الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرجل العادي أفضل محامٍ

10 أغسطس 2014 17:26
حين تقول لشخص: «يا ثور»، فإن المحكمة لن تبحث في توافر القصد الجنائي من توجيه تلك الكلمة، فما قلته يعني ما قلته، ولا يعني مثلاً يا صديقي العزيز! وهو سبٌ معاقبٌ عليه وقضي الأمر، حتى لو كان المجني عليه يستحق ذلك الوصف الفخري. لكن كثير من الأفعال التي يعاقب عليها القانون لا يؤثم فاعلها إلا إذا توافر لديه القصد الجنائي، أي اتجهت نيّته لارتكاب ذلك الفعل. ولأنه لا توجد في المحكمة طاولة تشريح يوضع عليها المتهم ليقوم الحاجب بشق صدره ومعرفة نيّته، فإن المحكمة تستخلص النيّة من ظروف الواقعة وملابساتها. ولأن السبعة مليارات إنسان لا يتصرفون إزاء الظرف الواحد بطريقة واحدة، فإن المحكمة تنحي المتهم الماثل أمامها من مخيلتها مؤقتاً وتضع في مكانه الرجل المعتاد، وهو المتوسط بين الناس، وترى كيف كان سيتصرف هذا الرجل لو واجه الظروف التي واجهها المتهم، فإن وجدته يتصرف كما تصرف المتهم، فإنها تميل إلى الاعتقاد ببراءة المتهم، وإلا اتجهت لإدانته، بغض النظر عن نيته الحقيقية التي لا يمكن للمحكمة الاطلاع عليها. تخيل أن أحدهم كان يسير في أمان الله في وقت متأخر من الليل عائداً إلى مقر سكنه، وفي الطريق رأى امرأة تلوّح بيدها، فتوقف ليرى ما هي حاجتها، فطلبت منه إيصالها إلى بيتها. ولأن الرجل العادي قد يقبل ذلك بسبب خلو الشارع في ذلك الوقت من سيارات الأجرة، وبسبب الخشية من تعرض أنثى وحيدة لمكروه، فقد قبل الرجل إيصال المرأة. وفي أثناء الطريق غافل السائق المرأة، وسحب هاتفها المتحرك من يدها وألقى به إلى الخارج، ثم أقفل أبواب السيارة وأخذ يسير بها بسرعة جنونية، ثم أوقف سيارته أمام البناية التي يقطن بها، وأقفل أبوابها على المرأة، وصعد إلى شقته ونزل بعد قليل وهو يحمل سكيناً بيده، وفوجئ بالشرطة تلقي القبض عليه. في المحكمة، لن يصدق أحد رواية الرجل للأحداث، وهو أنه ألقى هاتفها إلى الخارج لأنها صدعت رأسه بثرثرتها طوال الوقت، وأنه أقفل الأبواب لأنه معتاد فعل ذلك كلما سار بالسيارة بسرعة، كنوع من الشعور بالأمان، وأنه كان منطلقاً بسرعة رغبة منه في الوصول إلى منزله لقضاء حاجته، وأنه أقفل أبواب سيارته أمام البناية لئلا تهرب المرأة بسيارته، وأنه صعد إلى شقته وقضى حاجته، ونزل يحمل سكيناً بقصد استعمالها لذبح خروف مع أصدقائه في جلسة شواء، بعد أن يوصل المرأة إلى بيتها. لن يصدقه أحد حتى لو كان صادقاً في كل ما يقول. وعلى العكس، ستصدق المحكمة رواية المرأة للأحداث، فهي كانت تقف في انتظار سيارة أجرة، لكن الرجل توقف ولطمها على وجهها وسحب منها هاتفها المتحرك وألقاه بعيداً ثم دفعها إلى سيارته وسار بها بسرعة عالية، ثم أخذ يهددها بالذبح إن لم ترضخ لرغباته. وأمام رفضها ذلك، أوقف سيارته أمام مقر سكنه وذهب لإحضار سكين ليجبرها على النزول من سيارته ومرافقته إلى شقته. سيصدق الجميع رواية المرأة حتى لو كانت كاذبة جملة وتفصيلاً، وسيدخل