الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

جدليات الإيراني عباس كياروستمي إنجليزية وفرنسية وإيطالية

جدليات الإيراني عباس كياروستمي إنجليزية وفرنسية وإيطالية
21 أكتوبر 2010 15:37
إبراهيم الملا (الاتحاد) - للشاعر فريد الدين العطار النيسابوري قصيدة تلامس تفسيره الصوفي للوجود يقول فيها: “يا خفيا في الروح وأنت خارجها، إن كل ما أقوله ليس أنت، وهو أنت أيضا، أنثروا الأرواح وسيروا في الطريق”. شيء من مناخ وملمح هذه القصيدة له أن يتقاطع مع فيلم المخرج الإيراني العتيد عباس كياروستمي “نسخة طبق الأصل” الذي عرض مساء أمس الأول ضمن احتفاءات مهرجان أبوظبي السينمائي بالأفلام العالمية، الفيلم الذي عرض مؤخرا في مهرجان كان السينمائي حمل معه جدله النفسي والفلسفي وأسئلته الجمالية الواضحة أحيانا والمبهمة في أغلب الأحيان، أسئلة تتعلق بمفهوم الواحدية والتعدد، ومفهوم الغرابة التي تنشأ في ثنايا أبسط العلاقات الإنسانية، كما يركز الفيلم على مصطلح (الأصل) كمنتج فني وشعري وروائي وتشكيلي يستطيع أن يعيش حيوات متعددة، زاهية أو قاتمة إذا تحول إلى نسخ وأشباه ونظائر قد تقارب الأصل وقد تختلف عنه، هذه العلاقة المتوترة بين الأصل والنسخة ـ ومن وجهة نظر الفيلم ـ يمكن إحالتها على البشر أيضا من خلال شبكة العلاقات المتعددة والهائلة التي تجمع بينهم، فهذه العلاقات التي تبدو طيعة وسلسة ظاهريا يمكن لها أن تحمل في عمقها وفي نسيجها الباطني الكثير من العقد والإشكالات والنقائض والآلام الراكدة والمتحفزة للانفجار في أي وقت. فعندما يتعدد الأصل لا يكون له نسب واضح يعتّد به، ولكن النسخة التي تبدو كأثر وصدى لهذا الأصل تتحول بدورها وبعد مرور زمن طويل إلى أصل جديد ومستقل يبحث عمن ينسخه ويعممه ويشيعه بين الناس، هذا التفسير قد يكون مناسبا هو الآخر للدخول إلى فيلم كياروستمي من بابه المفتوح على التجريد والإبدال والوهم المتجسّد، “وهم” سوف يستدرج معه ثلاث شخصيات وسيجعلهم يتحاورون ظاهريا وضمنيا دون أن يكون هذا الحوار دالاّ على شيء، أو مشيرا إلى حقيقة مطلقة ومحسومة، الشخصية الأولى هي المرأة التي لن نتعرّف على اسمها طوال زمن الفيلم وتقوم بدورها الفرنسية جولييت بينوش التي فازت بجائزة أفضل ممثلة في مهرجان “كان” عن دورها في هذا الفيلم، الشخصية الثانية هي للمؤلف جيمس ميللر (يقوم بدوره وليم شيميل) الشخصية الثالثة ستتمثل في المشاهد نفسه القابع في صالة السينما، والذي سيظل حاملا حيرته معه خارج الصالة وعلى كاهله أيضا تساؤلات أخرى ثقيلة حول شخصيتي الفيلم وحول ما إذا ما كانا أصولا أو نسخا لشخصيات من الماضي أو حتى من المستقبل، هذه الحيرة التي لن تنطفئ نارها لأن المشهد الختامي للفيلم سيظل مفتوحا هو الآخر على التأويلات كلها، تبعا للنافذة المفتوحة التي تركها المخرج وهي مشرعة على الهواء والضوء والظلال والعصافير العابرة التي تلاشت في القصيدة البصرية المكسوة بلون السماء وبصرامة الحجر على البيوت المأهولة بأسرارها، وبحكايات البشر الذين يقطنونها ويحيكون بتصرفاتهم ومروياتهم كامل التفاصيل والنوايا والذاكرات التي تجمعهم وتفصل بينهم في آن. وضع كياروستمي عنوانا آخر للفيلم وهو “الحديقة المخادعة” ولكنه استعاض بالعنوان الجديد في اللحظة الأخيرة، ولكن العنوان المبدئي هذا لم يغب عن الفيلم وجاء في سياق الحوار العابر الذي يذكر فيه (شيمل) موضوع القصيدة الفارسية القديمة التي تتحدث عن الحديقة التجريدية التي تنكر جمالها وتتمرد عليه، فتتحول إلى حديقة يابسة عندما يدخلها الإنسان، وبعد أن يغادرها تعود لجمالها النضر والبكر الذي لم تكشفه لأحد من قبل، هذا الإسقاط الرمزي لتبدّلات البشر والطبيعة كان حاضرا في معظم الحوارات والمشاهد