الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

من فن «الميدان»...

من فن «الميدان»...
20 يوليو 2011 19:38
الميدان من الفنون المهمة في شبه جزيرة عُمان (= أي السلطنة والإمارات). وهي من الأداءات الحركية إلا أنها أنتجت قولاً شعرياً مستقلاً، وهو كذلك قريب من تركيبة الموال، إلا أنه يختلف عنه بتكون خاص. وعلى العموم نحن نفتقد إلى دراسات تتناول هذه الفنون، رغم أهميتها في قراءة هذه المنطقة، وإنسانها. مقاطع الميدان خارج الأداء الحركي متداولة بشكل كبير بين أوساط الناس. فالكثيرون في المنطقة المذكورة يحفظون مقاطع “شعرية” من الميدان، حتى وإن كانوا لم يشاهدوا أبداً أياً من أداءاتها الحركية. ولأنَّ “الميدان” كفن شعري/ حركي يعتمد على شاعرين يتراددا، أو فيما يسميه الباحثون في النظرية الشفاهية بلهجة المخاصمة، فإن للميدان أو لقصائده ـ على الأدق ـ شعراءها ورغم ذلك فإن الكثير من مقاطع “الميدان” قد ينسى قائلوها، وانتخبت شعبياً، وظلَّت ترددها الأجيال، واحد تلو الآخر. وفي هذا المقال سأقرأ لكم ثلاثة مقاطع من الميدان، لأعرِّف القارئ على “طبيعته” أولاً، ومن ثم، وبصوت مسموع، أدوِّن قراءتي لتلك المقاطع، وأنصت لها وأسمعها حقاً. أوَّل هذه المقاطع الثلاثة من الميدان يقول: “مالي أنا أقول وانت تقول ما ينفع القول في واحد يوم انت تقول وأنا أقول ما حد بيسمع قول واحد” فيا ترى ما الذي يريد أن يقوله شاعر “الميدان” هنا؟. إنه بالتأكيد ليس ضد ما يقوله الآخر. ولكن كذلك، وربما احتراماً للآخر: “ما ينفع القول في واحد”. على طرف أن يسمع ليقول الطرف الثاني. لكن في المقابل لا تتحقق الحياة إذا ما كان هناك طرف عليه أن يسمع دائماً وباستمرار. وبوضوح يقول شاعر “الميدان” بما أنك (يوم) تقول، وأنا أقول، فإن فرضية “القول الواحد” قد نسفت، لا يوجد قول واحد إذن، ولكن هنالك من لا يسمعون، أي لا يؤمنون بالحوار، وهنا يقول المقطع الثاني من “الميدان”: “أوزن سمك خن لكن عود باغيه أقول لك شي في صماخك تمنيت لك غول لكن عود وعقرب كما الضب في صماخك” و”الخن” ـ ويسمى كذلك “الخنان” والجم ـ من الأسماك “القططية” التي تصاد بكثرة في سواحل الإمارات، و”الصماخ” الأذن وهي لفظة عربية تليدة. ويُقال “يعلك الصمخ” حين يدعى على أحدهم بأن لا يسمع أبداً. وشاعر “الميدان” هنا يتكلم على لسان إحداهن، إنها في السوق لأن الميزان في السوق، وهي هناك تزن سمك “خن”، ومن العادة أن تكون أسماك “الخن” ليست صغيرة، ولكن “الخن” الذي توزنه خن “عود” أي كبير. هذا هو المشهد الذي يعبِّر عنه الشطر الأول من البيت الأول في هذا “الميدان”، ولكننا نفاجئ بعد ذلك بقولها: ... باغيه أقول لك شي في صماخك”. “باغية” أريد أن أقول. إرادة القول حاضرة إذا. كما أنها لا تريد أن تقول له (في “صماخك”: في أذنك) أسراراً، إذ إنني إذا ما تداعيت تداعٍياً خاصاً يتلمس التذوق المحلي الدفين، لا تقول من توزن سمكة خن كبيرة (= “عوده”) لصاحبها سراً. فمن “يساسر” (أو هكذا يقال محلياً لكلام المودة) يستعمل في كلامه الأشياء الصغيرة والألذ والألطف والأخرق، أما القائلة هنا فإنها لا تريد “المساسرة”، تريد أن تقول شيئاً. وهذا يتضح أكثر في البيت التالي: “تمنيت لك غول لكن عود وعقرب كما الضب في صماخك” والغول في الأساس من كبار الثعابين، لكنها تتمناه أكبر. وتتمنى كذلك عقرب وضب. وأين تتمنى أن تكون كل هذه الكائنات الخرافية. تتمناها أن يكونوا في أذن أو “صماخ” من تخاطبه. وهذا يعيدنا لقراءة البيت الأول من جديد، فالمشكلة تزن سمكة “خن” كبيرة لا لشيء إلا كي تضيفها إلى قائمة تلك الكائنات التي ستملأ فيها إذن من تتكلم معه. إنها تريد أن تقول له شيئاً فعلاً ولكنه لا يسمع. وبمجازية خاصة عوّدنا عليها شعر “الميدان”، فإن حشد تلك الكائنات الخرافية: سمكة “الخن” بشواربها القططية، الغول، العقرب، الظبي، في تجويف أذنه. لعلَّ ذلك يفك “عقدة الصماخ” عنده، ويسمع ما يراد أن يقال. أما مقطع “الميدان” الثالث فيقول: “اسمع عوي ذيب في البحرين وأركض أنا على هوش البلاد أنا ما همني الذيب في البحرين أنا همني هوش البلاد” و”الهوش” مفردة فصيحة تعني الدواب من نوق وماعز وضأن وغيرها. وشاعر الميدان هنا يتقمص دور الراعي الحريص على ماشيته أو “هوشه” حتى أنه يسمع عواء الذئب في البحرين. ان سماع الراوي لعواء الذئب في البحرين، هو من قبيل “انتظار البرارة” الذي تحدث عنه كافافي في إحدى قصائده المعروفة. وبالتأكيد، فإنَّ الراعي يدعي دوماً الحرص على قطيعه (مع احتفاظه بحق استخدامه كأضاح أو متاجرة أو ذبح)، إضافة إلى ذلك فإن للشاعر “الميدان” هنا، يقول على لسان الراعي: “اسمع عوي ذيب في البحرين وأركض أنا على هوش البلاد” إذن إنَّ لفظة “أركض” محمَّلة بدلالات متشابكة، فهل يا ترى ركض الراعي على تلك الماشية كي يحميها، أم كي يتصرف بها بما يستدعيه ذلك التوتر الذي صاحب على الأرجح، سماعه لعواء الذئب في البحرين. ثم بعد ذلك يأتي البيت الثاني ليزيد هذه التساؤلات التباساً، إذ يصرح الراعي بأنه لا يهتم أبداً بذلك الذئب الذي عوى في البحرين، وإنما كل اهتمامه منصب على “هوش” أو ماشية البلاد. ومفهوم “الاهتمام” هنا واسع جداً. فهل سيزيد الراعي من إطعامها مثلاً، أم أنه يسارع إلى ذبحها أو بيعها؟. لا نعرف. فمصير المواشي دائماً مجهول وهي في يد الرعاة يقررون متى تعيش ومتى تموت. ومن الواضح بأن الرّاعي في مقطع الميدان هذا قد سمع عن عواء الذئب وهو بعيد بمسافة ما عن البحرين، ولكن ورغم سماعه بهذا العواء إلا أنه ينكر بوضوح اهتمامه به. ذلك الانكار الذي ينبئ ـ على وجه التحديد ـ قطيع “هوش البلاد” بمصير أسود. انها ثلاثة مقاطع من شعر “الميدان”، أردت من تذكرها هنا التعبير عما ينطوي عليه هذا الشعر من نكهة خاصة. ولعله من الفنون الشعرية العربية “العامية” التي كانت عيون قولها اللغوي مفتوحة على أشدها، فالتقنيات اللغوية من جناس وطباق أو عموم العروضيات، تحك في مثل هكذا أشعار حتى تصدر صوتاً خاصاً بها. وكما تطرقنا في مطلع هذا المقال، فإن شعر “الميدان” هو في الأساس أهازيج أداءات حركية، ثم وحدث وإن صار له شعراؤه المعروفون، لكن الناس في هذه المنطقة انتخبوا مقاطع منه، ويرددونها دائماً كما تردد الأمثال. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©