الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الجمال مكنون الحجر

الجمال مكنون الحجر
12 يوليو 2012
جاء ذكر الأحجار الكريمة في كل لغات الأرض، في دياناتها، آدابها، معتقداتها بلا استثناء في الديانات الأرضية “البوذية” حتى آخر الديانات السماوية “الإسلام” ذكرت الأحجار الكريمة بقداستها وشفافيتها وتكريمها.. هذه الطقوس الاحتفائية السوسيو/ ثقافية بالأحجار الكريمة، تنبع من قناعات متشابهة برمزيتها، بما تحتوي تلك الأحجار من غموض سيطر على الحكمة الملهمة التي تتمركز حول الثيوصوفية، حيث ارتبطت تلك الأحجار بالأفكار التي أفرزت مفاهيم اجتماعية عن روحية وعضوية تلك الأحجار كونها رموزاً لطاقة متمركزة فيها. تنبع تلك الطاقة من داخل الفكر لتتحول عبر المصادفة والممارسة إلى طاقة تنتقل إلى الحجر يساعدها في ذلك بريقها وكينونتها الجمالية التي هي نتاج عضوي لمخاض وولادة الطبيعة، إنها روح الطبيعة. “في الكوزمولوجيا المندائية “الصابئة” (ديانة عراقية قديمة) والتي تشير إلى الكينونة الأسمى بتكريم وتعظيم الأحجار الكريمة التي توصف بأنها غريبة، متفردة، بمعنى أنها بعيدة لا يمكن فهم كينونتها لكونها تفوق الوصف، وبسبب غموضها وتجريدها، فإن المندائيين يتكلمون عنها دوماً بصيغة الجمع الحيادي “الأحجار”، نعم هي أحجار بعيدة، طبيعية تتكون في باطن الأرض ولا دخل للإنسان في تكوينها إطلاقاً، ويقوم باستخراجها وتشذيبها ونحتها لتلائم ما يريد أن يصوغها فيه”. حجر ينطق ومن الغرابة حقا انك عندما تدخل معرضاً تشكيلياً سبق وأن مرّت عيناك على ملامح اللوحات ذاتها، تراك تتساءل: ما الجديد في هذا المعرض؟. تجد لوحات عن المدينة والعمران والصحراء ومراكب البحر، لوحات عن فن الشرق بكل خصائصه، لا بدّ أن الكثير منها قد مرّ على مشاهداتك كمتلق! ومع ذلك من هذا المألوف والمتداول تراك تندهش.. ما سر هذه الدهشة؟، ما أسبابها؟، ما الدافع الذي جعلك تتأمل بشكل دقيق في بنية اللوحة؟.. لتكتشف سر دهشتك. اعتقد أن السر غير بعيد عن أن يخفى، فهو في تلك المواد التي استخدمت في صناعة اللوحة. إنها الأحجار الكريمة. الياقوت، والزمرد والألماس، والزفير والجمشت، والزبرجد العتيق والأوبال واللؤلؤ جميعها بألوانها، بمختلف ألوانها تبرق أمام عينيك مشكلة جسد اللوحة. ذلك الجمال يخلق جمالاً، ذلك البهاء يخلق بريقاً، عندما تشاهد اللوحة في بريق أحجارها، تجد أناقة الطبيعة تتخلق ثانية عبر أناقة الأصابع، تجد كل الأحجار النادرة، وكأنها جاءت لتحتفي بموضوعة مألوفة، غير أنها بعد أن يتشكل كل شيء، يخرج من الخيال والعدم جسد نادر، وكأنه لا ينتمي إلى أصل الصورة التي استوحت منها. كل ذلك نجده في معرض “الرسم بالأحجار الكريمة” للفنانة البورمية كاتي ميات والذي ضم أكثر من خمسين عملاً تشكيلياً عرض في أبوظبي قبل أيام قليلة، وفي هذا المعرض كانت أنامل كاتي قد شكلت العوالم، ورسمت الملامح، وجعلت الوجوه تبرق، وتوحي بالإشراق. الجزئيات الصغيرة لقد استخدمت الفنانة كاتي ميات في لوحاتها التشكيلية آلاف الأحجار الكريمة المطحونة، حيث برعت في توظيف الجزئيات الصغيرة في رسم اللوحة، في استخدام فني جعل تلك الأحجار التي تم طحنها بحيث يترك ذلك المطحون مادتين وهما فتات الحجر المطحون ومسحوقه الناعم “بودرته” التي تمتاز جميعها بألوانها الأصلية دون أن يضاف له أي لون آخر. حاولت كاتي أن تستغل كل تلك الأحجار الكريمة المطحونة فلا تبقي على شيء إلا وقد دخل في جسد اللوحة، إذ جعلت المسحوق “البودرة” أرضية لذات اللوحة ولم تتركها سائبة، فضفاضة، ملونة بمادة أخرى، أما الفتات فهي مادة شكل اللوحة، جسدها. تحفظ كاتي ميات أسماء جميع الأحجار الكريمة وتستطيع أن تميز حجراً عن الآخر، وماذا استخدمت