الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

نصوص تعزف على وتر القلب أعطاب الواقع وتحولاته

نصوص تعزف على وتر القلب أعطاب الواقع وتحولاته
6 أغسطس 2014 21:55
كتاب «في مديح الذاكرة» للكاتبة عائشة سلطان الصادر حديثاً عن دار «ورق» للنشر والتوزيع في دبي، يعتبر بمثابة مقاربات إنسانية مرهفة، تمس صميم الوعي الحداثي على مستوى التحولات في المصائر الإنسانية ومآلاتها الوجودية؛ في عالم يلهث الفرد فيه على مدار الساعة للحاق بطوفان العولمة، الذي يجتاح كل شيء في حياتنا بما فيها مخادعنا، فتحيلها إلى قلق ينهش بالروح قبل العقل. تتناول سلطان موضوعات ثقافية متعددة على قدر عالٍ من الأهمية والحساسية، وذات طابع فكري في بعض الأحيان، واجتماعي في الغالب الأعم. إلا أنها جميعها تبدو وكأنها حكايات إنسانية شائقة، حيث تبدو معالجة قضايا مثل الذاكرة المهددة بزحف الحداثة، وكأنها عزف على وتر القلب. ما يجعلها مقروءة بشغف يضاهي اللهفة إلى بوح العشاق، ومفهومة بيسر وامتاع يفوق حكايات الجدات دفئاً وعاطفة، لأنها مكتوبة بجذالة أكثر رقة من السرد الروائي الحاذق. الاغتراب والهُوية تعالج الكاتبة في نص «في فريج الراس»، موضوع عصف الذاكرة ومشكلة الاغتراب والهُوية وحنين الإنسان لبيت أو حي غادره مرغماً بسبب زحف الحداثة العمرانية، في منطقة تعتبر هي الأسرع في العالم بمعدلات النمو، سواء أكان ذلك على مستوى المدينة وتركيبتها السكانية وبنيتها الاجتماعية، أو على مستوى المَدنِيَّةِ التي تتغير إيقاعاتها لحظوياً في فضاء «المدينة الذكية». فالإمارات ودبي بشكل خاص تشهد من التقلبات والتحولات بل الإنقلابات الجذرية في بنيتها العمرانية والسكانية والتحديثية ما يكفي لإقامة حواجز صلدة بين الذاكرة ومعطيات الواقع المتغير باستمرار، وكذلك الأمر بين الأجيال حيث تتسع الهوة وتصل إلى حد الاغتراب أو الانفصال الكلي بين جيل «فيسبوك» و«تويتر» و«أنستجرام» و«واتس آب» و«فايبر»، وبين جيل «المجالس» و«الديوانيات» و«اللمّات» الاجتماعية بالأفراح الشعبية والأتراح والمَلَمَّاتْ في الحواري والأزقة أو «سكيكها» الضيق. تقول سلطان في توصيف حال والدتها خلال زيارة إلى حيها القديم في ديرة، الذي غادرته بعد أن ضاق بالوافدين: «كانت أمي تتلو أسماء أصحاب البيوت بيتاً بيتاً، اسماً اسماً، كمن يتلو صلاة مقدسة أو تراتيل قديمة عن ظهر قلب، كانت تتلو الأسماء، وكأنها غادرت الحي ليلة البارحة، ونسيت شيئاً فعادت لتأخذه في الصباح التالي، بخفة طفلة في الثانية عشرة من عمرها، أو بابتهاج صبية في مقتبل العمر. طافت الوجوه أمام ناظريها، عبرت ذاكرتها وكَرَّت كسُبحة انفرط عقدها، أحسَّت بوجع ذاكرتها، بحوافر خيول النهارات تتوالى أمامها وتتصايح في قلبها، جلست في ظل جدار مدرسة الأحمدية. تركتها تجوس في طرقات الراس، حارات اللهو وجيرة الصبا ومسقط الرأس وملعب الأيام الجميلة». يتألف الكتاب من مائتين واثنين وثلاثين صفحة من القطع المتوسط، ويضم أربع وخمسين مقالة، هي أقرب إلى النصوص النثرية