الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«رامبارت».. أو الوحش الحامي

«رامبارت».. أو الوحش الحامي
19 يوليو 2012
هل الطبيعة الشريرة والفاسدة هي نتاج لميراث ذاتي ولتراكمات داخلية صرفة وذات جذور عميقة تمتد إلى بدايات التكوين النفسي والذهني للشخص الفاسد، أم أنها نتاج للخلل المسيطر على البيئة الخارجية المحيطة بهذه الشخصية، والتي تدفعها قسرا إلى التكيف والاعتياد والتسليم بشروط هذه البيئة الشرسة التي تختلط فيها المعايير بحيث يتحول عنصر الشر في نسيجها الملوث إلى عنصر مشروع ومباح ومهيمن على التفكير الجمعي وعلى التفسير الاجتماعي لهذه الإشكالية الأخلاقية العنيفة والمدمرة؟؟ الأسئلة هنا مرّة وحائرة، يتقاطع فيها الحكم الشخصي مع الحكم العام، ويتداخل فيها الهوى الذاتي مع الهوى الشائع في المكان، وكل هذه الحيرة والمرارات يضعها فيلم “رامبارت” Rampart ثاني أفلام المخرج الأميركي أورين موفيرمان على طاولة التشريح كي يفكك ألغاز الشخصية الفاسدة، وهي الشخصية المركزية هنا من أجل تحليل وتفسير دوافعها وتصرفاتها المستفزة والمقلقة، بالإضافة إلى محاولة الفيلم المزج بين حركة الكاميرا والتوليف البصري والمونتاج المكثف والموحي والقارئ لردات فعل الشخصية، وبين المكونات السردية للقصة ذاتها والمكتوبة أساسا للحفر والتنقيب في غوامض وأسرار هذا التطرف الأخلاقي، والتي يترجمها أدائيا هنا الممثل الإشكالي والموهوب وودي هاريلسون في دور الشرطي الفاسد حتى العظم: “ديف براون” المنتمي لفرقة المراقبة الخارجية الجوّالة في شرطة لوس أنجلوس، وبالتحديد في قسم يطلق عليه (رامبارت) ـ أو “المتراس” إذا أردنا إيراد الترجمة الحرفية للكلمة ـ وهو قسم اشتهر في حقبة التسعينيات من القرن الماضي بفضيحته المدوية المتعلقة بالاعتداء العنصري العنيف والوحشي على المواطن الأميركي الأسود “رودني كينغ”، وبفضائح أخرى متعلقة بتفشي الفساد الإداري وتسريب المعلومات والرشى والمحسوبية والتغطية على الأخطاء الشنيعة التي ارتكبها أفراد الشرطة في تلك الفترة وتمريرها حتى يبقى سجل الإدارة العليا للشرطة نظيفا ومثاليا أمام الإعلام والقضاء. متاهات وتناقضات سبق للمخرج موفيرمان تقديم فيلم آخر جميل ومؤثر في العام 2009 بعنوان “المبعوث” The Messenger، وهو أول أفلامه الروائية الطويلة، وشارك في الفيلم وودي هاريلسون أيضا بالتعاون مع الممثل بن فوستر البارع في تقديم الأدوار المركبة والشخصيات ذات الأطوار الغريبة، وتناول الفيلم قصة مجندين يقومان بإيصال الرسائل الصادمة لأهالي وأقرباء المجندين الذين قضوا في الحروب، وعندما يكسر أحد المجندين الشرط الأساسي لمهمة المبعوث وهي عدم التدخل أو التعاطف مع أقرباء الضحايا، يجرفنا الفيلم معه إلى متاهة من العلاقات الخطرة والتوابع المؤلمة والناتجة عن كسر هذا الشرط المهني الملزم. فيلم “المبعوث” كان متماسكا وحقق شروط البناء الدرامي والتصاعدي الناجح والملامس لهكذا قصص مشغولة بصراعات نفسية متناقضة، ومتتبعة لخيوط الكارثة الاجتماعية الناتجة عن اتخاذ القرار الخاطئ في المكان الخاطئ. في فيلم “رامبارت” يضع المخرج ممثله المفضل هاريلسون في دور أكثر تعقيدا وأكثر التباسا وضلوعا في المتاهة الشخصية الموصولة بمتاهات خارجية تتعلق بالتمزقات الأسرية والالتزامات المهنية، وما يختلط بهما من طيش ورذائل وتصرفات فردية مشينة ومساهمة بقوة في تأجيج الأزمة الذاتية للشخصية المحورية في الفيلم. تبزغ شرارة الحس الملتبس والمتناقض لتطبيق القانون منذ اللقطة التأسيسية الأولى في الفيلم، حيث نشاهد الشرطي (ديف براون) الذي يحمل لقب (ديف المعتدي) وهو يجوب الشوارع الخلفية والأحياء الهامشية في لوس أنجلوس، وينظر باحتقار للأميركان من ذوي البشرة السوداء والآخرين المهاجرين من بلدان مجاورة مثل المكسيك والهوندوراس وغواتيمالا والسلفادور، والذين باتو أشبه بخليط من الملونين المدانين سلفا بجرائم الهجرة غير الشرعية وتهريب المخدرات والأسلحة وممارسة البغاء، وهي في مجملها تهم جاهزة ولا تستند سوى على مرجعية اجتماعية واقصائية مسبقة حتى عند أفراد الشرطة في هذه المدينة الشرسة التي ينظر لها المهاجرون من الخارج وكأنها أرض الميعاد، ولكنها من الداخل تبدو أقرب إلى غابة من الإسمنت والزجاج والمباني العالية