الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دانتي.. مستلهم الإسلام

دانتي.. مستلهم الإسلام
20 أكتوبر 2010 19:53
يعرف كثير منا اسم “دانتي” صاحب “الكوميديا الالهية” التي ترجمها في ثلاثة مجلدات الراحل حسن عثمان، وفي السنوات الأخيرة ظهرت ترجمة عربية أخرى لها في دمشق، ولم تكن الكوميديا هي عمل “دانتي” الوحيد، هناك كتاب آخر له هو “الملكية” والذي يبرز فيه فكره السياسي، لكن حياة وأعمال دانتي كلها تعكس تأثراً كبيراً بالشرق، وكانت هذه الجزئية موضع العديد من الدراسات الأوروبية ومن بينها كتاب “دانتي والشرق” الذي وضعته استاذ الأدب المقارن بجامعة كاليفورنيا وهي تدين بهذا الكتاب وكذلك اهتمامها بالأدب المقارن إلى والدها الهندي المسلم ووالدتها الروسية اليهودية، وكان الوالد والوالدة التقيا وتزوجا في لندن أثناء الحرب العالمية الثانية. وحينما يذكر الشرق بالنسبة لدانتي فهذا يعني في المقام الأول الإسلام، ففي عصر دانتي كان الإسلام يغطي جزءاً كبيراً من الشرق جغرافياً ودينياً وثقافياً وحضارياً وعلاقة دانتي بالإسلام والثقافة العربية موضع اهتمام كثيرين، فقد اتيح له أن يعرفها عبر مسارات مهمة منها الأندلس وجنوب إيطاليا، وقد وصل اليها المسلمون وانتشرت ثقافتهم بها، وكذلك الحروب الصليبية وما كان يكتب عنها في الغرب، سواء من الرحالة أو الذين شاركوا فيها وأشار عدد من الدارسين الأوروبيين الى علاقة دانتي وتأثره الشديد بفلسفة ابن رشد، حتى أنه يعد عند الفيلسوف الفرنسي “اتين جيلسون” رشديا ومن أبرز نماذج ما يعرف بالرشدية اللاتينية، والنقطة المثارة في هذا الصدد نظرية ابن رشد في العقل الكلي وقوله بأنه لا يمكن أن يكون للجنس البشري عقل كلي واحد ممكن، وجوهر مستقل تماما عن الجسم، وأن المعرفة بالنسبة للإنسان الفرد لا تعني شيئا أكثر من المشاركة في جزء ما أو آخر من المعرفة التي يملكها هذا العقل الكلي، ويذهب دانتي إلى ان كل أفراد الجنس البشري الموجودين في زمان ما على الأرض يمكن اعتبارهم جماعياً معادلين للعقل الممكن الواحد الذي يقول به ابن رشد، وايا كان الأمر فإن تأثر دانتي بابن رشد الفيلسوف الأندلسي المسلم يعكس جزءا من تأثر دانتي بالثقافة الإسلامية والمفكرين الإسلاميين ومن ثم الثقافة العربية. ولا يمكن أن ننسى هنا المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس وقد ترجم د. عبدالرحمن بدوي كتابه عن ابن عربي الى العربية، عكف بلاثيوس معظم سنوات حياته على دراسة حياة متصوفة الإسلام، واثبت تأثر دانتي بأراء ابن عربي في الكوميديا الالهية، وقد وضع كتاباً ضخماً عن “الإسلام والكوميديا الالهية” توقف فيه عند واقعة الإسراء والمعراج، حيث أسرى الله بالنبي من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ليلا وعرج بالرسول خلال ذلك الى السماء حيث التقى برسل الله وأنبيائه السابقين عليهم السلام وتحدث معهم، ويعترف بلاثيوس أن الواقعة كلها لا تشغل في القرآن الكريم إلا حيزاً محدوداً، لكنها تكتمل بتفاصيلها من الأحاديث النبوية، وهي تمثل رؤية المسلمين للعالم الآخر وقد تأثر بها دانتي، وهذا التأثر يجعل الدارسين يتجاوزون القول بأن دانتي تأثر فقط برسالة الغفران لإبي العلاء المعري، ذلك ان الكوميديا الالهية تكشف تأثره بالثقافة الإسلامية عامة بما فيها القرآن الكريم والأحاديث النبوية، حتى أن وصف دانتي للمطهر في الكوميديا يتطابق مع وصف المطهر في الثقافة الإسلامية وكما جاء عند محيي الدين بن عربي وكذلك وصفه