الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين

لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين
18 أكتوبر 2018 02:13

كان عالم الأنتربولوجيا الشهير كلود ليفي ستروس يتمنى لو أنه ولد وعاش في القرن التاسع عشر لا العشرين. ومعه الحق على ما يبدو. لماذا؟ لأن هذا القرن (1800 ـ 1900) هو الذي أسس بالفعل الحداثة العلمية والفلسفية والصناعية والسياسية بل وحتى الدينية التنويرية في أوروبا.

إنه القرن العظيم، قرن القوميات أو تشكل الدول القومية الحديثة وتجاوز الطائفية أو المذهبية التي مزقت أوروبا وذهب ضحيتها الملايين كما تمزق الآن مشرقنا العربي المنكوب (أنا شخصياً أتمنى لو أني خلقت في القرن الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين أي بعد ثلاثمائة أو أربعمائة سنة عندما يكون فقه التنوير قد انتصر نهائياً على فقه التكفير، وعندما تكون الظلامية الدينية قد انحسرت نهائياً، وعندما يكون الإخوان المسلمون قد نزلوا إلى 5 بالمائة في كل المجتمعات العربية. عندئذ يطيب العيش في بلاد العرب..).

دولة الحق أولاً
يرى بعض الباحثين أن القرن التاسع عشر يبتدئ فعلياً بهزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو الشهيرة عام 1815، وينتهي باندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. أياً يكن من أمر ففي أثناء هذا القرن تشكلت الحداثة السياسية عن طريق تبني النظام الديمقراطي وإعطاء حق التصويت العام للشعب. ولكن هذا التصويت على أهميته ظل محصوراً بالرجال البالغين من دون النساء. يضاف إلى ذلك أن الطبقات الفلاحية والعمالية والشعبية كانت مستبعدة منه. ولم تساهم في الحياة العامة إلا بشكل تدريجي. ولم تحصل على حقها في التصويت إلا على مراحل. والسبب هو أن التصويت كان محصوراً بالطبقات العليا المتعلمة والمتنورة والميسورة أيضاً. لماذا؟ لأنها هي وحدها التي تعرف كيف تصوت على هدي من أمرها ولا تنتظر أوامر الأصوليين المسيحيين ورجال الدين لكي تعرف لمن تصوت. بمعنى أنها كانت قادرة على مقاومة ضغوط المسيحية السياسية والكهنوت الديني. ولكن ما إن استنار الشعب تدريجياً وتعلّم وتثقف حتى أصبح حق التصويت عاماً شاملاً للجميع.
هذه نقطة لا يتوقف عندها المثقفون العرب حالياً فتسمعهم يصرخون كالببغاوات: ديمقراطية، ديمقراطية، لا نريد إلا الديمقراطية! ولا يوجد ديمقراطي واحد فيهم أصلاً! ديمقراطية بلا ديمقراطيين! يكفي أن تختلف معهم في النقاش خمس دقائق فقط لكي يحقدوا عليك إلى الأبد. المهم أيها السادة: دولة القانون والمؤسسات والحكم الرشيد الذي لا يفرق بين هذا وذاك على أساس طائفي أو عنصري. المهم ذلك الحكم العقلاني المتبصر الذي يحارب التخلف أو التأخر التاريخي وينشئ الجامعات والمستشفيات ويطور المجتمع ويحدث نهضة اقتصادية وعمرانية وتكنولوجية وتعليمية هائلة كما هو حاصل حالياً في الإمارات العربية المتحدة مثلاً ، وتجيء الديمقراطية كتحصيل حاصل وبالتدريج عندما يكون الشعب قد تثقف وتنور وتبصر وتعلم. وهذا ما تحقق بالضبط في أوروبا بعد نضال طويل. فالانتصار على التخلف عندهم كلف ثمناً غالياً.
إذا لم يحصل ذلك فإن الأصوليين المتطرفين سوف يقطفون ثمار هذه «الديمقراطية العددية»، لأنهم هم وحدهم الذين يستطيعون السيطرة على جماهير الشعب البسيطة من خلال المساجد والمواعظ والمعجم الديني القديم الذي ينفذ فوراً إلى أعماق القلوب، ويهيمن على العقول. بل وحتى في بلد عظيم ومثقف وحضاري جدا كألمانيا استطاع شخص ديماغوجي ولكنْ خطيب مصقع كهتلر أن يصل إلى قمة السلطة بواسطة الصوت الديمقراطي الحر. لقد ربح الانتخابات بالفعل وأخذ أكبر عدد من الأصوات. هذه هي الديمقراطية العددية. فخيم كابوس من الفزع والجزع على العالم. وكانت النتيجة التي نعرفها..

