الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الباحثون عن الوهم...

الباحثون عن الوهم...
20 يوليو 2011 19:35
صبغت البحوث الآثارية لقرون عديدة بصبغة الرواية التوراتية، وفي ظلها وعلى هديها كتبت بحوث وألفت كتب ودبجت مقالات، بل إن بعضهم اعتبر أن فلسطين لم تكن شيئاً لولا وجود العبرانيين فيها؛ فهم (حسب زعمهم) الذين منحوها هذا البعد الميثولوجي الغني... وإلى الآن، لا يزال تاريخ هذه البلاد يختلط فيه الوهم بالحقيقة، والواقع بالأسطورة، ويدفع الفلسطينيون كل يوم فاتورة هذا الخلط ثمناً فادحاً: قتلاً وتشريداً وشتاتاً لا يشبهه شتات. وفيما يغض العالم بصره سياسياً، كما غضّه آثارياً يجري تهويد الأرض ومحو هويتها، ويُضخّ الدم في الرواية الميتة لتعود لها الروح، وتكسو عريها عن الحقيقة بثوب لا يستر حتى هيكلها العظمي. ثمة حمولات فلسفية وتاريخية وميثولوجية تجعل من كل مكان في فلسطين مشروع معركة يسعى كل طرف لكسبها مهما كانت صغيرة. وثمة ما يجعل الأساطير تمشي على قدمين أو تمتطي ظهر التاريخ الذي أعتقد شخصياً أنه يئن لكثرة ما حمّله البشر من مظالم هو غير مسؤول عنها... وربما لو أتيح له أن ينطق لصرخ فيهم بكل ما في روحه من العذاب: كفوا أيديكم عني. لا يتوقف دوي التاريخ في تلك الأرض التي وصفها آرنولد تويني باللغز التاريخي، ربما لأنه أكثر تعقيداً مما تتيحه ميكانيكية الكلمات أو حتى عبقريتها، كما لا تفلح النصوص القديمة رغم المسافات الزمنية الطويلة التي قطعتها في توضيح هذا اللغز ربما لأن العيون الشرقية مأخوذة بما تقوله السماء. في تلك الأرض ترتطم الحقيقة بالخرافة، يتصارعان، يتجادلان، ولاتكتب الغلبة (مرحلياً على الأقل) لأي منهما... بدأ الصراع قديماً على تلك الأرض. لم تكن 1948 سوى ترجمة لنصوص أصرّ أصحابها على تفخيخها وتحويلها إلى حقول ألغام، من يومها اصطدمت الروايتان وتناثرت جراء الاصطدام جثث وأشلاء وسفكت دماء الأبرياء. لقد فتح صندوق بندورا واندلع حريق كبير فاق كل شرّ تخيلته حتى الأسطورة. لم يكن ذلك مجرد ممارسة عدمية أو مضغاً سيزيفياً للنص كما يرى نورمان مايلر، بل كان مشروعاً استعمارياً محسوباً، واضح المعالم والاستراتيجيات، لعب فيه الاقتصاد والتاريخ والدين وغيرهم أدواره الكاملة. ولم يكن للقادمين الجدد إلى هذه الأرض من بلاد بعيدة، ربما لم يسمع الفلسطينيون باسم بعضها حتى ذلك الوقت، إلا أن يبحثوا عن سند يؤهلهم ليكونوا هنا... وما زالوا يبحثون في باطن الأرض عن هذا السند أو الدليل. في أحدث الأخبار الواردة عن جهود التنقيب التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي بثت “وكالة اسوشيتيد برس” صورة لباحثين وعلماء آثار يظهرون في موقع تل الصافي الأثري جنوب فلسطين المحتلة لينبشوا ذاكرة القرية العربية “تل الصافي” التي تعرف في الكتابات الأثرية ولدى علماء الحفريات والآركيولوجيين باسم: مدينة (Gath) “جيث” أو “جالوت”، يقودهم الدكتور ارين مئير الذي يشرف على مشروع الحفريات التي كشفت عن وجود عدد من التماثيل التي تمثل الآلهة الأم الأنثى، مما يشير إلى انتشار عبادتها على نطاق واسع خلال الفترة الكنعانية والفلسطينية القديمة وهي فترة سابقة على ظهور الديانة اليهودية ليثبت مرة بعد مرة تجذر الفلسطينيين على هذه الأرض. والذين يعرفون التاريخ الفلسطيني يعرفون أن الآلهات لهن حضور واضح في قرى وتلال فلسطينية كثيرة كما في تل الصافي، ويبدو أنهن كن مفضلات لحقب زمنية طويلة... على أننا سندع مثل هذا الاكتشاف وما يعنيه للباحثين في الأرض ونبحث نحن عما فوق الأرض. ما تخفيه الصورة حملت هذه الصور التي التقطت في السادس من يوليو الجاري، بالإضافة إلى المعلومات التقليدية التي توردها