الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السير في الممنوع

السير في الممنوع
14 أكتوبر 2010 20:45
عاد «كامل» السائق بعد منتصف الليل وهو على غير عادته، يبدو مرتبكاً ووجهه مصفر رغم أن الإضاءة خافتة وأنفاسه متلاحقة تنم عن شيء وحدث كبير، وطرق باب مسكن صاحبة السيارة ليسلمها الإيراد كما يفعل كل يوم وخرجت المرأة العجوز التي تعامله مثل ابنها، وبمجرد أن وقع نظرها عليه لم يخف عليها التغير الواضح عليه، فتصرفاته وحركاته تؤكد أنه غير طبيعي حتى أنه ألقى إليها المبلغ من دون أن يعده أو يخبرها عما صادفه اليوم من مواقف وما أنفقه على السيارة ولم يبرر تأخره. دعته المرأة للجلوس كي يلتقط أنفاسه وليحتسي الشاي أمام البيت ويستريح من عناء عمل يوم طويل وشاق، ولم يفعل شيئاً من ذلك بل لم يرد على أي من تساؤلاتها، كأنه لا يسمعها، أما الأكثر غرابة فإنه ألقى إليها مفاتيح السيارة، معلناً أنه لن يعمل معها بعد اليوم وولى مدبراً وتركها تضرب أخماساً في أسداس، لا تدري ماذا حدث وعقدت المفاجأة لسانها ووقفت برهة تتابع خطواته السريعة ويبدو أنه يهرب من شيء ما لا تدري ما هو. جلست تراجع تعاملاتها معه وما حدث بينهما، لعلها تضع يدها على سبب واضح، فالشاب يعمل لديها سائقاً على هذه السيارة منذ ما يزيد على العامين، وهو مثال للالتزام ويأتي عند الفجر يتسلم السيارة وينطلق بها إلى العمل مصحوباً بدعواتها ثم يعود في المساء ويدس في يدها ما رزقه الله به ولا يفوتها بين الحين والآخر أن تمنحه مكافأة إجادة أو حافز جهد، ولم يكن اليوم يختلف عن البارحة في شيء ولم يحدث منه ولا منها ما يدعو للخلاف أو ما يبرر ترك العمل حتى لو كان الأمر كذلك، فعليه أن يخبرها بهدوء وتفاهم ثم يمضي إلى حال سبيله. لم تجد له عذراً ولا سبباً تقف عليه، إلا ربما أن يكون قد وجد عملاً أفضل، وحتى لو كان هذا هو السبب، فإنه لا يبرر أن يفارقها بهذه الطريقة الغامضة. أعيتها الأفكار والبحث عن الأسباب والأعذار ولم تجد لذلك لنفسها، إنه الخاسر، واتجهت نحو السيارة تطمئن عليها وتتأكد من إغلاق أبوابها ونوافذها، لكن ما وقعت عليه عيناها كان يحمل لها سبباً إلا أنه غير واضح حول ما حدث من السائق، فالدماء متناثرة على المقاعد والإطارات ومن الجانب الآخر مادة بيضاء تشبه الدقيق بعضها على الأرضية والبعض الآخر اختلط بالدماء. فزعت من المشهد ولا تدري ماذا حدث، إلا أنه من المؤكد أن السيارة تعرضت لحادث، لكن لو كان الأمر مثل الحوادث المعتادة لكانت الدماء خارج السيارة لا داخلها. الأمر حقاً جد خطير ومحير وعجيب ولا يمكن السكوت عليه ولا تحمل تبعاته، فأسرعت بالتقاط الهاتف وأبلغت الشرطة كي تخلي مسؤوليتها وتبرئ ساحتها. لحظات والتف رجال الشرطة حول السيارة والمرأة تراقب عيونهم وحديثهم لتتوقع أن الأمر أخطر بكثير مما دار في بالها، إذ لم تمض دقائق أخرى، حتى حضر العديد من قيادات الشرطة ثم فرق فحص وكلاب بوليسية وخبراء بصمات وطب شرعي وآخرون لا تعرف على وجه اليقين ما هي اختصاصاتهم، وفي النهاية طلبوا منها أن تخبرهم بأدق التفاصيل وتركوها ليلقوا القبض على السائق «كامل» حيث هو الذي عنده مفتاح اللغز. كانت فرائصه ترتعد وغير قادر على التحكم في أعصابه رغم مرور بضع ساعات على ما حدث ولا يمكنه أن يناور أو يراوغ فالأمر واضح. وطلب رشفة ماء عساها أن تعيد إليه ريقه الذي جف بالفعل وهذه هي المرة الأولى في حياته التي عرف فيها غصة الحلق واستجمع بعض قواه الخائرة وقال: منذ شهرين التقيت