الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ناصر جبران.. مصاهر الغد البعيد

ناصر جبران.. مصاهر الغد البعيد
15 نوفمبر 2017 19:11
محمد حسن الحربي فجأة وبهدوء رحل ناصر جبران. كنتُ التقيتهُ قبل يومين بالتحديد من خبر الفقد المُحزن، يوم الجمعة «3 نوفمبر 2017»، وإذا ما أسعفتني الذاكرة، كان اليومُ أربعاء ظهراً في مقهى بمتاجر الجرينة، منطقة سكنية تقع خلف المدينة الجامعية بالشارقة. أذكر أنني سألته حال وجدته هناك، مستغرباً ومبتسماً، والساعة كانت تقارب الثانية من بعد الظهر: «ما الذي جعلك تُغيّر عادتك يا أبا جبران وتتأخر في المقهى إلى هذا الوقت؟». فردَّ: «أنتظر البنت، فآخر محاضراتها الجامعية تنتهي بعد قليل». كان من عادته حينما يجلس في مقهى «تيم هورتنز» في متاجر الجرينة، أو مقهى «آنديتشي» قرب منتجع ماربيا على كورنيش بحيرة خالد بالشارقة، أن يتناول فنجان قهوة تركية، من دون سكر، ولا يثنّي عليه، بل يكتفي بالماء، ثم يستغرق في قراءة كتابٍ معه غالباً ما يكون رواية. يومان في الأسبوع، أو ربما أكثر، كنت أراه يكتب فيهما مستخدماً جهاز «آي باد». كان هذا جزءاً رئيساً من برنامجه اليومي؛ يأتي من عجمان، حيث سكنه، إلى أحد المقهيين في الشارقة «تيم هورتنز أو آنديتشي»، بانتظام وتنظيم، كنت حين أراه في أحد المكانين، أنظر إلى ساعة هاتفي لأجدها التاسعة صباحاً. وكان جلوسه إلى طاولة محدّدة لا يغيّرها إلا إذا كانت مشغولة من شخص سبقه إليها، ودائماً ما كان يعطي ظهره إلى الخارج ووجه إلى فضاء المقهى، تجنباً للإضاءة في هذا الوقت من الضحى، ومستفيداً منها. إن أسعفني الحظ ورأيته لم يكمل بعد فنجان قهوته التركية، بادرته بالسلام والجلوس إليه للدردشة التي غالباً ما كانت متقطّعة وسريعة، إما إذا رأيته قد باشر القراءة فالأمر يختلف، أحاول دخول المقهى بطريقة أحرص فيها ألاَّ يراني، وأجلس لأبدأ عملي، لكن ربما بعد قليل وفي ما يشبه الاستراحة، نلوّح لبعضنا ثم نبتسم وينهض أحدنا إلى الآخر لنتبادل سؤالاً واحداً في الغالب هو: «من متى وأنت هنا؟». لماذا تكون دردشتنا متقطعة وسريعة؟ لأننا نريد في مثل هذا الموقف، الحديث عن موضوعات عدّة، متداخلة ومتشعبة، وفي أقصر مدة زمنية، تفادياً للتأثير على برنامجنا الموحّد والمتشابه في جلّه، فهو هنا للقراءة والكتابة وكذلك كنتُ أنا. من تلك الموضوعات التي كنّا نمرُ عليها سريعاً، كما لو أننا نتفقدها أو نتذكّرها أو نُذكّر أنفسنا بها بصوت مرتفع، الكتب التي قرأناها أو التي سنقرأها، المشروعات الكتابية التي بدأناها، وأين وصل أحدنا فيها، أو تلك الكتابة التي لم نبدأ بها لتظل أفكاراً على ورق، لم نجد لها وقتاً أو مُفتتحاً تمهيدياً يشجعنا على المضي فيها بتدفق مُرضٍ ومعقول، إلى جانب ذلك كنّا نسأل بعضنا بعضاً عمّا نحن فيه من حال صحية، اعتماداً على ممارسة الرياضة البدنية اليومية، لما فيها من شعور عام مطمئن، يجعلنا نحسُّ بشيء من السعادة الفيزيائية، إن لم تكن سعادة نفسية أعمق، في الأقل تشعرنا أننا بخير «أفضل من غيرنا» كون المحيط المترفّة خامل وكسول. كنا نستعرض نوايانا في السفر القصير غالباً، وأي الجهات تحظى بالترشيح في هذا الوقت من العام. ممارسة الرياضة اليومية لم تعد هواية مشتركة بيننا فقط، ناصر وأنا، بل غدت ضرورة صحية، وأصبحت مسألة حياة، لا يجرؤ أحدنا