الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أرملة رجل ليس ميتاً

أرملة رجل ليس ميتاً
20 يوليو 2011 19:43
لو تسنى لنساء العالم أن يحببن أزواجهن بالطريقة التي أحببتك بها، الطريقة التي تجعلني الآن أدور حول نفسي كما لو أني أمارس طقساً صوفياً، الطريقة التي أتهجى بها كل غرفة في بدنك، كل نوتة في لحن أغنيتك، كل كوكب في فضائك، كل قاع في قيعانك الكثيرة، لو تسنى لهن ذلك لفقدن على الأرجح عقولهن المتألمة وهن في الطريق إلى أرواحهن، لكن كم كان الله شفيقاً بهن، حين لم يخلق على الأرض سماوياً سواك، ومنحك لي ملاذاً آمناً مثلما منح العصفور شجرة يبني عليها بيته قشة قشة، وأنا ابتنيت لي منك موطناً أسكن فيه حين تتوه عني الأوطان وتغادرني المدن، وتحبسني الأقفال داخل جدرانها. مرة رأيتك ميتاً في المنام وانتفضت، بعد ساعة سردت لك تفاصيل ما جرى، وكيف أنك نهضت من موتك واتجهت إلى المطبخ وأعددت لنا كوبي قهوة تركية، واحداً بنكهة الهال لأجلك، والآخر بملعقتي سكر لأجلي، كنا نحتسي فنجانينا ونحن نبتسم دونما كلام، حين أنهيت سرد روايتي، ضحكت ضحكتك الرائقة وقلت لي إنني إذن أرملة رجل ليس ميتاً، لكنني لم أبادلك الضحك، وبعد دقيقة كنت قد انخرطت في نوبة بكاء مريرة وأنا أرجوك ألا تموت أبداً، لأنك كل ما تبقى لي في هذا العالم. في اليوم التالي وحين غادرت إلى عملك، انتهزتُ فرصة غيابك، وجمعت بعضاً من أغراضك الشخصية عثرت على بعضها في سلة القمامة الموضوعة عند باب الغرفة: عقب سيجارة، بقايا ثلاثة أظفار، علبة جل شعر فارغة، غطاء قديم لهاتفك المحمول. ومن خزانة ثيابك أخرجت واحداً من قمصانك المفضلة، وفانيلتك البيضاء التي طلبت مني التخلص منها بسبب بقعة حبر أزرق ولكن لحسن الحظ أني نسيت، ومن ثوبك المعلق في الحمام من أجل الغسل، جمعتُ عشراً من قصاصات شعرك التي علقت عليه بعد عودتك من عند الحلاق، جمعت كل هذا وخبأته في المندوس الذي أحتفظ به في الطابق العلوي، حتى تلك اللحظة لم أدرك أنني سأمارس هذه العادة في كل يوم أستيقظ فيه، أنبش عن أكثر الأشياء التي التصقت بك، أرتبها بحرص وحذر، وقد أضمها إلى قلبي وأقبلها ثم أضمها من جديد وبشدة هذه المرة قبل أن أعيدها إلى الصندوق المعتق والمعبأ برائحة دافئة تشبه رائحة مألوفة، هي خليط من المحلب والزعفران كانت جدتي سالمة تخضب به شحمة أذنيها فنعلم بقدومها إلى المنزل من أثر تلك الرائحة. ـ هل بدأت أفقد عقلي؟ سألتك حين أغلقت كتابا كان في يدي، وكنت أدعي أنني أقرؤه، مثلما كنت تدعي أنك تشاهد مباراة في كرة القدم ضمن فرق الأندية الأوروبية، أجبتني بعد أن أغلقت جهاز التلفاز ونهضت باتجاهي وأسندتني على الأريكة وحملت ذراعي في يدك، كما لو أنك تحمل جنينا هشاً وطرياً وأنت تمرر أناملك على باطنها: ـ أعتقد أن كلينا قد بدأ يفقد عقله. في تلك الليلة ضحكنا إلى حد البكاء، ورقصنا بطريقة عشوائية على أنغام أغنية فارسية لم نفهم