المفخخة بالبؤس والفوضى والعذابات. لعبة ماكرة اللقطة التالية تقودنا إلى حياة الشرطي العائلية والتي تفصح عن الكثير من الكراهية والتنافر، فديف من جهة يسكن في ضفة معزولة عاطفيا بينما تتشارك أسرته المكونة من ابنتين وزوجتين شقيقتين في شؤونها ومشاغلهما الخاصة دون أن يكون لرب الأسرة دور في تلبية وترميم المشاعر المحطمة والحنان المنسي والمتسرب من هذه العائلة الصغيرة والمبتلية بالإهمال والتشتت، أما خارج نطاق هذا الحيز العائلي الكئيب وخارج المنظومة المهنة المثيرة للاشمئزاز، فإن كاميرا المخرج تكشف لنا ـ ومن خلال لعبة ماكرة من التلصص البصري ـ عن كل التصرفات المشينة التي يمارسها هذا الشرطي الفاسد في البارات المعتمة والغرف السرية للفنادق الرخيصة حيث نراه سكيرا ومدمنا على المخدرات وعلى النساء العابرات والمتع المؤقتة، في طقوس لذويه ومحرمة أشبه بمتواليات متلاحقة من التدمير الذاتي لوحش بشري متألم ومنعزل تتحول كراهيته لذاته إلى كراهية “تشمل الجميع وبالتساوي” كما يعبر هو بنفسه للمحقق الجنائي الأسود الذي يلاحقه ويشتبه في تورطه بجريمة قتل متعمدة وسرقة أموال أثناء إحدى مداهمته لعصابة مقامرة غير شرعية. وعندما تصطاد كاميرا أحد الهواة الشرطي ديف وهو يقوم بالاعتداء الشرس والمفرط على شخص أسود مشتبه به، تتحول هذه الوثيقة البصرية إلى صيد ثمين بيد وسائل الإعلام ووسيلة ضغط على إدارة شرطة لوس انجلوس كي تتخلص من أمثال هذه الشرطي المقيت والموبوء بالشر، ورغم كل هذه الضغوطات والملاحقات إلا أن ديف يخرج وفي كل مرة من هذه الورطات القضائية بصفحة بيضاء وغير ملطخة، والسبب في ذلك أنه يملك وثائق وأدلة كثيرة حول الفساد المتفشي في جهاز الشرطة التي يمكن أن ينشرها كرد فعل انتقامي لشخص يائس على حافة الإفلاس ولديه مشاكل في تمويل قرض المسكن الذي يضم عائلته ويمنعها من التشتت حتى لو كان بعيدا ومدانا ومكروها من قبل هذه العائلة. تكنيك الإخراج امتاز فيلم “رامبارت” بتكنيك التصوير المتعدد الزوايا والذي يمنح كل مشهد في الفيلم التأثير النفسي المستقل والخاص به، كما امتاز بلقطاته الدائرية التي تحوم فيها الكاميرا لتغطية كافة التفاصيل الهامشىة المحيطة بالكادر الأساسي، وهذه اللغة التعبيرية في التصوير السينمائي هي جزء أصيل في الأفلام التي تقوم على دراسة وتحليل الشخصية، لأنها تعكس التأثير المتبادل بين المحيط الخارجي وبين وجهة النظر الذاتية والمركزية التي تصدرها هذه الشخصية المتأزمة. واستخدم المخرج الإضاءة العالية في لقطات الحركة والمطاردات، بينما ذهب خيار الإضاءة الخافتة للقطات التي انفرد فيها الشرطي بنفسه والتي انطوت على مشاعر حميمة وأخرى مزدحمة بالأسى والأسئلة الوجودية وعقدة الذنب ومعاقبة الذات. على صعيد السيناريو الذي كتبه المخرج بالاشتراك مع الكاتب الشهير جيمس إلروي الذي كتب سيناريو فيلم “سري لوس انجلوس” L.A Confidential وتطرق فيه أيضا لفضائح التهريب التي مارستها شرطة لوس انجلوس، نجد إن الإيقاع السردي للأحداث كان أشبه بخلق روافد فرعية تصب في النهاية نحو الشخصية المركزية والعوامل التي يمكن أن تضع هذه الشخصية في مواجهة مباشرة وصريحة مع طبيعة الفساد الخلقي والمهني، وهذا ما ترجمه الفيلم فعليا حيث رأينا الشرطي ديف براون في كل مشاهد الفيلم تقريبا، وكان حضوره سائدا ومهيمنا لدرجة أن الشخصيات المساندة كانت أقرب لأطياف وظلال خفيفة وعابرة تسهم في دفعنا نحو البؤرة المركزية والسؤال الأساسي الذي يطرحه الفيلم وهو: “كيف يمكن لوحش بشري مستتر أن يحمينا من الوحوش الطليقة في المجتمع”! أما على صعيد الأداء التمثيلي فإن وودي هارلسون أكد من خلال دوره في فيلم رامبارت على موهبته الاستثنائية في ترجمة التشوهات الداخلية والنفسية وإيصالها إلى مرحلة الذروة والتقمص المثالي مع الشخصية المكتوبة على الورق، وهو أداء اكتشفناه مبكرا في فيلم “قتلة بالفطرة” الذي قدمه المخرج العتيد اوليفر ستون في العام 1994 واستطاع هاريلسون ان يقدم فيه أداءا ارتجاليا وعفويا ومبتكرا حول آلية تفكير وعمل الشخصية السيكوباتية للقاتل، والتماهي معها بحيث يتلاشى الحاجز الوهمي والمتخيل بين المتفرج الحيادي وبين أحداث وشخصيات الفيلم المطبوع على الشاشة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©