عادة وكالات الأنباء تعليقاً دالاً عن الهدف الذي تتغيّا التنقيبات الأثرية تحقيقه من الحفر في أحشاء هذه الأرض المستباحة. والهدف كما جاء في التعليق يتمثل في “تفكيك تاريخ الفلسطينيين الذين يذكرهم “العهد القديم” كأشرار (باد جايز) وأعداء دائمين لبني إسرائيل”. تذكر الصور أن أعمال الحفر ستساعد البحاثة على رسم صورة أكثر دقة لهؤلاء الفلسطينيين (الأشرار!!!) لكن كاتب التعليق يغفل عامداً، وعن سبق إصرار وتحريف، أن يذكر أن هؤلاء الفلسطينيين هم السكان الأصليون لهذه القرية العربية التي يتم الحفر فيها، وينسى واقعة تاريخية لا تزال شواهدها قائمة في بقايا البيوت المهدمة وهي أن أصحابها طردوا منها، وتم تطهيرها عرقياً على أيدي (الأخيار!!!) من الإسرائيليين المحتلين. تنسى الصورة كل الحقائق وتحفر في الأرض لتعرف كيف هم الأعداء وكيف عاشوا وكيف كانت طقوسهم وما هي آلهتهم، رغم أن هذا كله لن يؤثر في الأمر شيئاً. والمعرفة التاريخية بالآخر لا تفلح في فهم سبب كراهيته، حيث يفترض الإسرائيليون أن العرب يكرهونهم هكذا بلا سبب، ولهم في تفسير سبب هذه الكراهية تفسيرات شتى إلا تفسير واحد هو التفسير الحقيقي، وهو قائم على مرمى نظرة منهم، إنه ببساطة شديدة الاحتلال... ولا يحتاج مائير لينبش باطن الأرض ليفهم الفلسطينيين، ما عليه إلا الذهاب إلى أقرب مخيم من مخيمات الضفة الغربية والاستماع إلى ما يقوله البشر هناك عما حدث في العام 1948 من بشاعات ومجازر لن تولد بالطبع سوى الكراهية. هناك سوف يسمع الرواية المقابلة للرواية الإسرائيلية التي تبحث في باطن الأرض عن كسرة فخار أو نقش أو رسم يؤكدها... بينما إلى جانبه، على بعد أمتار قليلة، رواية فلسطينية حقيقية لا تزال قائمة على قدميها، وبين يديها صور ووثائق وبشر ومخيمات وذاكرة خضلة بما حدث في العام 1948، وهو عام ليس بعيداً في التاريخ ولا يستند إلى وهم، من دون أن ننسى أو نهمل أن التاريخ يقول بالفم الملآن وعبر كل المكتشفات والآثار التي أُخرجت من باطن الأرض أن الفلسطينيين هم سكانها القدامى، عاشوا فيها وماتوا فيها، وعمّروا وغنّوا وحصدوا وزرعوا وأسسوا ذاكرتهم وهويّتهم الثقافية والحضارية والدينية، وشيّدوا المدن والأقنية ولم يغادروها منذ أربعة آلاف عام على الأقل... ليحفر مائير ما شاء... لن يقول له باطن الأرض غير ما قاله أهلها... ولن يسمع من الحجر سوى ما سمع من البشر. بقاياهم فوق الأرض في السفوح الغربية لجبال الخليل، على الطرف الجنوبي لوادي عجّور، كانت قرية تل الصافي تربض فوق تلتها الأثيرة، تطل على سهل وحقول وشمس خضراء. وكان ثمة طريق فرعية تمتد من قلبها إلى الطريق العام الذي كان يمتد بين المجدل وطريق القدس – يافا الذي كان يمر إلى الشمال الغربي منها... ويقول المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي صاحب الكتاب الشهير “كي لا ننسى”: “تعتبر تل الصافي من المواقع الفلسطينية الكثيرة التي كانت آهلة منذ عهد سحيق؛ فهي بقيت آهلة منذ الألف الثالث قبل الميلاد حتى سنة 1948. في سنة 1899، جرت أعمال تنقيب محدودة في الموقع لحساب صندوق اكتشاف فلسطين، فاستخرجت قطع فخارية فلسطينية قديمة. ويشير هذا الدليل، فضلاً عن غيره، إلى ان تل الصافي كانت قائمة في موقع مدينة جتّ الفلسطينية القديمة؛ وهي تظهر في خريطة مادبا (من القرن السادس قبل الميلاد) تحت اسم صافيتا. وقد شُيد فيها، أيام الصليبيين، حصن دمره صلاح الدين الأيوبي لاحقاً. وكان الصليبيون يدعونها بلانش غارد (Blanch Gard) (الحراسة البيضاء) إشارة، في أغلب الظن إلى طبقة الصخر الأبيض الناتئة في الركن الشرقي من التل. وكاد ريتشارد قلب الأسد (Richard the Lion-Heart) يُؤسر في أثناء تفقده عساكره