الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذاكرة الأمكنة.. وألسنتها

ذاكرة الأمكنة.. وألسنتها
19 يناير 2011 20:03
مقاربات نقدية عديدة تناولت موضوع المكان في الرواية والقصة الإماراتية، لكن أغلب تلك المقاربات لم تتناوله بوصفه عنصرا فاعلا ومؤثرا في مغامرة السرد الحكائي، وبؤرة تقوم بعملية إسناده وتنظيم وقائعه وأحداثه، من هنا فإن هذه المقاربة تحاول أن تركز على الدور الذي يلعبه المكان في هذه الرواية، سواء من حيث ما يقوم به من دور في ربط أحداث الرواية، أو في الكشف عن وجهات نظر الشخصيات التي تعيش فيه ويرتبط وجودها به، مما يجعل (المنظور الذي تتخذه الشخصية هو الذي يحدد أبعاد الفضاء الروائي، ويرسم طبوغرافيته ويجعله يحقق دلالته الخاصة وتماسكه الأيديولوجي) إذ يعاش المكان من خلال مستويات مختلفة، تجعله يظهر من خلال وجهات نظر متعددة، تقدمها شخصيات العمل الروائي، ومن خلالها تكشف عن علاقتها بالعالم الذي تنتمي إليه. لما كانت السمة الغالبة على هذه الرواية هي السمة الواقعية باستثناء أعمال الروائي علي أبو الريش التي تنتمي إلى رواية تيار الوعي، فقد احتفلت هذه الرواية كثيرا بالمكان، إذ شكل فيها عنصرا مهيمنا يتصدر السرد الحكائي ويؤسس له، ويشكل خزانا للأفكار والمشاعر، إضافة إلى الدور الذي أوكلته إليه على صعيد تنظيم أحداثه ووقائعه، أو القيام بدور البطولة فيه، كما في روايات علي أبو الريش التي اهتمت كثيرا بالمكان الروائي، وعملت على تأكيد العلاقة الجذورية التي تربط شخصياتها به على المستوى الوجودي، لاسيما في روايات زينة الملكة وثلاثية الحب والماء والتراب وابن مجبل، ما جعله يسهم في خلق المعنى داخل النص السردي للرواية. تحولات الرؤية إلى المكان لقد عملت التجارب الروائية في الإمارات على منح المكان الجغرافي أبعادا نفسية واجتماعية وتاريخية وعقائدية داخل النص الروائي، كاشفة عن التبدل والتحول الذي أصاب هذا المكان، وانعكس على حياة شخصياته ووعيها له وعلاقتها به داخل العمل الروائي سلبا أو إيجابا، بسبب اختلاف طبيعة الوعي المكتسب لديها، والذي لعب دورا مهما في بلورة وجهة نظرها التي لا يمكن للمكان أن يظهر إلا من خلالها، وذلك بعد التحولات الكبيرة والمتسارعة، التي شهدها المجتمع الإماراتي في العقود الثلاثة الماضية على المستويات الاقتصادية والعمرانية والثقافية والاجتماعية. وإذا كان الحنين أو النزعة النوستالوجية إلى المكان القديم أو الأليف هي التي ميّزت العلاقة مع المكان في الأعمال الأولى، فإن هذا الحنين قد جاء بفعل الصدمة التي نجمت عن التحولات المتسارعة في الواقع الإماراتي وعلاقاته السائدة، وظهور خليط غريب من الثقافات التي قدمت مع العمالة الوافدة إليه، إلا أن صدمة هذا الوعي قد بدأت بالتلاشي تدريجيا ليحل محلها وعي أكثر انفتاحا وإيجابية يحاول استيعاب التحولات الجديدة للواقع وتجسيد أبعادها وتداعياتها وما تطرحه من أسئلة جديدة على مستوى الذات الجمعية ووعيها لوجودها وحاضرها ومستقبلها بعد أن أصبحت العولمة تفرض نمط حياة استهلاكيا وثقافة جديدة استدعت وجود علاقات مختلفة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. من هنا فإن دراسة المكان في عدد من لأعمال الروائية والقصصية الإماراتية من وجهة نظرنا لابد أن تتخذ مسارين اثنين منفصلين ومتصلين في آن معا، المسار الأول يتناول المكان من حيث سماته الجغرافية والاجتماعية والنفسية، كما قدّمته تلك النصوص السردية، إضافة إلى علاقة التأثير المتبادلة