السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«لا تتخل عني أبداً».. تفكيك الخيالات وإعادة تركيبها

«لا تتخل عني أبداً».. تفكيك الخيالات وإعادة تركيبها
19 أكتوبر 2010 00:28
قليلة هي الأفلام التي تغمرك وتستحوذ عليك وتتلبسك، فتكسر بذلك إيقاعك اليومي الباهت والمعتاد الذي دائماً ما ينتظرك وأنت خارج قاعة السينما، يستطيع فيلم ممتلئ وعميق ومشبع بالدلالات أن يفكك خيالاتك ورؤيتك للوجود، كي يعيد تركيبها من جديد، ويؤسس لقاعدة أو منظور مختلف في تفسيرك لهذا العالم الضاري والموحش والمعتم الذي دفنته في ماضي أيامك البائدة، والذي يتراءى أمامك الآن.. عارياً ومداناً وخارجاً من بؤس روحك وحطام ذاكرتك وبئر خطاياك التي نسيتها في البراري الشاسعة للسهو والغفلة والنكران. شعور داكن ولزج مثل هذا، والشبيه بقطران حارق وذائب على حواسك، يثبت أيضاً أن الأفلام التي تتقاطع مع حياتنا وتومض مثل برق الألم في أعصابنا ولحمنا ودمنا، هي أيضاً أفلام تتحدث عن مكبوتاتنا وعن حياتنا السرية والمعذبة التي طمرناها تحت مشاغل مقصودة وأفراح مصطنعة ولذائذ مؤقتة ومتبخرة في ردهة طويلة لزمن ظننا أنه لن يتوقف، ولن ينقطع أبداً. قد يكون فيلم “لا تتخل عني أبداً” الذي عرض مساء أمس الأول ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في مهرجان أبوظبي السينمائي، هو أحد الأفلام النادرة التي تخترق المقاييس والتقاليد المعتادة للسينما بمفهومها الكلاسيكي وبمحتواها المعاصر أيضاً، فهناك إيقاع مختلف في الفيلم يبدو وكأنه على صلة مع فنون ما بعد الحداثة خصوصاً في أسلوب الروي والسرد الذي يقبع في منطقة خطرة ومدوخة تقع تماماً في الحدّ الفاصل بين الصورة والحكاية، أو بين جرح الكتابة ونزيف الإخراج، خصوصاً إذا جاء هذا النزيف بطيئاً وغير مرئي نتيجة الجرح الغائر، واللامرئي هو الآخر في الكتابة التشريحية للحكاية، وبكل ما تحمله كلمة تشريح من قسوة وهتك وتغلغل في الجسد والروح معاً. فيلم “لا تتخل عني أبداً” -Never let me go- من إخراج الأميركي مارك رومانيك، ويستند على كتاب صدر في عام 2005 بالعنوان ذاته للروائي الياباني الأصل البريطاني الجنسية “كازو إيشيجورو” الذي سبق له كتابة رواية “بقايا النهار” المنقولة هي الأخرى إلى السينما تحت إدارة المخرج جيمس إيفوري في عام 1993، وفي رصيد إيشيجورو الإبداعي روايات عديدة تعكس ولعه الخاص وهوسه الجامح بتحليل الماضي ونبش الذاكرة واقتحام الخيالات المدفونة في اللاوعي، ومن هذه الروايات: “لوحات ليلية” و“عندما كنا أيتاماً” و“فنان العالم العائم”، و“اللامواساة” و“نظرة شاحبة نحو التلال”، ويعتبر إيشيجور مع الروائي الياباني الآخر هاروكي موراكامي من جيل الكتاب الذين انفصلوا عن جذورهم واندمجوا في المناخ الثقافي الأوروبي الذي تربوا تحت ظلاله وأصدائه الهائجة والمحتدمة، ولكن حساسية الكتابة لدى هذا الجيل المهجن ذهبت باتجاه الدمج بين التيارات الغربية الحديثة وبين الهوى الشرقي التأملي الذي ينزع نحو التجديد والتجريب ويتقاطع في الوقت ذاته مع أسئلة الهوية والذاكرة والميراث المنسي الحافل بالغموض والروحانيات والأسفار العميقة نحو الذات والطبيعة. صنف بعض النقاد فيلم “لا تتخل عني أبداً” على أنه فيلم مستقبلي أو خيال علمي، ولكن من يشاهد الفيلم يكتشف أنه تصنيف خاطئ ومغلوط؛ لأن وقائع الفيلم تتحدث عن هاجس شخصي وسوداوي جداً يقدمه كاتب الرواية حول الجانب الجهنمي والوحشي للمؤسسة التعليمية، وهي هواجس تبدو وكأنها نابعة من ذاكرة وطفولة وخبرات الراوي نفسه، ففي وصف دقيق ومؤلم يرد في أحد حوارات الفيلم يتم نعت الأطفال في المدارس النظامية الصارمة بأنهم: “مخلوقات مسكينة”، وهو وصف يذهب مباشرة باتجاه الحصر النفسي و“الفوبيا” الداخلية المتحكمة التي نراها، وهي تتشكل على ملامح وتصرفات أبطال الفيلم وبكل واقعية وهدوء وعفوية، وسط نطاق مشتبك تماماً مع الحس التدميري والمروع والصامت أيضاً والذي يمور ويتماوج في دواخل