للجحيم وموقع إبليس به، تتأثر تماما بالثقافة الإسلامية. ورغم انه يمكن أن تكون هناك أصول قريبة لذلك في التراث اليهودي والتراث الفارسي القديم لكن مراجعة النصوص تكشف تأثر دانتي الواضح بالأصول الإسلامية والعربية. وبات من المؤكد الآن أن دانتي قرأ قصة الإسراء والمعراج في نص ترجمه إبراهيم الفقيه الذي كان يعمل مترجما في بلاط الملك الفونسو العاشر، كما انه اطلع على مصادر أخرى إسبانية كانت شائعة في الأندلس عن الإسراء والمعراج. جغرافياً حدد دانتي الشرق بأنها المنطقة التي تقع شرق البحر المتوسط خارج أوروبا وهي التي جرت فيها الحملات الصليبية، ورغم انه يدخل الهند والحبشة في الشرق إلا انه يعتبرهما حواف الشرق ولذا لا يبدي اهتماماً كبيراً بهما، انهما يحددان الشرق جغرافياً فقط، ويلاحظ ان تحديده للشرق وللعالم مرتبط بخلفيته عن الإمبراطورية الرومانية، فيجعل روما مركز العالم، ورغم انه يبدي احتراما للفاتيكان وللبابا لكن ولاءه الأول لسيادة وهيمنة روما وإيطاليا واهتمامه بشرق المتوسط يوازي اهتمام روما القديمة بها، وحين يتناول الحروب الصليبية فإنه يضع فضاء شعرياً موازياً لها، كان الصليبيون يهاجمون الشرق ويريدون مدينة “القدس” للحج والوصول الى قبر المسيح لكنه بدلا من ذلك يلتفت الى السماء ويعتبر الحج اليها في “الفردوس” وفي خياله الشعري يجعل الحملات الصليبية تتجه إلي الداخل. داخل اوروبا، والهدف إصلاح أوروبا من الداخل والقضاء على ما بها من ظلام وتأخر، لذا لم يكن غريباً ان يضع في الجحيم بالكوميديا الالهية عددا من البابوات والملوك والأباطرة الأوروبيين، بينما يضع صلاح الدين الأيوبي في الجنة. الشرق هو الشرق عند دانتي، اي الذي تطلع أو تشرق منه الشمس، والشرق عنده مصدر العجائب المدهشة، وهو ايضا شرق سياسي وآخر جغرافي وهناك كذلك شرق متخيل، ومع ذلك فإن اي معنى للشرق لا يثير قلقه أو خوفه واذا كان ادوارد سعيد اعتبر ان “الشرقنة” تفصل الشرق عن الغرب فعند دانتي لا تجد طابع الغرابة بالنسبة للشرق بل يصبح الشرق عنده ثقافة في المقام الأول، وملهم له بالافكار والخيال. ولن نجد عند دانتي مفهوم الغرب الذي يتفوق ويتميز على المناطق الأخرى في العالم الشرق الإسلامي وربما يعود ذلك الى أن عصر دانتي وحتى القرن السادس عشر كانت أوروبا وتحديداً جنوبها جزءا من نظام عام يتمركز حول البحر المتوسط الذي يشمل مناطق وأقاليم مختلفة مثل المدن “الدول” الإيطالية واليونان وفرنسا والشرق الأوسط وشمال افريقيا، وكان يضم أنواعاً مختلفة من البشر بينهم الافرنج والنورمانديون والعرب، وعلى المستوى الثقافي والديني كان فيهم المسلم والمسيحي واليهودي وظل الحال كذلك حتى وقعت الحملات الصليبية التي انطوت على مفاهيم عدوانية تجاه الشرق والإسلام، وتمثل بداية وعي اوروبي كان يرى نفسه متفوقا أو متميزا عرقيا ودينيا على العرب والمسلمين، ورغم ان هذه الحملات اثبتت تفوق المسلمين والعرب ثقافيا وحضاريا لكن الأوروبيين لم يتوقفوا عند ذلك ولم يستوعبوه بل نما لديهم شعور “المركزية الأوروبية”. وبينما كان الرحالة في عصره وكذلك الملوك والباباوات ينادون بالحملات الصليبية والهجوم على الشرق تراه يكتب في الكوميديا منددا بالفوضى السياسية في أوروبا: “آه أيها الجشع، ماذا يمكنك أن تفعل أكثر مما فعلت بنا، بعد أن أغويت سلالته حتى لم تصر تعبأ بفلذات أكبادها”. وهذه الفقرة لا تستهدف الشرقيين أو المسلمين بل الأوروبيين أنفسهم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©