قرقاش على حق
لماذا أقول هذا الكلام؟ لأني فوجئت مؤخراً بمواقف لأحد الكتّاب العرب، وكنت أعتقد أنه عقلاني مستنير من جماعة التقدم والحداثة والنهضة العربية فإذا به يدافع بكل شراسة عن الإخوان المسلمين في (الواشنطن بوست) وفي قلب أميركا! لحسن الحظ فإن الدكتور أنور قرقاش رد عليه وأفحمه. ولحسن الحظ أيضاً فإن المغرب أصدر قانوناً يمنع استخدام الدين في الحملات الانتخابية أو المنافسات السياسية. وذلك لأن الدين يمثل قدس الأقداس أو رمز الرموز في نظر الشعب، وإذا ما استولى عليه حزب ما فسوف يربح الانتخابات بشكل مؤكد بل وحتى أتوماتيكي. لا داعي عندئذ حتى للانتخابات. النتيجة محسومة سلفاً. هل تصوت ضد الدين! ولذا يقول القانون ما فحواه: ينبغي أن تربح الانتخابات على أساس برامج سياسية واجتماعية واقتصادية تخدم الشعب لا على أساس تحزبات دينية ضيقة. فالدين ليس لك فقط وإنما للجميع. هذه نقطة. وأما النقطة الثانية فهي أن جماعات الإخوان المسلمين تختلف كلياً عن الأحزاب الديمقراطية المسيحية في ألمانيا وعموم أوروبا. أردوغان ليس أنجيلا ميركل! فهذه الأحزاب الأوروبية المتطورة هضمت منجزات الحداثة الفكرية وتخلت عن التكفير والتعصب الطائفي منذ زمن طويل. ولا تأخذ من الدين إلا روحانيته وقيمه الأخلاقية. ولا تهدد إطلاقاً حرية المعتقد والضمير لأي شخص. وتعترف صراحة بمشروعية التعددية الدينية والفكرية داخل المجتمع. ولا تحاول أن تفرض عقيدتها بالقوة على الآخرين. ولا تنظر اليهم شزرا على أساس أنهم غير مؤمنين أو غير متدينين. ولا ترهبهم بشكل ضمني من تحت لتحت.. وأما النقطة الثالثة فهي أن الدين للجميع وفوق الجميع ولا يحق لأي فئة كائنة من كانت أن تحتكره لصالحها وتضرب بسيفه وتربح الانتخابات كما تفعل جماعات الإسلام السياسي وبالأخص الإخوان المسلمين. ثم ان الدين لله والوطن للجميع. ولا يحق لأحد أن يعتبر نفسه فوق الآخرين لأنه ينتمي حزبياً إلى الجماعات المتأسلمة وهم لا ينتمون. بمعنى آخر لا يحق لأحد أن يعتبر نفسه مسلماً أكثر من الآخرين ، وبالتالي فليكف هؤلاء المتأسلمون عن غطرستهم وعدوانيتهم. ليكفوا عن تلويث طهارة الدين بمناوراتهم السياسية.
نضيف إلى كل ذلك أن جان جاك روسو مؤسس الفلسفة الديمقراطية الحديثة اتخذ قراراً باستبعاد الكاثوليكيين البابويين من العملية السياسية. وكان يقصد بهم في الواقع الإخوان المسيحيين الذين كانوا يحتكرون الدين المسيحي ويضربون بسيفه ويرعبون الآخرين تماماً كالإخوان المسلمين عندنا اليوم. لماذا استبعدهم من الساحة السياسية؟ لأنهم كانوا يكفّرون الآخرين كل الآخرين بل ويمارسون الاغتيالات ضدهم. ولذا قال روسو بأنهم يشكلون خطراً على توازن المجتمع وأمنه وسلامته. هكذا نلاحظ أن الديمقراطية هي ثقافة متكاملة وليست فقط عملية انتخابية أو صناديق خشبية. بمعنى آخر فإن الأهم فيها هو صندوق الرأس لا صندوق الاقتراع! فإذا لم تتغير الرؤوس، أقصد العقليات، فلا معنى لأي ديمقراطية في العالم العربي. إذا لم تحل الثقافة التنويرية الحديثة المتسامحة محل الثقافة التكفيرية المتعصبة القديمة فسوف توصلنا الديمقراطية إلى مأزق خطير كما هو حاصل في تركيا أو إيران الآن مثلاً إذا لم يحل التفسير التنويري للدين محل التفسير الإخونجي فإن ديمقراطية القطيع هذه سوف تقودنا إلى مجتمع ظلامي تكفيري يقع خارج العصر ومنبوذ دولياً. جماعات كل ثقافتها قائمة على كتب حسن البنا وسيد قطب ومحمد قطب ويوسف القرضاوي والخميني وسواهم ما علاقتها بالديمقراطية؟ نعم للديمقراطية وألف نعم ولكن بمضمون حداثي مستنير لا بمضمون رجعي ظلامي عفى عليه الزمن. باختصار شديد: نحن نريد ديمقراطية تقذف بنا إلى الأمام، لا ديمقراطية تعود بنا قروناً إلى الوراء.