بالقرب منها”. ويضيف: “في أواخر القرن التاسع عشر كانت تل الصافي قرية مبنية بالطوب، ولها بئر في الوادي الواقع إلى الشمال منها. وكانت منازلها، المبنية بالحجارة المتماسكة بملاط من الطين، تنتشر على جوانب الطرق المتداخلة داخل القرية وخارجها، متخذة شكل نجم” (انتهى كلام الخالدي). واليوم لا تجد إذا زرت القرية سوى بعض النباتات البرية والأشواك ونباتات الصبار وبعض أشجار النخيل والزيتون، وبقايا بئر وبركة مائية متداعية وبقايا حصن صليبي، وحيطان، ومدافن، وكهوف، وحجارة منحوتة.. أما الأراضي التي تجاورها فيزرعها المستوطنون الإسرائيليون بالحمضيات والحبوب ودوّار الشمس. تدور روحك تحت ذهب الشمس وتسرّح طرفك في عجائب الزمان. تتذكر الأحبة الذين ذهبوا وربما تستعيد موالاً غابراً أو وجهاً غارباً في غروب قديم وتلفك حسرة لا يفلح في وصفها تعبير ولا تحيط بها بلاغة. يهزّ أبو داوود، أو أبو محمد، أو أبو خالد، أو أم داوود، أو أم محمد، أو أم خالد أو أي أب، أو أم، رأسه/ رأسها المسكونة بالهوى القديم ويهمهم في حزن مريع: ذهبت القرية، وذهب كل شيء. ذهبت القرية عن الجغرافيا وبقيت حاضرة في التلة والاسم شاهدة على الذين كانوا هنا وعطرت أنفاسهم جهاتها، وسمروا في لياليها حول دلال القهوة، ورددت الجبال المحيطة مع أصواتهم مواويل العتابا والميجانا التي تدور مع الشاي بالنعناع. كان سكان تل الصافي هنا... كانت لهم سوق عامرة بالعنب واللوز والتين والزيتون وكل ما تنبت الأرض من فاكهة الصيف والشتاء... وكان لهم مسجد يرفعون فيه آيات الشكر لله العلي القدير ويسألونه دوام المحبة في القلوب الصافية البسيطة التي لم تكن تطلب من الدنيا سوى الستر والعافية في الدنيا والآخرة... وكانت لهم آبار منها يرتوون ويروون أشجارهم وأنعامهم وعليها أثقالهم يحملون... وكانت لهم حياة كاملة وعرة أحياناً ومستوية أخرى كما هي أرض قريتهم... وكانوا يزرعون في أرضهم قمحاً وزيتوناً وعنباً ورماناً... وينامون على بيادر بكامل مشمشها وجنّاتها المفتوحة للضيوف وعابري السبيل... كانوا كرماء يسارعون إلى نجدة الغريب وإغاثة الملهوف قبل أن يصبحوا غرباء لا يغيثهم أحد... ولا يرد لهفتهم أحد... كانوا... وكانوا... وكانت تل الصافي قرية تعيش في صفاء وهدوء حالم كما كل قرى فلسطين، قبل أن يأتيها (الخيّرون!!!) في لواء جفعاتي الإسرائيلي بين هدنتين، ويمسحوها عن الوجود إلا قليلاً... لتتحول بين مجزرة وأختها إلى بقايا قرية... إلى موقع آثاري يفشلون حتى في قراءته. يقول الدكتور وليد الخالدي: “كانت القرية هدفاً مركزياً في عملية أن فار التي شنّت في الفترة الفاصلة بين هدنتي الحرب (8-18 تموز/ يوليو 1948) ففي 7 تموز/ يوليو 1948، أصدر قائد لواء غفعاتي، شمعون أفيدان، أوامره إلى الكتيبة الأولى بأن تستولي على منطقة تل الصافي “وتطرد اللاجئين المخيمين فيها لمنع تسلل العدو من الشرق إلى هذا الموقع المهم”. وقد تم احتلال الموقع في 9 ـ 19 يوليو. وخلص تقرير للجيش الإسرائيلي، استشهد به المؤرخ الإسرائيلي بِني موريس، إلى أن الاستيلاء على تل الصافي قضى كلياً على معنويات سكان القرى المجاورة”. من لا يعرف كيف يفكر الإسرائيليون ويخططون سوف يستغرب ويندهش من كون الحفريات التي تجري في القرية تصادف نفس الشهر الذي جرى فيه تدميرها في العام 1948، لكن من يعرف لن يستغرب التوقيت، فالذين دمروا بالأمس وطمسوا الراهن يبحثون اليوم عما يؤكد روايتهم بعد أن “نظفوا” الأرض وأخرسوا الشاهد. وَيْلي... كأن هذه القرية منذورة إلى أن تستباح باطناً وظاهراً مرتين وبين تمّوزين فيما نحن لا نفعل شيئاً سوى تصحيح التعليق الآتي مع الصور!!!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©