شيئاً من كلماتها ولكن أحببنا عذوبة اللحن، وأكلنا عشاء نصف محروق، وحين لعبنا الغميضة وفشلت في العثور عليك، اجتاحني غضب هائل تداخل بألم الأرامل في ساعة الحداد الأولى، ضممتني إليك بقوة وأنت تحاول تهدئتي، لكن عبثا فعلت، لقد عاودني ذلك الشعور البائس بأني قد فقدتك، أنا التي تحديت إخوتي الذكور وسائر أفراد عائلتي وتزوجت بك دون رضاهم ولا حضورهم إلى حفل زفافنا البسيط، أهذي الآن بأني قد فقدتك إلى الأبد. كيف أنسى.. قل لي كيف؟! يوم اتصل بي شقيقك على هاتفي النقال، كان ذلك قبل ستة أشهر من الآن، وكنت ساعتئذ منشغلة في المطبخ بإعداد وجبة مكبوس سمك الكنعد كما تحبه، قال لي إنك قد تعرضت لحادث سيارة قبل قليل، لم أتمكن من سماع بقية كلامه، لأن الهاتف كان قد سقط من يدي، وكنت قد سقطت على إثره أنا أيضاً. كأن هناك من سدد طلقة رصاص غادرة نحو قلبي الذي لم يكف عن الألم، كأن هناك من سحب الهواء من المنزل فما عدت قادرة على ممارسة الشهيق أو الزفير، كأن هناك من شد أطرافي وكامل جسدي إلى الأسفل فعجزت عن النهوض والتقاط السماعة لأسأل الأرقام المخزنة عنك، لا أذكر كم لبثت على تلك الحال، لكنني لمحت وميضاً قادماً من جهة الباب الذي دخلت منه مثل طائر يسبق أجنحته، حملتني بجزع وأنت تشتم أخاك الذي كان على وشك أن ينسفني من دون قصد، تركت قبلة رقيقة على جبيني وهمست في أذني: ـ يا قطتي، يا بومتي الحارسة، يا أمي، يا ابنتي، يا توأمي السيامي، أنا الأعمى الذي يعرج وأنت عصاي. بعد ستة أشهر وأسبوعين كنت قد أصبت بنوبة جنونك حين شرعت في كتابة رسائل حب، كنت أعلم يقيناً أنها لم تصل إليك لأني كلما كتبت واحدة، خبأتها في صندوق أسراري. فيما بعد تحولت صيغة الرسائل إلى العتاب والشكوى من تجاهلك المستمر لي، وفي إحدى تلك الرسائل لم أكتب سوى جملة واحدة تقول: من الأفضل لنا أن نفترق. لكني سرعان ما قمت بتمزيقها وتكويرها ومن ثم رميت بها في سلة القمامة. بعد ذلك بيوم، حبست نفسي في الحمام، ومررت طرف الموس الحاد على كامل ذراعي، ثم انحدرت به على ساقي، لم أكن أتألم وأنا أرى خيوطاً من الدماء وهي تسيل رفيعة ومتداخلة مثل شباك العنكبوت، كنت أنتشي من لذة الوخزات التي كنت أشعر بها وأنا أسترجع ذلك المقطع الشعري لبسام حجار: ليس الموت الذي يميتك بل الموت الذي بداخلك الموت الذي يحيا بك وتصدق أن كل هذا تعب بعدها لم أشعر بشيء، غبت تماماً عن الوعي، وحين استيقظت في وقت ما، اكتشفت أني كنت أرقد على سرير المستشفى الأبيض، لم أجدك إلى جواري كما هي عادتك، وجدت بدلا منك جميع أفراد أسرتي التي توسطتها أمي الهلعة الباكية، سألتهم عنك وأنا تلفني الحيرة أمام هذا المشهد الغريب ولم يجبني أحد، لكن ابنة أخي الصغيرة والتي لم تكن قد ألمت بعد بتفاصيل فجيعتي قالت بنبرة بريئة وجازمة لا تقبل التأويل إنك قد مت في حادث سيارة قبل عدة أشهر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©