بين الشخصيات والمكان، ودور ذلك في إنتاج المعنى داخل تلك النصوص، إلى جانب دراسة الكيفية التي تحول فيها المكان في الرواية إلى عنصر حكائي من خلال تصدره للسرد الذي جعل منه بؤرة سردية كبرى، تتفرع عنها مجموعة من البؤر السردية الفرعية التي تشكل محاور العمل الروائي التي يدور حولها، ما جعل المكان يتحول إلى عنصر مه بالمسار الأول ارتباطا كليا من حيث كون العلاقة التي تنشأ بين الشخصيات الروائية والمكان تشكل في مضمونها تمثيلا لأنماط من الوعي الاجتماعي، تعكسه مواقف تلك الشخصيات التي يمكن أن تتصف إما بصفات الثبات أوالتحول والتي تنعكس بدورها على أحداث الرواية وتطور تلك الأحداث. محورية المكان في الرواية لقد جعل الحضور المكثف والدال للمكان في رواية السيرة، كون الحدث فيها يتم بناؤه في نطاق المكان، عنصرا مهيمنا أو بؤرة مركزية يدور حولها عالم الرواية كما يظهر ذلك واضحا في رواية زاوية حادة للكاتبة فاطمة المزروعي، إذ تعنى جملة الاستهلال بتحديد المكان الذي ستجري فيه أحداث الرواية. إن حافز التقديم أو العتبة المكانية في هذه الرواية ترتبط بشخصية البطلة ، وهي تشكل البؤرة الأساسية التي تنطلق منها خيوط السرد ومحاوره، وتتفرع عنها بؤر السرد الأخرى. ولا تقتصر وظيفة الوصف الذي تتضمنه عتبة السرد على التعريف بالمكان وتحديد طبيعته الجغرافية، بل هو يعنى بتقديم هذا المكان باعتباره مكانا معاشا من قبل الراوية/ البطلة التي تحاول، من خلال الحفر في ذاكرة الطفولة، أن تستعيد تفاصيل المكان القديم وصورته التي تَفتَح وعيها عليها، وعاشت طفولتها المقيدة فيه. ومن المعروف أن المكان لا يمكن أن يظهر إلا من خلال وجهة نظر الشخصيات التي تعيش فيه وتخترقه، وهو ما يكشف عنه الوصف الذي تقدمه الراوية للمكان، حيث لا تكون له أية استقلالية بعيدا عن تلك الشخصية التي خبرته، وانطبعت صورته في ذاكرتها (ما أذكره اليوم) وهنا يظهر زمن الحاضر الذي هو زمن السرد “اليوم” بينما يحيل فعل التذكر على زمن الماضي (حارات قديمة، حارات تنبعث منها في ليالي الصيف المعتمة والساخنة الروائح الكريهة، تلك الروائح التي تختلط برائحة الأطعمة الشهية التي تعدها الأمهات بعد صلاة المغرب لأزواجهن العائدين من المسجد) ص7. ذاكرة جماعية ويشكل المكان حافز تقديم في أغلب تلك الأعمال الروائية، بما في ذلك رواية تيار الوعي عند الأديب علي أبو الريش. ويمكن التمثيل لذلك بروايتي “زينة الملكة” و”فرت من قسورة”، ففي الرواية الأولى تبدو العلاقة بين بطلة الرواية زينة والمكان علاقة عميقة الجذور تتجلى في ذلك الشعور بالفرح والتوحد معه، إلى جانب أن هذا المكان موسوم ببعده التاريخي والاجتماعي كما يتجلى من خلال استحضار صورته القديمة من قبل البطلة ( تناهت والتراب. مرَّغت زينة ساقيها في الرمل البارد مكتسبة لذة القشعريرة الأولى، منحت لله عينيها وأشرعت باب القلب... الزقاق الضيق المنحدر من لسان مطلق عند الجهة الشمالية يتوغل في العمق غائرا في أحشاء شعاب وتعاريج ومفاصل متراصة بزوايا قاتمة، تفصل بين الجدران. أعطت وجهها لبيت “ابو حميد” تذكرت خلية النحل التي دبت في زمن ما وسط الفناء الواسع وملأت السماء بأصوات الصغار وصراخ الكبار وضحكات النساء الأربع التي تزوجهن أبو حميد) ص 15. إن هذا التفصيل في تقديم أسماء المكان واستعادة صورته القديمة ينطوي على دلالات عديدة، منها ما يتعلق بإبراز علاقات الزمان وتحولاته في الواقع الذي تتحدث عنه الرواية، ومنه ما يرتبط بمنح العالم الروائي مظهرا مماثلا