من أحجار في اللوحة الواحدة، وطبيعة تحولها وأسبابه من حجر لآخر في جزئية اللوحة التي تشتغل عليها، حيث تنوعت ألوان الأحجار بين الناصع والغامق والفاتح، وتلاقي الأبيض والأسود في أعلى درجة من البريق وتمثل منتهى اللون. بدا الأبيض ثلجياً والأسود حالكاً وكلاهما لا يغادر خصائصه حين يتلاقيان، تلك الخصائص الذاتية التي تمنحه دقته، أما الألوان الأخرى فتبدو متفاوتة ومتدرجة بين الغامض “الغامق” والفاتح “المكشوف” في أعلى وأدنى درجات اللون تمثلاً. صفات الحجر حاولت كاتي ميات أن تتجنب كل شيء، كل مادة، سوى الأحجار الكريمة أخذت من الياقوت احمراره ولمعانه وقتامته ومن الماس بريقه في اصفراره وابيضاضه ومن الزمرد اخضراره الغامق العميق والشفاف، ومن السفير “الزفير” ازرقاقه وتعدد ألوانه إلا الأحمر الذي يتنافر معه، إذ أن ازرقه هو الأشهر فيه. أخذت كاتي ميات من السفير النجمي شفافيته واسوداده الخفيف، ومن العقيق احمراره واصفراره واخضراره وازرقاقه ورمادية، ومن الجزع “العتيق اليماني” احمراره “الرماني” والبني منه المعروف بالكبدي، ومن الجمشت لونه البنفسجي أو الأرجواني الخلاب، ومن الفيروز ازرقه المخضر أو رمادية المخضر، ومن اللازورد “العوق” ازرقاقه الغامق. كان العقيق سيد تلك الأحجار “الأزرق والأخضر والأبيض والأصفر والأحمر” في أعمال كاتي ميات. لم تستخدم هذه الفنانة أية فرشاة أو أصابع، اذ كانت أناملها تلتقط الحجر الكريم وتصوغه في جسد اللوحة من خلال مادة شفافة مثبتة للحجر لا ترى مطلقاً، إذ يبقى الصفاء للحجر دون غيره”. لقد حاولت أن تتمثل البعد المادي، والزوايا وانحناءات الرسمة وصفاء الحجر الملائم للملامح لتقدم من خلال أعمالها، حيث ظلت محافظة على الأبعاد الدقيقة للرسمة واختيار لون الحجر الكريم المطابق للأشياء المتعاضدة فيها. توزعت أعمال كاتي ميات بين الطبيعة الصامتة والموروث الإماراتي، والصحراء والصقر الجالس عند وكره، وقوافل الجمال التي ترتحل جماعات في فضاء رملي، والخيول في رشاقتها وهياج الرمل تحت حوافرها، والبدو يسوقون الإبل إلى الآفاق البعيدة، والطبيعة تنزف فوقها شلالات ماء بارد منهمرة من أعلى الجبال، والشجر في غروب عالم صحراوي مترامٍ، وجلسة بدوية بين نخلتين التفت حولها الأضواء، خيمة بدو، وبسط من الصوف وخضرة بعيدة وسماء زرقاء. رصعت كاتي ميات لوحة المسجد الحرام بمآذنه الثمانية وبقبابه الثلاث الداخلية وبجسد الكعبة المربع الملفوف بكسوتها السوداء، وتراصف ملايين من البشر في أرجائها الداخلية والخارجية. التماع القباب قدمت ميات صورتين لمسجد الشيخ زايد الكبير، هما صورتان لمنظر واحد ليلاً ونهاراً، إشراقة سماء النهار والتماع القبب البيضاء والمآذن الشاهقة والاخضرار الشفيف والنخيل المتألق وتعدد القباب واصطفافها وتدرجها الآسر نهاراً، والتماع القمر في ليل أبوظبي البهي واسوداد الليل وإشراقة القباب تحت أضواء استطاعت كاتي ميات أن تضع فاصلاً بين العتمة والضوء، حيث وزعت الضوء توزيعاً بارعاً وتدرجت به من أبعد نقطة في يمين اللوحة، حيث الاسوداد الكثيف إلى أقرب نقطة من القمر عند يسار اللوحة، حيث الاسوداد الباهت بتأثير ضوء القمر. كانت كاتي ميات دقيقة في اختيار نوع الحجر، حيث تقدم الشكل من خلال تميز اللون ومطابقته له. في لوحة بلا عنوان استخدمت كاتي ميات أعلى درجات التنوع اللوني والتعامل مع دقة الأبعاد بما هو قريب منها وما بعد في عمق اللوحة، حيث حديقة من الأشجار المخضرة في عمق اللوحة من أقصى يمينها حتى يسارها لأشجار عالية وفرشة من الأزهار المتعددة الألوان، الأحمر والأزرق والأصفر والجوري وأرضية الحديقة الخضراء وبركة الماء الرقراق. هُنا تقف مندهشاً فعلاً، أي حجر هذا الذي استخدم في ازدهار هذه الألوان