التي تضمنها الفيلم والتي تحيل على الطبقة الهشة والضعيفة التي تفصل بين الواقع وبين الخيال أو بين الأصل والنسخة وبين الزواج والطلاق والحب والكراهية والموت والميلاد، وغيرها من المتناقضات التي يمكن أن تجتمع في ظرف ما وفي تفصيلة معينة ويمكن أن تفترق في ظروف وتفاصيل أخرى. يحكي الفيلم ـ وقد لا يحكي أيضا ـ قصة الكاتب الإنجليزي جيمس ميللر الذي يأتي لمقاطعة توسكاني الإيطالية كي يروج لكتابة الجديد وبعنوانه الإشكالي: “نسخة طبق الأصل” الذي يرصد فيه التاريخ الطويل والمتشعب للآثار والأعمال الفنية التي تعرضت للنسخ والتقليد والمحاكاة منذ العصور القديمة وحتى عصرنا الراهن، يقدم جيمس نبذة عن كتابه في المؤتمر الصحفي الذي اختار أن يقيمه في هذه المقاطعة الضاجة بالجمال والسحر، والتي ألهمته وأسرته فألف عن مآثرها الفنية ما اعتبره وثيقة حب وعرفان للمكان الذي أقام فيه وعشقه قبل سنوات طويلة، يؤكد المؤلف للحضور بأن الأعمال المنسوخة لا تنفصل ولا تتنافر مع الخطاب الفني والجمالي للأصل، ونرى من ضمن الحضور امرأة ـ جولييت بينوش ـ وهي منشغلة أثناء المؤتمر بتصرفات ابنها المشاغب، تضطر المرأة لترك المكان قبل أن ينتهي المؤلف من طرح شروحاته ونظرياته حول الكتاب. ولكنه تترك ملاحظة للمترجم الذي رافقها وتحدد فيها موعدا لمقابلة الكاتب. في المطعم الخارجي نرى المرأة وهي تعنف طفلها على تصرفاته، ولكنه يتمادي أكثر عندما يشير لها بأنه لاحظ شرارة إعجاب في نظراتها إلى الكاتب، وقد تكون هذه الملاحظة الجريئة من الطفل أحد المفاتيح القليلة التي وضعها كياروستمي كي يمهد للشكوك والتأويلات التي يخزنها ويهيئها للمتفرج في المشاهد التالية، خصوصا وأن هذا المتفرج سيكون هو الطرف الثالث في لعبة الفيلم المدوخّة. عندما يلتقي الاثنان في محترف المرأة التي تبيع تحفا فنية أصلية وأخرى مقلدة، تثير حواراتهما الكثير من الشكوك لدى المتفرج حول مدى معرفتهما ببعض وحول مدى جدية بعض الحوارات ومدى تهكمها واستغفالها للتفسيرات التي يضعها المتفرج لأصل ومنبع العلاقة التي تجمعهما، تأخذ المرأة الكاتب في جولة لاكتشاف المدينة وتقرر أن تذهب لمكان خاص يجتمع فيه المتزوجون الجدد كي يتباركوا بقدسية وجلال المكان، نكتشف في سياق اللقاء الذي يجمعهما في سيارة المرأة وفي مرافق المدينة الأثرية مدى التوتر الذي يسمّ حواراتهما وردات فعلهما، ومدى الحميمية التي تتشكل في النقيض من تصرفاتهما عندما يتحدثان عن الذكريات البعيدة ومحطات الحياة القديمة. نكتشف أيضا أن المرأة مطلقة منذ 15 عاما وأن الكاتب ترك المكان الذي عاشت فيه هذه المرأة في ذات الفترة تماما، تتداخل الحوارات بين الاثنين بثلاث لغات مختلفة هي الانجليزية والفرنسية والايطالية كي تضيف بعدا آخر للفيلم حول مفهوم التواصل والانقطاع، وحول قدرة اللغة على ترجمة المحتوى الأصيل والحقيقي للأفكار والمعاني التي تعتمل فينا، وعطفا على الأماكن التي يزورانها والتلميحات التي تطلقها المرأة يضع المتفرج احتمالا قويا بكونهما مطلقيّن، وبأن المرأة تعمدت إحضاره إلى هذا المكان كي يحتفلا من جديد بعيد زواجهما الخامس عشر، هذا الهاجس سيكون حاضرا وهذا التفسير سيكون مقنعا ولكنه لن يصمد طويلا مع لعبة الإخفاء واللبس والمماطلة التي يمارسها المخرج على فيلمه الذي بات شبيها بغرف تنفتح على غرف أخرى، ثم أخرى، في متاهة ذهنية مندفعة لا تريد أن تستقر على خاتمة أو حل أو جواب، ينتهي الفيلم على النافذة المطلة على السماء، وكل الطيور والألوان والأصداء والأرواح المنثورة التي تعبر خارج هذه النافذة تبدو وكأنها نسخ مكررة لأصول ضائعة في حياة الممثلين وفي حياة مشاهدي الفيلم على السواء!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©