الرجل السجن بتهمة الخطف والتهديد وإتلاف مال الغير، لأن الرجل المعتاد لا يتصرف بالطريقة التي تصرف بها. وتخيل امرأة تهبط من الطائرة وهي تحمل باقة من الورود الحمراء والصفراء، ثم تقف أمام نقطة التفتيش على الأمتعة وهي تلوّح بالباقة لزوجها الذي ينتظرها خلف الحواجز، وعند وصولها إلى رجل الجمارك، تطلب منه بلطف أن يمسك بالباقة لئلا تتلف ريثما تضع حقائبها في الجهاز، فيأخذ رجل الجمارك الباقة ويشمها ثم يطلب منها مرافقته إلى مكتب التحقيق. فتسير خلفه متعجبة ثم تكتشف أن ما تحمله ليس سوى نبات الخشخاش الذي تستخرج منه الأفيون والهيروين. وسواء كانت المرأة مسكينة أم مهربة مخدرات محترفة، فإن تصرفاتها كانت طبيعية وتتوافق مع تصرفات الرجل المعتاد، خصوصاً إذا كانت قادمة من بلد تشتهر بزراعة المخدرات، وقالت إنها اشترت الباقة من بائع ورود أمام مطار الإقلاع، لكنها ستذهب إلى السجن حتى لو لم تكن تعلم أنها تحمل الخشخاش لو كانت قد دسّت الباقة بين طيات ملابسها أو في تجويف مخفي داخل حقيبتها، وبدت عليها مظاهر الارتباك منذ لحظة دخولها المطار. وتخيل أن شخصاً دخل محل صرافة ليستبدل بعض الدولارات، ووقف مثل الناس بثقة ينتظر دوره، وحين فحص المحاسب الأوراق المالية قال له إنها مزورة، فأخذ يخبط رأسه في الجدار ويبكي، وبعد قليل حضر مدير المحل وطلب منه الانتظار إلى حين وصول الشرطة، فأخذ يصرخ في وجهه ويقول إنه تعرض للخداع من شخص اشترى منه بضاعة وسدد قيمتها بتلك الدولارات، لكنه في النهاية انتظر حتى وصول الشرطة، فحيازة عملة مزورة جريمة يعاقب عليها القانون، لكن يشترط أن يكون الحائز على علم بأن ما بحوزته مزوّر. وبعد قليل من «البهدلة» سيعود الرجل إلى بيته كأن شيئاً لم يحدث سوى الخسارة المالية التي تعرض لها بطبيعة الحال، فقد تصرف بطريقة الرجل المعتاد الذي يجد نفسه في مثل ذلك الظرف، وكانت تصرفاته دليلاً على عدم علمه بحقيقة العملة المزوّرة، حتى لو كان في الحقيقة يعلم ذلك، بل كان هو نفسه الذي زوّر الدولارات بيديه. لكن تخيل أن رجلاً آخر ذهب إلى بقالة نائية وبحوزته رزمة من الدولارات، واشترى من المحل بضاعة وسدد قيمتها بتلك الأوراق، فأخذ البائع يتفحصها وبدأ الشك يساوره في سلامتها، فأطلق الرجل ساقيه للريح ولم ينتظر حتى استرجاع ما تبقى له، فالتقط البائع رقم سيارته واتصل بالشرطة. بهذه الملابسات، لن يصدق أحد أنه كان يجهل أن العملة التي بحوزته مزوّرة، حتى لو كان يجهل ذلك فعلاً، لأنه تصرف بطريقة غير معتادة، فالرجل العادي لا يأخذ الدولارات لبقالة تقع في منطقة نائية يعرف الجميع أنها لا تملك أجهزة كشف العملات، والرجل العادي لا يطلق ساقيه للريح حتى لو شعر بأنه سيقع في مشكلة، والرجل العادي لا يتخلى عن حقه في الباقي. لذلك، لا تلعب بالنيّة أبداً، ولا تقدم على تصرفات غير مألوفة عند إحساسك بوقوع مشكلة، وكن دائماً مثل الرجل المعتاد، فهو أفضل محامٍ لك على وجه الأرض.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©