الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبدالله المدني: «مشهدي العربي» بائس

عبدالله المدني: «مشهدي العربي» بائس
20 أكتوبر 2010 19:50
يداه لا تطال إلا ما هو ممتع ومغاير في تفصيل الأحداث. لا يعشق الأدوات التقليدية في التعبير، بل يفضل التغلغل في أوساط الشخصيات التي يختارها، عبر أزمان الكتب ومن خلال مطالعاته العميقة والمحدقة للأمور. فالباحث البحريني الدكتور عبدالله المدني يهاجر إلى أمكنة تلك المناطق، رغم الغلائل والعقبات، للوصول إلى مبتغاه في نهاية المطاف، بصيغة تحد لما خارج المألوف. ففي روايته الأخيرة “محمد صالح وبناته الثلاث: شهربان وخير النساء وفاطمة جـُلّ” الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت في كتاب من القطع المتوسط، صوب عينيه على التحولات الاجتماعية والتاريخية والفكرية في “خليج الخمسينات”، ورصد العلاقات الإنسانية بين بعضها البعض. يقول الكاتب المدني في نص من روايته: “هكذا وجد محمد صالح نفسه في مشهد سريالي باعث على الشفقة، فيه ابن “إخواني”، وابنة “بعثية”، وزوجة “ناصرية”، وحفيد “سلفي”، وآخر “شيوعي”، وثالث “أميركي الهوى”. في السياق الآتي حوار مع الباحث الدكتور عبدالله المدني نلقي معه الضوء على روايته الأخيرة: ? ما هو وجه الاختلاف بين هذه الرواية وروايتيك السابقتين “في شقتنا خادمة حامل” و”بولقلق”؟ ? الفروق كبيرة ما بين الأعمال الثلاثة. فروايتي الأولى كما قلت في مقابلات صحفية سابقة، تدور أحداثها في بيروت في أوائل السبعينات، ومحورها طالب بحريني قليل التجربة ومحدود الإمكانيات، لكنه يعمل المستحيل من أجل الوفاء بالتزاماته الدراسية، والتكيف معيشيا مع بيئته الجديدة الملونة، إضافة إلى التمتع بمباهج الحياة اللبنانية من لهو ومغامرات ونشاط فكري. وروايتي الثانية التي تعتبر أول رواية عربية تجري أحداثها في بلدان جنوب شرق آسيا فمحورها مواطن خليجي يـُختار من قبل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين للتحقيق في المآسي التي تجرعها لاجئو القوارب الفيتنامية من بعد فرارهم من بلادهم على إثر تسلم الشيوعيين لمقاليد السلطة في سايغون، حيث يتنقل الموظف الأممي بين دول آسيوية عدة بهدف جمع المعلومات ومقابلة نماذج من اللاجئين المحبطين، ويصادف في كل دولة مصاعب ومشاكل وعقبات، كما ينخرط أثناء عمله في علاقات عاطفية وإنسانية عديدة. غير أن روايتي الثالثة تختلف تماما لأنها تحكي قصة جمعتُ خيوطها من وحي الهجرات التي حدثت من الضفة الشرقية للخليج العربي إلى ضفته الغربية. وهذه القصة قد تنطبق على الكثيرين ممن هاجروا من سواحل الجنوب الفارسي إلى سواحل الخليج العربية في أزمان مختلفة بحثا عن الرزق الحلال أو هربا من التميزين الإثني والمذهبي. قواسم مشتركة ? لكن ألا توجد قواسم مشتركة، فنية على الأقل، بين الأعمال الثلاثة؟ ? نعم توجد! هناك الحس الإنساني المتدفق، والأحداث المتزاحمة خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا. هذا ناهيك عن حرصي الشديد على تضمين أعمالي الروائية معلومات ووقائع تاريخية وجغرافية، كيلا تتحول الرواية إلى مجرد كتاب للتسلية ما قبل النوم فقط، بمعنى أن يتعلم القارئ من السرد الروائي أشياء قد تكون خافية عليه عن تطورات وأحداث وقعت في الأماكن التي تدور فيها أحداث الرواية. وباختصار شديد، أنا مهتم بالتأريخ الاجتماعي من خلال السرد الروائي. وهذا يبدو جليا في رواية “محمد صالح وبناته” لأنها تؤرخ لبدايات التحولات الاجتماعية في منطقة الخليج بصفة خاصة وإمارتي الشارقة ودبي بصفة خاصة، وهما المنطقتان اللتان تجري فيهما أحداث الرواية. ? من إطلاعي على عملك الروائي الجديد “محمد صالح وبناته الثلاث” اتضح لي ابتعادك كثيرا عن النمطين اللذين التزمت بهما في عملك الروائي الأول “في شقتنا خادمة حامل” وعملك الروائي الثاني “بولقلق”! فالرواية الجديدة تكاد أن تكون خالية من الصور الجنسية والتعابير المثيرة، بل هي في خطوطها العريضة محافظة جدا. كما أنها بشخوصها وأحداثها وأماكنها لا يمكن لكائن من كان أن يدعي انطباقها عليك! فهل تكمن الأسباب في انتقادات جارحة وجهت إليك؟ أم أنها محاولة لقطع الطريق مبكرا على من أدعوا أن شخصية سالم في الرواية الأولى وشخصية خالد في الرواية الثانية، تمثلانك وتنطبقان عليك شخصيا، بمعنى أن الروايتين هما انعكاس لتجاربك الخاصة في الحياة؟ ? يمكن القول بشيء من التجاوز أن روايتي الجديدة محاولة لرصد التحولات الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والتنموية التي حدثت في منطقة الخليج في حقبة الخمسينات المبكرة كما قلت آنفا، وذلك من خلال هجرة “محمد صالح” أولا، وبناته الثلاث (شهربان وخير النساء وفاطمة جل) لاحقا، من سواحل جنوب فارس إلى سواحل الخليج العربية وتحديدا إلى سواحل مشيخة الشارقة، حيث الحياة البدائية التي تتطور تدريجيا دافعة ببطل الرواية وبناته إلى تحقيق طموحاتهم في التعليم والثراء و الزواج والتنقل من مكان إلى آخر. وهكذا فبسبب خطوط الرواية وشخوصها وأماكن أحداثها المتميزة بالتقاليد المحافظة، لم يكن هناك مجال لإقحام صور الحب المثيرة إلا فيما ندر. وإجابة على الشق الثاني من السؤال أقول: إذا كان القارئ ليس على استعداد للاقتناع بشيء فهذا شأنه. أما أنا فقد نفيت من جانبي كل ما أثير حول هذا الموضوع جملة وتفصيلا. وبعبارة أخرى فإن من يصر على الإدعاء بأن أبطال رواياتي هم أنا شخصيا، فليس أمامي فعل شيء إزاء إصراره. ولننتظر لنرى إن كان القارئ أو الناقد سيدعي هذه المرة أيضا أن محمد صالح هو عبدالله المدني نفسه! توليفة أمكنة ? ما الذي دعاك إلى اختيار الشارقة ودبي كمكانين لأحداث الرواية؟ ? اخترت الشارقة كمكان رئيسي، ودبي كمكان ثانوي لأحداث الرواية، لأن الحبكة الدرامية استلزمت ذلك، ناهيك عن حقيقة أن الشارقة كانت في مقدمة إمارات ما عـُرف في الخمسينات والستينات بمشيخات الساحل المتصالح لجهة ترحيبها بالمهاجرين من أبناء سواحل فارس العربية وبراريها، وذلك بفضل العلاقات التاريخية القديمة بينهم وبين القواسم من حكام الشارقة الكرام، الذين كانت لهم السيادة والنفوذ على بلدات وموانئ واقعة على الضفة الشرقية للخليج مثل لنجة وما حولها، حتى عام 1316 للهجرة. ولأن الرواية تحاول رصد التطورات والتحولات الاجتماعية في عموم المنطقة في تلك الحقبة المبكرة، فإن لأماكن أخرى مثل دبي والدمام والبحرين ذكر في الرواية ومحاولات للمقارنة لجهة درجة التمدن والنمو والوعي ومدى الانفتاح على العالم الخارجي. ? لكن ماذا عن اختيارك لبلدة “كرمستج” الفارسية الداخلية كمسقط رأس لبطل الرواية “محمد صالح”، وكمنطلق لهجرته نحو الخليج؟ علما بأن هذه البلدة مجهولة للكثيرين. ألم يكن من المستحسن مثلا اختيار بلدة أكثر شهرة وتنتسب إليها عائلات معروفة في الخليج مثل “جناح” و”كوهج” و”عوض” و”خـُنـْج”؟ ? هدفتُ من ذلك إلى تعريف القارئ ببلدة فارسية جديدة لا يرتبط اسمها في ـ أغلب الأحيان ـ بأسماء العائلات المنحدرة منها. أما البلدات الفارسية التي ذكرتها، فهي مشهورة ولا تخفى على أحد، وعلى الرغم من ذلك، فقد أتيتُ على ذكرها عرضا من خلال أسماء بعض شخصيات الرواية الهامشيين مثل عبدالرزاق الجناحي، ومحمود العوضي، وعبدالقادر العمادي، وعبدالرحيم هرمودي. ? أخذ عليك القاص البحريني مهدي عبدالله أنك في روايتك “بولقلق” أكثرتْ من الهوامش، في حين أن الهوامش في العمل الروائي شيء مستنكر وخارج المألوف. كيف ترد، خصوصا وأن روايتك الجديدة حافلة بالهوامش؟ ? الأستاذ مهدي عبدالله صديق قديم، وأنا أعتز بملاحظاته وكتاباته النقدية. لكن ما قاله لا يلزمني بشيء، فلكل شيخ طريقته. ما أود قوله إن الهوامش لئن كانت أمرا غير مألوف في العمل الروائي، فإن الضرورة تفرضها أحيانا. ففي رواية “محمد صالح” تكاد لا تخلو صفحة من هامش أو أكثر، وذلك حفظا لحقوق مؤلف كتاب تاريخي استندت إليه، أو تفسيرا لمفردة خليجية قد يصعب فهمها على القراء العرب غير الخليجيين، أو إشارة إلى تداعيات حدث تاريخي معين. وأقول لكل من يستنكر وجود الهوامش أو حتى صفحة المقدمة في الأعمال الروائية، إنه أفضل للقارئ أن يفك شفرات أية معلومة أو مفردة غريبة حال قراءته لها، بدلا من أن ينتظر ويصرف لاحقا جهدا إضافيا من أجل الوصول إلى الحقائق المطلوبة. ثم أن القواعد الأدبية الجامدة في الرواية والشعر ليست منزلة أو مقدسة بحيث لا يمكن التمرد عليها ومحاولة تجديدها، وإلا لما تعرفنا على الشعر الحر مثلا. خارج الزمن وداخله ? كل مؤلف لا بد وأن يواجه صعوبات حين التخطيط لعمل روائي جديد، فما هي أكثر المعوقات التي واجهتك وأنت تخطط لهكذا رواية مليئة بالأحداث ومتزاحمة بالشخوص، وذات أبعاد عاطفية وإنسانية واختلافات في الزمان والمكان، إذا ما استبعدنا ما ذكرته في صفحة المقدمة من أنك كتبت رواية لم تعايش أزمنتها أو أماكنها شخصيا؟ ? أول المعوقات جاءت ـ كما ذكرتِ ـ من حقيقة أني لم أعش كليا في الأزمنة الذي تتحدث عنها الرواية، كما لم أزر الأماكن التي انطلق منها بطل الرواية وبناته في هجرتهم نحو سواحل الخليج العربية، فلجأت إلى القراءة المتعمقة عنها والبحث في الكتب التي وضعت عن تاريخ سواحل فارس العربية وسكانها وقبائلها. أما ما صَعـُب العثور عليه في المؤلفات والمراجع من تفاصيل دقيقة عن الحياة الاجتماعية واللهجات المحكية والعادات والتقاليد السائدة هناك فعثرت عليه عند كبار السن من أعمدة العائلات ذات الجذور الفارسية في منطقة الخليج. وبطبيعة الحال واجهتني مصاعب أخرى خاصة بخطوط الرواية العامة، إذ كان علي أن أحرص على أن يكون انخراط بعض أبطال الرواية في قضايا معينة يتواكب مع تطورهم العمري والتعليمي والفكري ووضعهم الاجتماعي من جهة، ومع وقوع أحداث تاريخية معينة مثل دخول التعليم النظامي إلى الشارقة، ووفاة الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، وأزمة البريمي، وتوسع شركة أرامكو النفطية في السعودية، وصولا إلى تغير النظام في مصر، وقيام دولة الإمارات العربية المتحدة، وبدء حقبة الجهاد في أفغانستان، وظهور ما سـُمي بالصحوة الإسلامية. ? هذا الجواب يقودنا إلى سؤال حول مدى قدرة الكاتب الروائي على وضع رواية عن أماكن لم يعرفها، وأزمان لم يعشها، وأحداث لم يعايشها؟ ? في الماضي ربما كانت الرواية التي يضعها مثل هذا الكاتب عديمة الجودة والمتانة، أو لا تعبر بصدق عما يستهدفه، أما اليوم ـ وبفضل ما نعيشه من ثورة معرفية ومعلوماتية ـ باتت المعلومات عن الأمصار والشعوب وتقاليدها وتطوراتها الاجتماعية بالتفصيل الدقيق متوفرة، وبالتالي تبقى عملية كيفية التصرف في هذه المعلومات، وإعادة صياغتها في القوالب التعبيرية المرادة، هي التحدي الوحيد أمام الكاتب. ? وضعتَ في الغلاف الخلفي لكتابك نصا من داخل الرواية، يفيض حنانا وعشقا للبحرين القديمة.. بحرين الخمسينات بأحيائها العتيقة ومحالها التجارية ومطاعمها الشعبية وأسواقها التجارية وأكلاتها التقليدية ومكتباتها القديمة. فهل يمكن القول إنك من النستالوجيين؟ ? ربما كان هذا النص الذي تشيرين إليه هو الوحيد الذي يعبّر عن أماكن وأزمنة عايشتها بنفسي. نعم أنا ناستالوجي حتى النخاع، بمعنى أني أحن إلى الماضي كثيرا رغم كل ظروفه المعيشية الصعبة وأدواته البدائية. وما اختياري لهذا النص إلا تعبير عن هذا الحنين، علاوة على تحيزي بطبيعة الحال لبلدي البحرين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©