواطن عربي حديث. ذلك أن فكرة العروبة، التي تأسست على اللغة العربية، اتسعت لتشمل مشروعاً اجتماعياً وسياسياً، بل مشروعاً حضارياً، يستجيب لمشروع النهضة العربية. من هنا نجد الفكرة تتضمن الدفاع عن المساواة في الحقوق المدنية والسياسية، حتى يصبح العرب مواطنين، لا ينقسمون إلى مسلمين، وأهل ذمة، ويتحررون جميعاً من وضعية الرعية. ونجد، في الوقت ذاته، العمل على تغيير العقلية السائدة في مجتمعات سوريا ولبنان، ومنهما في الأقطار العربية الأخرى، تغيير عقلية الانقسام إلى عقلية الوحدة، وعقلية التحارب إلى عقلية التضامن. 5 البدء باسم بطرس البستاني يدل على صعوبة اختيار من نبدأ باسمه، في لائحة المسيحيين العرب، الذين فتحوا أوراش الفكرة العربية. فقبله كان ناصيف اليازجي أول أستاذ مسيحي للعربية في لبنان، وإلى جانبه فارس الشدياق، الشهير بكتاب «الساق على الساق»، ولويس شيخو صاحب «شعراء النصرانية» في الجاهلية وفي الإسلام، وشبلي شميل، أول من أدخل نظرية داروين إلى الثقافة العربية، وفرح أنطون بدراساته عن ابن رشد، وجورجي زيدان صاحب مجلة «الهلال» وسلسلة الروايات عن العرب وتاريخ الأدب العربي، وجبران خليل جبران الذي أحدث ثورته المباركة في اللغة العربية وأدبها، وخليل مطران، المجدد في الشعر العربي الحديث، وميخائيل نعيمه بكتاباته وأعماله، سلامة موسى وأعماله التي نشرت حركة فكرية تحررية أثرت في أجيال من العالم العربي، فيروز بعبقريتها الفنية، التي تسحر العالم، إدوارد سعيد، صاحب كتاب «الاستشراق». والأسماء الجديدة، منذ الخمسينيات حتى الآن لا عدّ لها، في الشعر والرواية والفنون والعلم، إذ يكفي أن نذكر من بينها يوسف الخال، إدوار الخراط، أنسي الحاج، إلياس خوري، بول شاوول، حتى تنفتح اللائحة من جديد في اتجاهات يصعب معها التوقف. هؤلاء الأعلام، لم يعملوا على فكرة العروبة منفصلين عن إخوانهم من المسلمين، في أكثر من منطقة عربية. فالنخبة من المثقفين العرب التحمت فيما بينها من أجل هدف بعيد، هو إحلال العربية مكان اللغة الرسمية وتحديثها لتستقبل الثقافة الأروبية الحديثة في الأدب والفنون كما في العلوم المختلفة، إنسانية وطبيعية ورياضية. ثم إرساء مبدأ المواطنة في وطن عربي، والمساواة في الحقوق أمام القانون، وتبنّي قيم الحرية والديمقراطية. هذه هي الركائز التي قامت عليها فكرة الحداثة التي أخذت جذورها من فكرة العروبة. وما لا بد من الانتباه إليه هو أن المسيحيين العرب من كبار أساتذة كل عربي، مهما كان وحيثما كان. والحديث عنهم بصفة مستقلة اعتراف بفضلهم، وتحية إكبار لهم. فهم يحتاجون من كل كاتب ومثقف عربي، بل من كل مسؤول يمتلك الحس التاريخي، إلى فضح ما يحدث لأحفادهم وإخوانهم من المغلوبين في قرى ومدن، معزولين، ومحاصرين. 