الفارهة بطلاوتها وجذالتها السردية، المترعة بشاعرية دفّاقة تمور عبقاً ودفئاً وشجنا باذخاً، يلامس أهداب الروح ولواعج القلب بحميميته المفرطة وسخائه الجياش. هذا فضلاً عن إضاءات الأفكار ومحمولاتها الكاشفة وإشراقاتها العقلية النابهة، كونها مقاربات تلامس ـ بالمعنى المعرفي ـ قضايا وجدانية وأخلاقية؛ تتميز بعمق فكري وازن وبعد إنساني شفيف. ولكنها في الوقت عينه تتجاوز مفهوم المعالجات النظرية الباردة للمشكلات الثقافية، إلى ما هو أكثر ملامسة للأعطاب الثقافية، وحدباً على الأوجاع الإنسانية سواء على مستوى العرض أو المعالجة. مصالحة راقية في نص «الاحتماء ضد الفكرة» ـ صفحة 77 ـ الذي تعالج فيه الكاتبة مسألة ما يمكن أن نسميه: «هيمنة النسق الذهني على الوعي الثقافي في المجتمعات الراكدة»، الذي يتدافع بقوة في اتجاه الرفض التلقائي لكل ماهو جديد أو مختلف، تمسكاً بالسائد المُتَناسَلِ بالتقادم. وهي من المشكلات التي ترتقي إلى مستوى «التابو»، الذي يهدد كَسّرَهُ بالثبور وعظائم الأمور على الغالب الأعم. تقول سلطان: «عدم الترحيب بالشيء الجديد والنظر بشك وتوجس للشيء المختلف من الطباع المتأصلة، بل الشديدة الشراسة في معظمنا تقريباً. نحن أهل الشرق المعروفين بتمسكنا بالقديم العتيد، المتوارث. نحن شعوب تتمترس في قلب القبيلة، وتحتاج إلى حمايتها وأمانها ومصالحها في الوقت الذي تضع فيه قدمها في المدينة. هذه العلاقة الملتبسة، الممتلئة بالأسئلة، تجعل الإنسان يتردد كثيراً في قبول الفكرة الجديدة، المختلفة، الطارئة، التي ربما تصطدم مع السائد. أغلبنا لا يقتحم مغامرة القبول حتى تقبل القبيلة». تستهل الكاتبة عرض الفكرة ـ المشكلة ـ بإيجاز مكثف، لا يزيد على جملتين. بعدها تعقد مصالحة راقية مع المتلقي، تجعل الخطاب وكأنه جلسة «أهلية بمحلية»، مفعمة بالود والمحبة، خاصة حينما تقرر فوراً أن المشكلة ليست عند المتلقي لوحده، وإنما هي من الطباع المتأصلة «في معظمنا»، فـ»نحن شعوب تتمترس في قلب القبيلة»، و»أغلبنا لا يقتحم مغامرة القبول حتى تقبل القبيلة». ما يعني أن الكاتبة لم تطرح فكرتها من موقع متعال على القارئ، بل اختارت أن تكون معه على حد سواء. وتعزز حرصها على المودة والندية المتكافئة في التلاقي باعتراف صريح. ذلك لأنها تعي بعمق أن المبدعين الحقيقيين يعرفون عندما يكتبون أنهم لا يحتكرون الصواب، ويدركون أنهم ليسوا بأوصياء على أحد، فـ»نحن لا نسدي النصائح، ولا نمارس الوعظ هنا، لأن ذلك ليس دورنا، ولأن الناس لا تحب ذلك، وأيضاً لأننا على يقين أن لا وصاية لأحد على الآخرين مهما بلغت درجة ثقافته». هكذا ببساطة تفرش سلطان «بساطاً أحمدياً» للتلاقي مع المتلقي، وشرح ما تعنيه بسخاء. ومن ثم تختم برأيها الخاص، الذي لا يبتعد عن روحية المودة، إذ ليس على الإنسان سوى أن يتسق مع قناعاته، ولكن على هذه القناعات أيضاً ألّا تسير عكس اتجاه نهر الحياة الزاخر بالاختلاف، الاختلاف الذي يصنع المشهد العام في صورته الكلية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©