إنضاج الديمقراطية في أوروبا
وإذن فعلى الرغم من أن الديمقراطية كانت جزئية جداً في القرن التاسع عشر إلا أن الحكم أصبح دستورياً على الأقل في إنجلترا، أعرق ديمقراطية في العالم. بمعنى أنه لم يعد اعتباطياً تعسفياً وإنما كان خاضعاً لسلطة القانون. فالقانون أصبح ينطبق على الجميع كباراً أم صغاراً، حكاماً أم محكومين، كاثوليكيين أم بروتستانتيين. وهذا تطور هائل في تاريخ البشرية. ولا يعرف معناه إلا من ذاق حكم التعسف والاعتباط وانعدام القانون. ويمكن القول بأن فرنسا لحقت بانجلترا بعد الثورة الكبرى عام 1789، وبخاصة بعد ثورة عام 1948، حيث أعطت حق التصويت للطبقات الشعبية، ولكن من دون النساء (في فرنسا لم تعط المرأة حق التصويت إلا عام 1945 على يد الجنرال ديغول!). أما في البلدان الأخرى كالنمسا وأسبانيا وإيطاليا فقد ظل الحكم مطلقاً استبدادياً لفترة طويلة أخرى. وفيما يخص إسبانيا لم يصبح ديمقراطياً إلا بشكل متأخر جدا: أي بعد موت فرانكو عام 1975. ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن حرية الصحافة. فقد ناضلت القوى العقلانية المستنيرة طويلاً قبل أن تصبح هذه الحرية حقيقة واقعة، وأحياناً كانت ترجع خطوة إلى الوراء كلما تقدمت خطوتين إلى الأمام. وذلك لكي تبلع أو تهضم ما حققته. فتحقيق التقدم ليس عملية سهلة وإنما عسيرة جداً وشاقة على النفس. كل خطوة يدفع الإنسان ثمنها دماً ودموعاً ونقاشات صاخبة ومعارك فكرية وسياسية حامية. فالإنسان عموماً يحب أن يبقى كما هو متشبثاً بعقليته التراثية الماضوية. التغيير صعب، والانفصال عن الماضي والجذور من أصعب الصعب.
لقد دفع المثقفون الأوروبيون والصحفيون ثمن حرية الصحافة دماً ودموعاً. فالكثيرون تعرضوا للضغوط، والمراقبة، والقمع، والسجن، وأحياناً الاغتيالات والتصفيات الجسدية بسبب جرأتهم الفكرية ورغبتهم في التعبير عن آرائهم بحرية. ينبغي العلم بأن فيكتور هيغو نفي إلى خارج فرنسا لمدة عشرين سنة في ظل عهد نابليون الثالث. وقبل أن يُنفى كاد أن يتعرض للاغتيال أكثر من مرة بعد أن أحمرت عليه الأعين. وقد سجن ولداه كلاهما (شارل وفرانسوا) لأنهما فتحا جريدة في باريس وحاولا توسيع حرية التفكير والتعبير. وبالتالي فحرية الصحافة لم تسقط على الأوروبيين كهدية من السماء. لقد انتزعوها انتزاعاً بفضل نضالهم العنيد وعرق جبينهم. وقل الأمر ذاته عن كبار الكتاب والشعراء. فهؤلاء أيضاً تعرضوا للضغوط بسبب أشعارهم أو مقالاتهم أو رواياتهم. يكفي أن نذكر هنا أديبين اثنين: شارل بودلير، وغوستاف فلوبير. فالأول صودر ديوانه الشهير «أزهار الشر» بعد طباعته مباشرة. وقدم صاحبه إلى المحكمة التي عاقبته بدفع غرامة مالية كبيرة. كما وطالبوه بحذف بعض القصائد «المسيئة للدين والأخلاق الحميدة». وأما فلوبير فقد عوقب على روايته الشهيرة: «مدام بوفاري». فقد اعتبروها جريئة أكثر من اللزوم بل وتشكل «انتهاكاً لحرمة الآداب العامة والأخلاق الدينية والقيم الفاضلة». ماذا لو رأوا الحريات التي تتمتع بها المرأة الفرنسية حالياً؟ حتماً كان سيجن جنونهم ويعتبرون فلوبير شخصاً محافظاً جداً بل ورجعياً من الطراز الأول! على أي حال لولا تدخل «ماتيلد» أخت الإمبراطور نابليون الثالث لعوقب صاحبها بدفع غرامة مالية مثل بودلير أو ربما بالسجن. ولكن هل كانوا يعلمون بأن ديوان بودلير ورواية فلوبير سوف يصبحان لاحقاً من أعظم أمجاد الآداب الفرنسية؟
وأخيرا فان القرن التاسع عشر شهد أكبر غليان فكري حول الدين في فرنسا. فقد انقسم المثقفون آنذاك إلى تيارين أو ثلاثة: تيار ظل مخلصاً للقدامة التراثية المتمثلة بالكنيسة الكاثوليكية والبابا. وتيار مضاد لذلك تماماً ويدعو إلى علمنة الدولة والمجتمع وتحررهما من كابوس الفاتيكان والكهنوت المسيحي الظلامي. وتيار بين بين: أي يأخذ من الحداثة أشياء كثيرة مع المحافظة على بعض عناصر القدامة.