على التفكير بإهمالها أو تأجيلها لأي سبب من الأسباب مهما عَظُم. ورياضتنا اليومية كانت المشي، كان ناصر يمارس المشي شبه اليومي، كما كنت أفهم منه، ولا أدري أيُّ الأيام كان «يكسر» فيها برنامجه كما يفترض، أهو يوم الجمعة أم يوم السبت، لكنه كان يحرص على المشي حرصه على المطالعة والكتابة، حتى عندما يكون في مقهى الـ«آنديتشي» ويحين وقت صلاة الظهر على سبيل المثال، كنتَ تراه يتوقّف عما كان فيه، وينهض خارجاً إلى المسجد الذي كان يستغرق الوصول إليه، ذهاباً وإياباً، زمن بين 20 - 25 دقيقة، وإذا ما أضفت إلى ذلك فترة المشي لنصف ساعة يومياً، كان صاحبي في دائرة المعدّل النموذجي للصحة البدنية وهو 150 - 200 دقيقة أسبوعياً. لم أرَ أبا جبران يوماً إلاَّ مبتسماً، كان «مرحبانياً» وكريماً، ويمتلك قدرة فائقة على تشجيع جليسه على أن يتحدث عن نفسه وأحواله بتدفق مطمئن، وتلك لعمري ميزة لا تتأتّى إلا لإنسان خاص، فضلاً عن أنها ميزة تندرج في قائمة الحميد النادر من القيم السامية. هو ميّال إلى النكتة، وغالباً ما يبدأ هو أولاً «إملوحاته» ليجر جليسه من قلبه إلى مقام المرح، لتكر المقامات من بعد، وليطفقا معاً إلى فضاء من الارتياح البهيج، يعتقهما من عكوسات الحياة وشتى أنواع المنغِّصات الأخرى. كنت ترى ناصر جبران ممتلئاً بالهدوء الداخلي، وغالباً ما يكون هذا حاله، لكن حينما تعمّق النظر في روحه مخترقاً سواتر عدة، كنت تجد حقيقة مرة، تجد أن تلك السكينة لا تليق به، فثمة موار لا يهدأ في داخله، فشلت بلجمه طمأنينة الخارج التي تحتكرها أحياناً غواية الاجتماعي. لم يكن الرجل حزيناً أو خائفاً لكنه تعايش مع عزلة موحشة من نوع ما، ورغم أنه كان على الدوام، غاضباً من أشياء كثيرة في المكان حوله.. حولنا، لكنه كان ناجحاً في جسرِ متناقضين، الوحدة الموحشة ودفء الأمل. كان يعوّل كثيراً على غده، أنه سيأتي بالأجمل المنتظر. لقد جاء ناصر إلى الهامش البارد على كبر تجربة، فكان ألمه مضاعفاً وبما لا يمكن وصفه، وهو الذي حفر بأظافره، مع من حفروا، أساسات الجمعيات الأهلية والمهنية في وطن متوثب، لكنه فجأة وجد نفسه يكسر دائرة الضوء تجاه الظل. ناصر كان نسراً وحيداً في ذروة عزلته المنبسطة النهايات، ملتفاً بكبرياء التاريخ والأسلاف، مصاهراً الغد البعيد بأسراره الجديدة. كنتَ إذا ما أطلت الرفقة معه، استطعت تحسس اشتعالاته المتجددة، الدفينة المحجبة على الآخرين، ليثبت لك يقيناً، أن روحه تغصُّ بعتبٍ من نوع خاص، وسع كل أطراف جزيرة العرب. رحل ناصر جبران وهو على حاله هذه، ربما ليكمل بها ما ينقص الغياب في أبديته. قصة الحنين اليوم، وبعد ما يقارب 46 عاماً من عمر دولة الاتحاد، نحن أمام قصة الحنين مجدداً في بعض الأعمال الأدبية، لماذا يكون ذلك وكيف ونحن في ما نحن فيه من رخاء ورفاه؟ (1) عقد الثمانينيات كان عقداً ذهبياً في الإمارات، بل ربما في العالم كله، وتلك حقيقة قليلًا ما يختلف عليها اثنان. والأعمال الأدبية في الإمارات في ذلك العقد وبمختلف أجناسها، كانت على مستوى الكم كثيرة وعلى مستوى الجودة كانت هي الأجود مقارنة بالقليل الذي سبقها «فترة السبعينيات». هذا ما ذهب إليه كثيرٌ من المهتمين والنقّاد الجادين. وبينما كانت تلك الأعمال تنم على جموح غير مألوف لدى كتابها المتحمسين، كانت هنالك في الوقت ذاته أعمالاً اتسمت بطابع