6 ما يدعو للألم هو أن الأحداث، التي تتسارع، أصبحت تنسينا مأساة إخواننا المسيحيين العرب. فحرب داعش المستمرة بانتصاراتها تخيف. والمسيحيون العرب، في مقدمة من لا نرى فاجعتهم بما تتطلبه منا. فلا أعرف لحد الآن حركة مدنية عربية جعلت مهمتها مناصرة المسيحيين العرب. ما قرأناه وسمعناه (أو شاهدناه) ينحصر في شجب الفظائع التي ارتكبها إسلاميون بحقهم. ولم تكن لغة الشجب مشتركة بين المسلمين. فهناك عدد كبير من الدعاة المسلمين جاهروا باتهام المسيحيين العرب أو تكفيرهم. خرج هؤلاء الدعاة من كل مكان إلى الشوارع والتجمعات العمومية، وأنشأوا المواقع الاجتماعية، وفيها واصلوا حملاتهم الظالمة. برأيي أن كل واحد يتكلم العربية الحديثة، اليوم، مدين بتعلمها للمسيحيين العرب. وأقل ما نرد به الجميل هو الوقوف علانية إلى جانبهم، بدون تباطؤ ولا تساهل. فالوقائع تشير إلى أن الضحايا من المسيحيين سيبقون معزولين. واللجوء إلى الغرب ليس حلاًّ، لأن أرض العرب أرضهم، وتاريخ العرب الحديث امتزجت فيه دماؤهم بدماء إخوانهم من المسلمين. وليس من وقوف أقل من تكوين جمعيات مدنية لمساندتهم. وهي مبادرة لا تكلف أكثر مما نطيقه. حركة إنسانية تقيم صلات بهؤلاء المظلومين، المقهورين، وتقول بالقلب وبالفعل نحن معكم. لا يعقل أن يشعر المسيحي العربي بعزلة على أرضه، وبين أبناء لغته وثقافته. أحفاد هذه السلالة الرفيعة من الداعين لفكرة العروبة إخوتنا، نحن المسلمين. قريبون منا وأعزاء على نفوسنا مهما بعدت الديار. والذين ظلموهم باسمنا جاهلون، مجرمون، قتلة. ونعرف أنهم يكفّرون كل صوت حر، ويهددونه بتطبيق الحدّ عليه. 7 من أجمل وأقوى ما تعلمته من الثقافة العربية الحديثة هو عدم التمييز بين مسلم ومسيحي، بين ابن طائفة وابن طائفة أخرى. لم أعرف كيف أنعت كاتباً أو فناناً بالسني أو الشيعي، بالمسيحي أو المسلم أو اليهودي. هذا هو الدرس الكبير الذي تعلمته من الثقافة العربية الحديثة. لا فرق بين رفاعة الطهطاوي وفارس الشدياق، بين محمد عبده وشبلي شميل، بين طه حسين وخليل مطران، بين جبران وأبي القاسم الشابي، بين إدوارد سعيد وعبد الله العروي، بين أم كلثوم وفيروز. معيار التصنيف والتمييز هو الأعمال والأفكار. منذ الستينيات أخضعت الثقافة العربية فكرة العروبة للنقد. أقصد نقد أسسها الفلسفية والنظرية أو نقد تطبيقاتها في أنظمة عسكرية، لم تحترم فيها لا قيم ولا حقوق. هذا النقد طبيعي، بالرجوع إلى الهزائم التي تلاحقت على الأرض العربية. ونقد الفكرة من صلب الفعل الثقافي. ومهما أوغل النقد في تفكيك أسس الخطاب وممارساته، فإن الفكرة تظل فكرتنا، فكرة المستقبل. لم يأتِ النقد لإلغاء الفكرة بل ليفتحها على جروحها وعلى إمكاناتها في آن. فمما كنت أقرأه لدى المسيحيين العرب هو أنهم يفتخرون بعروبتهم، وأن العربية لغتهم. بل كنت دائماً أجد في كتاباتهم تأكيداً على أن الثقافة الإسلامية ثقافتهم. فهم يحبون القرآن والشعر، مثلما يعشقون الجاحظ والمتنبي وأبا تمام وأبا العلاء وابن رشد والموشحات الأندلسية وابن عربي وقصر الحمراء ومسجد قرطبة. يقرؤون الثقافة العربية الحديثة، من خلال أعمال كبار كتابها، بدون حدود. كانوا أقلية في وسط مجتمع مسلم، لكنهم كانوا فاعلين، مشاركين ومبدعين، في جميع مراحل الثقافة العربية، قديماً وحديثاً. 