هتلر فوق ألمانيا
في عام 1932، عقد هتلر العزم على ترشيح نفسه أمام الرئيس الطاعن في السن باول فون هيندنبرج في الانتخابات الرئاسية المقررة. وبالرغم من أن هتلر كان قد ترك النمسا في عام 1913، فإنه لم يكن قد حصل حتى ذلك الوقت على الجنسية الألمانية. وفي فبراير قامت حكومة ولاية دوقية براونشفايغ لونيبورغ التي كان الحزب النازي مشتركًا فيها بتعيين هتلر في منصب إداري صغير ومنحته الجنسية باعتباره مواطنًا ينتمي إليها رسميًا. وهكذا، أصبح مؤهلاً لخوض الانتخابات الرئاسية.
ونال هتلر دعم قطاع عريض من المنادين بالقومية الرجعيين وأنصار الحكم الملكي والكاثوليكيين وأنصار الحكم الجمهوري وحتى الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية. وتم إطلاق اسم «هتلر فوق ألمانيا»على حملة هتلر الانتخابية. وأشار هذا الاسم إلى معنيين حيث أشار إلى طموحات هتلر الديكتاتورية من جهة، وإلى تلك الحقيقة التي تشير إلى أنه أدار حملته متنقلاً في سماء ألمانيا من جهة أخرى. وكان هذا الأمر بمثابة تكتيك سياسي جديد تمكن هتلر من خلاله من مخاطبة الشعب الألماني في مدينتين خلال يوم واحد، وهو تكتيك لم يسمع به أحد قبل ذلك الوقت.
وبممارسة سلسلة من الألاعيب السياسية، والضغوط والمناورات، اكتسح النازيون الانتخابات في وقت لاحق، وتم تعيين هتلر في أرفع منصب ألماني.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©