الشخصيات، وبالتالي فالفيلم أقرب إلى الخيال النفسي والتفسير الذاتي للعالم المحيط والمجتمع المسيطر الشبيه بكائن أسطوري مرعب ينهش طفولة الإنسان، ويحول علاقته بالآخرين إلى علاقة مبتورة ومشوهة على أكثر من صعيد وجهة. يحكي الفيلم قصة ثلاثة أصدقاء هم: كاثي “تقوم بدورها الممثلة كاري موليجان”، وروث “كيرا نايتلي”، وتومي “الممثل أندرو غارفيلد” الذين تجمعهم عواطف هائجة ومستترة تتوزع بين الخجل والغيرة والحب والندم والامتنان والكراهية، وغيرها من العواطف المتنافرة التي تنشأ معهم منذ طفولتهم التي تتكون وتتدرج في بيئة مغلقة وصارمة في عام 1974 وتحديداً في مدرسة بريطانية نظامية وتقليدية تدعى “هيلشام”، وهي مدرسة تأوي الأيتام والأطفال الذين تركهم آباؤهم في معية النبذ والنسيان والتخلي المطلق عن أي مسؤولية أو عبء، هذه البداية الاستهلالية الخادعة في الفيلم سوف تكشف تدريجياً عن مأساة حقيقية ومدبرة يعيشها هؤلاء الصغار، ولكن لا أحد يريد التحدث أو الكشف عنها، فهذه المدرسة الشبيهة بالخلية السرية المحتشدة بالنوايا السوداء تعمل في الظاهر على تعليم الطلبة فنون “الإتيكيت” الاجتماعي وفنوناً إبداعية أخرى مثل الرسم والتمثيل والتعبير الأدبي، ولكن إحدى المعلمات الجدد التي تأتي للمدرسة لتعليم مادة التمثيل، تكشف لتلاميذها عن حقيقة هذه المدرسة وعن المستقبل المؤلم والمرعب الذي ينتظر طلبتها، والذي لا يملكون تجاهه سوى الطاعة والانصياع المطلق، تعترف المدرسة للطلبة بأنهم سوف يجبرون بعد تخرجهم من المدرسة على التبرع بأعضائهم للمرضى وفق قوانين سرية وتعاليم اجتماعية محددة ومتبادلة بين مدرسة “هيلشام” والمدارس الشبيهة بها وبين مؤسسات طبية تابعة للحكومة، تقوم إدارة المدرسة بفصل هذه المعلمة الواشية التي أسكتت صرخات ضميرها المعذّب، ولكنها تركت خلفها العذابات والمخاوف التي باتت تدور مثل إبرة مسننة وسط خيالات وأفكار الطلبة الصغار والعزل الذين تربطهم علاقات حميمية وآسرة، ولكنهم في النهاية يبدون أقرب لكائنات هشة ومحكومة بسلطة عليا لا يمكن الفكاك من هيمنتها ومن قوانينها الطاغية. عندما يتخرج هؤلاء الصغار في المدرسة ويبلغون سن المراهقة يتم إرسالهم إلى مجمعات سكنية مغلقة هي الأخرى يطلق عليها “أكواخ الريف”، وهناك في هذه الأمكنة النائية، والبيئة المحاصرة تتمحور وتتشكل عواطف العشق والغيرة والوساوس والرغبات الخبيئة والمعلنة بين هؤلاء الأصدقاء الثلاثة رغم اليأس المحيط بهم، ورغم تأهبهم للتبرع بأعضائهم في أي وقت، حسب الأوامر والتعليمات التي ترد إليهم. تظفر روث بحب تومي ظاهرياً، بينما تكتم كاثي هذا الحب في أعماقها كي لا تفسد وتدمر أساسات هذه العلاقة الثلاثية القائمة على القرب والتواصل، رغم المخاوف المستقبلية والقلق المشترك، ينتهي الأمر بهذه العلاقة الشائكة والمعقدة إلى نهايات مفجعة ومقفلة تماماً، حيث لا أمل ولا رجاء في تغيير القانون العام المتعلق بتحويل هذه الكائنات الجميلة والمفعمة بالأحلام إلى كائنات محطمة ومقصية ومنذورة لإعادة الحياة إلى المرضى الآخرين في دورة جهنمية من الانتظار والألم والخفوت الكلي. تموت روث بعد ثلاث عمليات استئصال لأعضائها الداخلية، ويلحق بها تومي، بينما يختتم الفيلم على مشهد لكاثي التي تنتظر دورها في التبرع، ونراها وهي تحدّق في سياج مدرستها القديمة وكأنها تحدّق في خيالاتها وأحلامها المسورة وتقول: “لماذا نموت نحن بالذات، كي يعيش الآخرون من خلال أعضائنا، لماذا نحن بالذات.. رغم أن الجميع سوف يموت من بعدنا؟”. ومع لحظات انطفاء المشهد الختامي هذا، تتحرك الموسيقا الثملة و”الدائخة” وسط حقول الحزن، كي تتحول الأشجار والأعشاب الخضراء إلى أغصان وأعواد نحيلة وداكنة تتكسر ببطء وسط ريح سوداء تجرف معها كل كآبات العالم وتنشرها في قاعة السينما وفي الحياة خارجها، هذه الحياة التي باتت الآن ذاوية ومنزوعة من الأمل، ويلفها دخان قاحل ومهيب!
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©