8 لم يخطر على بالي أن أفكر في ديانة أو طائفة أي من أصدقائي الكتاب والفنانين العرب. بل أخجل اليوم مما وصلنا إليه من ظلم المسيحيين العرب باسم الإسلام. نحن معاً على خط واحد في مقاومة هذا الطاغوت، لكن هناك ما لا أستسيغ حدوثه باسمي. في شبابي حصلت على نسخة من الكتاب المقدس، بالعربية، ثم حصلت، قبل سنوات، على الترجمة الجديدة التي كان يوسف الخال من المساهمين فيها. وكنت دائماً أتساءل عن السبب الذي لا يجعل المدرسة العربية تدرس المسيحية واليهودية إلى جانب الإسلام. لا ندرس هذه الأديان لا في المدرسة الابتدائية ولا في الثانوية ولا في الجامعة. لذلك كنت أؤيد محمد أركون في دعوته التربوية لتدريس الأديان الثلاثة في المدرسة العربية، للمسلم والمسيحي واليهودي على السواء. حزن كله أوجاع على مآل المسيحيين العرب على أيدي تنظيمات إسلامية. إنه مآل فكرة ومآل مستقبل الفكرة. وأعترف بأنني عاجز عن تجاوز حزني، وعاجز عن إخفائه كلما وجدتني أمام صديق مسيحي. مع ذلك نحن جميعاً نكتب بهذه العربية الحديثة، وسنظل نكتب بها حلمنا وخيالنا، رفضنا ومقاومتنا. فأنا سليل هؤلاء المسيحيين العرب النبلاء، بفضلهم أحببت عربيتي، وبفضلهم أتقاسم حبَّها مع نفوس حرة في أكثر من مكان. مسؤولية ما لابد من الانتباه إليه هو أن المسيحيين العرب من كبار أساتذة كل عربي، مهما كان وحيثما كان. والحديث عنهم بصفة مستقلة اعتراف بفضلهم، وتحية إكبار لهم. فهم يحتاجون من كل كاتب ومثقف عربي، بل من كل مسؤول يمتلك الحس التاريخي، إلى فضح ما يحدث لأحفادهم وإخوانهم من المغلوبين في قرى ومدن، معزولين ومحاصرين. إخوة في الوطن هؤلاء الأعلام من المسيحيين العرب، لم يعملوا على فكرة العروبة منفصلين عن إخوانهم من المسلمين، في أكثر من منطقة عربية. فالنخبة من المثقفين العرب التحمت فيما بينها من أجل هدف بعيد، هو إحلال العربية مكان اللغة الرسمية وتحديثها لتستقبل الثقافة الأوروبية الحديثة في الأدب والفنون كما في العلوم المختلفة، إنسانية وطبيعية ورياضية. ثم إرساء مبدأ المواطنة في وطن عربي، والمساواة في الحقوق أمام القانون، وتبنّي قيم الحرية والديمقراطية. هذه هي الركائز التي قامت عليها فكرة الحداثة التي أخذت جذورها من فكرة العروبة. لا فرق من أجمل وأقوى ما تعلمته من الثقافة العربية الحديثة هو عدم التمييز بين مسلم ومسيحي، بين ابن طائفة وابن طائفة أخرى. لم أعرف كيف أنعت كاتباً أو فناناً بالسني أو الشيعي، بالمسيحي أو المسلم أو اليهودي. هذا هو الدرس الكبير الذي تعلمته من الثقافة العربية الحديثة. لا فرق بين رفاعة الطهطاوي وفارس الشدياق، بين محمد عبده وشبلي شميل، بين طه حسين وخليل مطران، بين جبران وأبي القاسم الشابي، بين إدوارد سعيد وعبد الله العروي، بين أم كلثوم وفيروز. معيار التصنيف والتمييز هو الأعمال والأفكار. فعل رمزي إعلان الحدَاد على القتلى من المسيحيين العرب أو إقامة صلاة الجنازة عليه تعبير عن إدراك عميق لمقاصد الإسلام من جهة، والانتقال من الاستنكار والتبرؤ من الطاغوت إلى التضامن مع إخواننا المسيحيين العرب، من جهة ثانية. فعل رمزي، في النهاية. بفعل رمزي كهذا، يمكن أن نأمل في زمن مغاير للماضي أو لهذا الحاضر الوحشي. فكرة العروبة تمثل مشروعاً حضارياً يستجيب لمشروع النهضة العربية ...........................أحفاد الداعين لفكرة العروبة إخوتنا وأعزاء على نفوسنا، والذين ظلموهم باسمنا جاهلون ومجرمون وقتلة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©