السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

كيس هوائي صغير

كيس هوائي صغير
18 أكتوبر 2018 02:13


حين دخلتُ الترام، كان الجميع بيد واحدة فقط، وكانوا يتكلّمون بلغة غريبة لم أفهم منها شيئًا، ربما كنتُ نائمة.
أغمضتُ عينيّ وأدركت أنّ ثمة شيئاً ما قد فُقد مني، ونزل على البلاط.
حين وصلتُ المحطّة المقصودة تركتُ الحرب داخل حقيبة حمراء، كانت مثل طيّارة ورقية تحرّف الألسنة وتقصّ الأيادي، بينما تترك الهواء يدخل في اليد الأخرى.
خفيفة كانت الحرب وقتها.
نزلتُ بيدين كاملتين، ثمّة شيء يشبه البكاء بامتلاكك يدين كاملتين حين لا يملك الآخرون إلا يداً واحدة.
عندما وصلتُ عيادة الطبيبة كان الألم قد وصل إلى حدّه الأعلى، هنالك شعور بالحنان حيال الطبيب في لحظات الألم، يشبه الإيمان بشيء ما، لذا يتدفّق الألم قبلك، كأنّه شبح يهزّك من عنقك ويدخلك بحركة آلية قبالة الطبيب الهادئ أنْ: «اِجلسْ ».
نقدّم الألم للطبيب مثل عجينة، يصنع منها خبزًا ليخرج من أبواب مواربة، يتحلّل في الهواء، حتى نشمّه مرّات مع الأزهار، وأحياناً نسمعه مع الموسيقى. مرّات يصير له لون الليل، نتغطّى به وننسى أنّنا من هذا العالم.
الألم يجمع القاتل بالمقتول. لحظة تنغرز السكين في قلب الذي يموت تخرج من يد القاتل، لتتحوّل إلى إصبع سادس.
هل خطر في بالك أنك تزرع دماً جديداً على الطريق شرايينُه جذور، وحين تمشي على الإسفلت تمشي، كأنّك لن تصل، كأنّك تخشى الوقوع في إحداها.
في قسم الطوارئ كنّا كلّنا من أصل عربي: صبيّة منقّبة مع زوجها؛ امرأة تضع حجاباً خفيفاً مع زوجها وطفليها؛ امرأة حامل مع أختيها؛ أنا أشدّ تنّورتي القصيرة إلى الأسفل، وأقرأ رواية شاب عربي يصل لحد الهوس في أوروبا. حين جاء دوري ومشيت نحو الباب كانوا ينظرون إليّ، جهة الساق، أو ربما جهة العنوان المكتوب بأحرف عربية كبيرة يهتز على غلاف الكتاب، بمحاذاة ساقيّ تماماً!
ثمّة امرأة تصرخ منذ ساعة، الطفلة تسأل أمّها: لماذا تبكي السيدة يا ماما؟ لأن البيبي سيخرج. فتحت الطفلة ساقيها وقالت: آن.. دو.. تروا... ثم قفزتْ في الهواء وبدأتْ بالركض واللعب في صالة الانتظار من قسم التوليد.
الممرّضات يتحرّكن بخفّة بين الصرخات، كما السمك، يضربن الصرخات على قفاها، كأنّ الصرخات هي من أنجبت، وستنجب.
في تصوير الرحم كنت أنقل نظري بين وجه الطبيبة والشاشة. عادة في الأفلام تظهر كتلة بصريّة هي الجنين، تتحرّك، ويليها شعور ما بالامتلاء والامتنان في وجه الحامل: تحقيقٌ لحلمٍ يصوّره الطبّ عبر شاشة؛ لاعب كرة قدم سجل هدفًا داخل روحك؛ قطرة ماء وقعت في سلة حيرتك...
أعجبني حجم الفراغ الهائل الذي صورتْه الطبيبة داخل رحمي، والبيئة المعشبة الرطبة مثل أرض جبلية، تغنّي وحدها.
ألم لعدّة أيام وينتهي الأمر، مجرد كيس هوائي صغير، أعتقد أنّ له عينين وشفتين، رقيقاً وامتلأ بالدم، متورّداً.
الحرب تحدث أحيانًا داخل الجسد، أسلحتها مموّلة من الهواء الملوّث، من التوتر والانتظار، من الحب الذي يغلق على رأسه باب البئر.
ألمٌ لعدّة أيام، نتعوّد على الألم، كأنّه قرطٌ جديد يهتزّ.
* سوريا

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©