ورقتها وشفافيتها وهي مفروشة في أرضية الحديقة. قدمت كاتي ميات قبة الصخرة في القدس بساحتها البيضاء وباصفرارها المتألق، حتى أنها أنطقت الحجر المذهب واستخدمت ازرقاق الفيروز لتجسد من خلاله سطح القبة واحمرار العقيق لترسم به أبواب القبة، أما الأشجار البعيدة فهي موزعة بين الزمرد الغامق والشفيف. درب الغابة في لوحة الشلالات قدمت كاتي ميات انهمارات من الأحجار الكريمة البيضاء وثورة من اخضرار الطبيعة وتفتح الزهور واحتفاء النهر بما يتساقط فوقه من مسارب الشلال الأبيض، وكأن الماء يتساقط أمام أعيننا، أما السماء البعيدة في أعلى اللوحة فتشير إلى نهار يكشف كل شيء صفاؤه. تذهب ميات إلى الأصعب كما يبدو، إذ نجد في لوحة “درب الغابة المتعرج” رسمة من الحجر الكريم لدرب في الغابة ذاهب إلى البعيد الذي لا يرى وثمة أشجار وعشرات جذوع الأشجار في وقت الخريف، حيث تتساقط الأوراق عنابية ليتشكل لون الأرض منها، أما الأغصان، فلا تزال تحمل شيئاً من الأوراق، وهي متشابكة في فضاء اللوحة، وثمة بريق لسماء بيضاء خلف كل هذا العالم. ولم تبتعد كاتي ميات من أن تدخل خيالها في تشكيل هذا العالم، حيث تبدو بقايا جذوع أشجار كانت قد قطعت ليفتح هذا الطريق السري إلى عالم آخر بعيد لا يرى. لست مغالياً لو قلت إن لوحة “سلة الفواكه” قد نطقت بما تحتويها سلة بيضاء ضمت فواكه متعددة، بألوان من روح الحجر الكريم، العنب باسوداد السفير النجمي وبازرقاق العتيق والتفاح باخضرار الفيروز، والأجاص بتنوع العقيق، أما أرضية اللوحة فكأنها قد ملئت بمسحوق الياقوت الأحمر على بساط كأنه الدموي بعينه. قدمت كاتي ميات لوحات حروفية رسمت فيها آيات وأدعية “اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد”، وقد توخت فيها زخرفة تحيط بالمكتوب بشكل جمالي متخذة من الأزهار والورود جسداً لها وهي في كل ذلك تقدماً أشكالاً بيضوية ومربعة وتقابلات رباعية في لوحات معينة. جلال الخط حاولت ميات أن تذهب إلى الصعب حينما قدمت لفظ الجلالة مركزاً للوحة لها وتحيط به أسماء الله الحسنى في ترتيب تقابلي أرادت منه أن يكون شكلاً يندرج تحت مفهوم التوازي والتقابل، كما أنها في الوقت ذاته قدمت لوحة جعلت اسم الرسول الكريم “محمد” صلى الله عليه وسلم مركزاً لآيات أنزلت عليه. في مقابل ذلك برعت هذه الفنانة في تقديم الشكل الموروثي البورمي والأيقونات الزخرفية عبر اللون المتقابل والشكل المتناظر في كثير من اللوحات. في ذات الوقت اشتغلت كاتي ميات على تصوير عوالم من وحي حياتها في الإمارات وما يحيط بها من إنجازات حضارية ومن ضمنها برج العرب في دبي والكثير من المعالم الشاخصة على أرض الإمارات. يبدو هذا التجسيد الدفين في الأبعاد والزوايا وانحناءات الرسمة قد أخذ منحى آخر غير معهود في الفن التشكيلي المتداول، إذ استطاعت كاتي ميات أن تخلق لوحة من الحجر الكريم ومن استعادة تقديم الصورة المتداولة بمادة أخرى نجد من خلالها صعوبة التنفيذ أسلوباً للدهشة، وعليه يصبح الرسم بالحجر الكريم فناً جديداً على اشتغالات فننا العربي، حيث تتميز براعته في أغلبها على ما يمتلك الحجر الكريم من لغة لونية ومن ندرة جمالية لا توجد في مواد أخرى. هذا اللون المتنوع والمترامي الأبعاد هو الذي جعل كاتي ميات تتألق في تقديم مختلف العوالم حتى في الخط العربي. ومن الغرابة أن الأحجار الكريمة في هذا المعرض أزيحت من ان تكون زينة للمرأة، اذ لا نجد في المعرض صورة لامرأة زينت بالأحجار، حتى ولم تقدم ترصيعة التيجان والسيوف والخناجر، وكل ذلك اذا ما عرفنا انها تجتمع معاً في صفة الولع الرجولي بها إذ زينة المرأة أشبه بتاج الملك وبتطعيم الخنجر وغمد السيف ومقبضه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©