للواقع ومتماهيا معه. ولا يختلف الأمر في روايته الأخيرة فرت من قسورة التي تدور أحداث القسم الأول منها في مكان مغلق هو فضاء الغرف الذي يتألف منه المسكن الحديث لبطل الرواية التاجر خلفان، بينما تدور أحداث القسم الأخير في مكان مغلق قديم هو القلعة، وفي فضاء مفتوح يتوزع بين الشوارع والصحراء، حيث يرتبط التحول الذي يطرأ على أحداث السرد والمنحى الدرامي الذي تتخذه تلك الأحداث بتلك الحركة في الانتقال من مكان إلى آخر، لتظهر علاقة التضاد والمقابلة بين هذين المكانين. وفي حين ينتمي العالم المغلق للبيت إلى العالم الحديث للمدينة الحديثة، فإن العالم الخارجي يحمل صفات القدم أو يمثل عالم الصحراء، حيث تتجلى ثنائية المكان أو العلاقة الضدّية بين المكانين، وارتباطها بالتحول الذي يطرأ على شخصيات الرواية وعلاقتها ببعضها البعض، أو علاقتها بالمكان، ودور هذا التحول والتبدل، في تعميق المنحى الدرامي لأحداث الرواية ووقائعها. ولا تختلف وظيفة المكان ودلالته في الرواية التاريخية طروس إلى مولاي السلطان لسارة الجروان عن الروايات الأخرى، إذ أن المكان الذي يتألف عادة من أشياء تدل عليه وعلى ساكنيه، سواء من حيث أوضاعهم الاجتماعية ومكانتهم، أو علاقتهم به، أو الأدوار التي يلعبونها فيه، نجده في الرواية يقيم على مستوى البيوت نوعا من التطابق بينها وبين ساكنيها ، وهو ما يدل عليه المكان الذي يقيم به الشيخ عتيج وأفراد عائلته، إذ يكون البيت الوحيد في بلدة الخضراء المبني من الجص والطين، في حين أن البيوت الأخرى تكون مصنوعة من الجريد والدعون وسعف النخيل، وبهذا يغدو البيت علامة تدل على هوية ساكنيها الاجتماعية. ولعل رواية طوي بخيتة لمريم الغفلي التي تروي حكاية من عالم الصحراء هي اكثر الأعمال الروائية اشتغالا على موضوعة المكان بدءا من العنوان وحافز التقديم المكان الذي تمثله جملة الاستهلال التي تؤسس للحكي وتنهض به وحتى نهاية العمل، لاسيما على مستوى الحركة في المكان ودور ذلك في خلق البعد الدرامي للأحداث، وفي تطور حركة السرد وتناميها صعودا وهبوطا والذي يتساوق مع التبدل الذي يطرأ على شخصيات الرواية ويتداخل معه تلعب جملة الاستهلال التي تمثل عتبة مكانية دورا مهما في تجسيد صورة المكان بأبعاده الطبيعية والاجتماعية من خلال التقديم المشهدي البانورامي الذي يرتبط بوجود الراوي العليم بكل شيء. لهذا يعتبر الاستهلال بؤرة مركزية تتفرع عنها بؤر عديدة أخرى، تتسم بنفس السمات، أو تكون قريبة منها (صحراء موحشة، كثبان رملية لا تنتهي، مكان معزول يغلفه الصمت، بيوت متناثرة تبدو خالية ويلفها السكون. الكلب الأسود الرابض أمام أحد بيوت الشعر أقعده الجوع والتعب عن مهام الحراسة. تقف إلى جانبه امرأة طويلة القامة، ترتدي ملابس سوداء، تربت على ظهره وترمقه بعطف، ثم تدلف إلى البيت وقد أثقلها الحمل، تجلس وسط خيمتها، تمسك مغزل الصوف وتنهمك في غزل الصور في خيالها) ص7. يلعب الوصف الذي تتضمنه العتبة المكانية دورا مهما على صعيد السرد الروائي الذي لا يمكنه أن يؤسس لكيانه الخاص من دونه، إذ سنلاحظ دوره في تطور حدث الرواية الناجم عن جدب تلك المناطق الصحراوية بسبب انحباس المطر. إن هذه الأعمال السردية تشكل تمثيلات مختلفة لأنواع التجارب الروائية والقصصية، في المشهد السردي الإماراتي الراهن الذي يمثل أفقا مفتوحا على الحياة والواقع والتجربة السردية العربية والعالمية من خلال التفاعل الحي والثري مع تياراتها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©