به بالصدفة أثناء عملي على السيارة وطلب مني توصيله إلى منطقة جبلية نائية مقابل مبلغ كبير، ووافقت لأنه أغراني ووفى بوعده، وهناك التقى مع بعض الأشخاص لا أعرف ماذا فعلوا ولا العلاقة التي بينهم، فذلك لا يعنيني وحصل منهم على أكياس لا أعرف ما بداخلها وأيضاً لم أسأله عنها، لأنني التزم بمقولة من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه، وفي نهاية اليوم اقتطعت المبلغ المعتاد الذي أعطيه لصاحبة السيارة واستأثرت بالباقي لنفسي وقد كان كبيراً، حتى أنني سعدت عندما طلب مني رقم هاتفي المحمول للاتفاق على اللقاءات القادمة والمهام في المستقبل. وتعددت اللقاءات وتزايدت ربما مرة أو مرتين في الأسبوع ومع المبالغ التي كان يغدق بها عليَّ ثار فضولي لمعرفة حقيقة هذه المهام وبلا لف أو دوران أخبرني بأنها مخدرات وانزعجت وظهرت مخاوفي وقررت التوقف وعدم الاستمرار في الطريق الذي ينتهي عند حبل المشنقة فضحك بطريقة الواثق من نفسه، وأكد أنه لا تقترب منه الشكوك لأنه رجل ذو حيثية، ثم فهمت فيما بعد من خلال تعاملي معه أنه تم فصله من عمله واستنتجت أن ذلك بسبب سوء سلوكه وصدقت توقعاتي ولأنني اعتدت المبالغ الكبيرة التي أحصل عليها منه ترددت كثيراً في ترك العمل معه وسوفت في اتخاذ هذا القرار الصعب وكل مرة أقول لنفسي لعل المرة القادمة تكون آخر عملية. الليلة الماضية تلقيت منه اتصالاً بمهمة جديدة وتواعدنا أن نلتقي فجراً واليوم توجهت إلى منزله واصطحبته حيث منطقة جبلية بعيدة، وسرنا في طرق وعرة ودروب، وهناك التقى بأشخاص لا أعرفهم، وحصل منهم على حقيبة كانت مغلقة أتوقع أن فيها مخدرات لكن لا أدر نوعها وقيمتها، وهمس لي بأن أدير محرك السيارة وأن استعد للهرب فور صعوده وأخبرني بأننا مهددان بالقتل إن لم استخدم كل مهاراتي في القيادة، وشعرت بأن الموت فوق رأسي وانطلقت مسرعاً مثل ما يحدث في أفلام العصابات غير مهتم بالصخور والرمال وقلبي يهتز ودقاته تتسارع وأنا أخشى أن تنقلب السيارة أو تصطدم بجانب الجبل، أما عن وابل الرصاص الذي انطلق خلفنا فحدث ولا حرج كانت الطلقات مثل قطرات المطر الغزير في كل ثانية أتوقع أن يصيبني بعضها وتنتهي حياتي وما كنت أسرع إلا أملاً في النجاة وحباً في الحياة. عشرون كيلو متراً في طريق كهذا قطعتها في بضع دقائق، مع هذا الرعب والخطر المحدق تلفني رائحة الموت وتأتيني من كل جانب، وأدركنا المطاردون، لم يكونوا صيداً سهلاً، بل هم أكثر دراية بهذه الطرق وأكثر مهارة في السير عليها بسياراتهم التي تبدو قديمة وبلا لوحات معدنية، استوقفوني ورصاصهم لم يتوقف رفعت يدي مستسلماً لكن صاحبي اختبأ تحت المقعد في محاولة بائسة فاشلة للنجاة ومن خلال الكلمات التي رددوها في حديثهم إليه والشتائم التي وجهوها له وهم يجرونه إلى خارج السيارة، فهمت أنه أراد أن يخدعهم ويستولي على المخدرات التي يقدر ثمنها بأكثر من مليون دولار وصوبوا أسلحتهم إليه وأمطروه بالرصاص، ولم أر مثل هذا المشهد حتى في الأفلام ولا أستطيع أن أصفه، لأنني كنت أنتظر دوري في الموت، لقد تبولت على نفسي من هول ما أرى ثم أخذوا الصفقة والمال وأمرني أحدهم بغلظة بأن أترك المكان وأغرب عن عيونهم وإلا فسيكون مصيري مثله ولم يتوقفوا عن طعن جسده رغم أنه فارق الحياة وقال له أحدهم: هذه هي نهاية من يلعب اللعبة الخطرة!! انطلقت بالسيارة إلى صاحبتها لا أدري كيف وصلت سالماً ولا أصدق أنني ما زلت على قيد الحياة.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©