الحنين إلى الماضي. وعندما تتحدث هنا عن «الماضي»، فإنك تعني بذلك فترة ما قبل النفط، أي ما قبل تأسيس دولة الاتحاد وانبلاج فجرها. إن ذلك الحنين إلى الماضي أو ما يمكن تسميته «النوستالجيا» كان مبرراً ويمكن تفهمه بسهولة؛ فالطفرة الاقتصادية كانت عاملًا رئيساً صعبَ على كثيرين استيعابها بالسرعة نفسها التي حدثت بها. وتلك الطفرة الاقتصادية التي حولت البلاد إلى ورشة عمل وبناء مستمرين في ظل دولة الاتحاد، شكلت هي الأخرى عاملاً أسهم في تعميق الحنين بدلاً من الرهان على مستقبل توضّحت إرهاصات ازدهاره. لكن ذلك الحنين إلى الماضي لم يكن مبرراً على نحو كاف في بعض جوانب الحياة القافزة إلى الأمام بخطوات واثقة حاملة في ثناياها شتى أنواع الرفاه، كان البعض يرى أنه وضع مرحلي سرعان ما سيتوقف كونه ليس مرشحاً للاستمرار حتى زماننا الحالي، وكان هذا التوقع مجانباً للصواب. الاتحاد كان رؤية جد استباقية استشرفت المستقبل بكثير من الدقة، فما ينعم به الإنسان اليوم في الإمارات هو نتيجة حتمية لتلك الرؤية وتلك القراءة الاستشرافية المبكرتين. ومع ذلك كان المرء يقفُ أمام ذلك الحنين وقفة المنتظر لما قد تسفر عنه الأيام المقبلة متفقاً مع جهينة «فقد يأتيك بالأخبار من لم تزّودِ». (2) اليوم، وبعد 46 عاماً نحن أمام قصة الحنين مجدداً، فبعد كل تلك العقود التي انصرمت جاء من يقول لنا بجملة واحدة جريئة «إن الخوف من واقعنا المعيش الذي تحول إلى كابوس يؤكد أن ذلك الحنين إلى الماضي كان ثمة ما يبرره». هذا الرأي هو الأديب الراحل ناصر جبران في عمله رواية «سيح المَهَبْ ». ويعد جبران ممن برزوا في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، وعملوا على مأسسة الثقافة في الإمارات العربية المتحدة، دولة اتحاد فتية لم يكن قد مر على تأسيسها آنذاك سوى عشرة أعوام ونيّف، الأمر الذي سيضع وعلى مدى الأعوام العشرة أو العشرين المقبلة، مهام جسام ومسؤوليات كبيرة على عاتق تلك الكوكبة الشابة والمتوثبة من أبناء الإمارات، نحو غدٍ أفضل على كافة المستويات والمجالات كلها، فقائمة الجمعيات التي كان عليهم البدء بتأسيسها وإشهارها طويلة، والمعوّقات التي كان مصدرها غياب الخبرة هي الأخرى لم تكن بتلك السهولة، كون ما كان يجري العمل عليه كان بكراً ولا خبرة سابقة فيه اللهم سوى إطلاع هنا أو قراءة هناك واستعانة بهذا المصدر أو ذاك. وكان عليهم وسط ذلك كله، مهمة ألا يسمحوا لليأس أن يتسرب إلى نفوسهم أو يؤثر في حماستهم فيثنيهم عما هم بصدده من مهام وإنجازات. يصعب التعرض إلى عمل يحكي لنا الكثير في مقام ضيق كهذا. لكن بما أن الخطاب غالباً ما يُقرأ من عنوانه فإن مؤلَف جبران بهذا المعنى كان واضحاً من عنوانه أيضاً؛ فـ«سيح المَهَب»، وهي منطقة تقع على جانب من جوانب طريق مدينة الشارقة - الذيد من أعمال الشارقة؛ أرض منسبطة وممتدة أطلق عليها «المَهَب» ولا يُعرف ما إذا كانت تشكّل مدخلاً لهذا «المَهَب» الجديد المقبل أم في نهاياته، بيد أن الرسالة التي أرادها لنا الكاتب وصلت بوضوح كاف؛ نحن في كثيرٍ من أمورنا في «مهب» لريح لا يُعرف لها جهة ولا موعد لمهبها ولا توقعات دقيقة لمخاطرها شبه المؤكدة، تاركاً سؤالاً من دون إجابة. هل في الأفق فعلاً ثمة ما ينبئ بهبوب مثل هذه الريح؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©