الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المتمرّدون.. كما يراهم تودوروف

المتمرّدون.. كما يراهم تودوروف
17 فبراير 2016 20:35
حوار - سونيا فور - كاترين كالفييه ترجمة - أحمد عثمان في كتابه الجديد «متمردون»، يعرض الناقد وعالم اللسانيات البلغاري تزفيتان تودوروف بورتريهات لعدد من المقاومين من بينهم: جيرمان تيون، مالكوم إكس، نيلسون مانديلا أو إدوارد سنودن. كان تزفيتان تودورف ذا قامة طويلة، ونظرة مرحة، منتبهاً، ودوداً، أمضى حياته في شقته (الباريسية) ذات الأسقف المقوسة. فيما عاش طفولته في بلغاريا أيام الدكتاتورية الشيوعية. وفي فرنسا، كتب الأعمال الأولى حول الأشكال السردية في الأدب، إلى جانب رولان بارت. في ذاك العصر، لم يكن يريد سوى بناء نظرية علمية عن الأدب، مقتفياً الأثر المزدوج للشكلانيين الروس وعلم اللغة البنيوي، حسب ما يقول ميخائيل باختين ورومان جاكوبسون. ومنذ صدورها أصبحت كتب تودروف: «مدخل الى الأدب الفنتازي» (1970)، «شعرية النثر» (1971)، «نظريات الرمز» (1977) من كلاسيكيات الدراسات الأدبية، لكن الحال تغير، بعد أن أمضى عشرين عاماً يدرس بدقة متناهية الأشكال الدلالية، التي كان متحمساً لها للغاية، وتدريجياً، أصبح مؤرخ الغزو الإسباني وشارح مونتاني ومفسر الرسامين الفلامنكيين أخلاقياً، مفكراً في مجال التعددية الثقافية، وهكذا هجر النظرية البنيوية لكي ينزلق نحو الموضوعات السياسية والأخلاقية. و«مثل سيميولوجي حقيقي، وليس فيلسوفاً»، يميز تودوروف دوماً بين مواهبه التأويلية؛ يضع كل ذكائه في خدمة نتاجات الآخرين. فكره ثائر لأنه يعمل بالشكوكية. تغييراته النظرية، من الناحيتين السيميولوجية والإنسانية، استطراداته عن الشر، ارتجالاته عن الفن وعن الحب، حماسته ومعاركه: كل هذا منحه صوتاً متفرداً في المشهد الثقافي الأوروبي. بالنسبة له، يترافق الخضوع الحقيقي مع الطموح المتجاوز للحد، فهو «يريد أن يقبض على جوهر الإنسانية، لأنه مقتنع بأن الحكمة الإنسانية تتعلق بهذه المعرفة». في عمره الحالي، وقد تجاوز السبعين عاماً، يستطيع أن يتوقف ويفلح حديقته. ولكنه لم يفعل، بل أخذ يفكر في كل لحظة في مشاريع جديدة، ندوات، أبحاث، كتب: «يتبدى لي أننا من الممكن أن نذهب بعيداً في فهم الذوات الإنسانية. وهذا ما يزال غير واضح كلياً». هكذا، يتقصى تودوروف، حتى النهاية، المواقف والنقائص ووضوح الإنسان الذي هو نحن. لقد كرس تزفيتان تودوروف كتابه الأخير «متمردون» الصادر في الخريف الماضي للتمرد. وبعيداً عن الأيديولوجيا الشيوعية لبلده الأم بلغاريا، يبين المؤرخ المعارك الفردية، بوصفها أشكالاً أخلاقية ملتزمة تنتهي بالقيام بدور سياسي في الفضاء العام. من بوريس باسترناك الى آلكسندر سولجنستين يمكن القول إن متمردو تودوروف «ليسوا غزاة»، ولا يبحثون عن إنشاء مجتمع مثالي، وإنما يرفضون «القوى التي تريد إخضاعهم». «هؤلاء المناضلون لا يحاربون في ساحة المعركة، حيث تتم هزيمتهم سريعاً»، هكذا كتب تودوروف... هنا نص الحوار. لا.. بداية التمرد * ما هو تعريفك للتمرد؟ ** لكي أبين وجهة نظري اخترت جملة جيرمان تيون: «بالنسبة لي، المقاومة تتأسس على قول لا، ولكن قول لا، يعتبر إثباتاً...». هذه المقدرة على قول «لا» حينما يقول الجميع «نعم»، تتبدى لي بداية التمرد. حينما أقول الجميع، يتعلق الأمر بالغالبية، والتي تضم من يحادثك ويتمنى قول «لا» دوما. غير أننا امتثاليون نوعاً ما، ومستسلمون في غالب الأحيان. * بدأت كتابك ببورتريه لايتي هيلزوم، المولودة لعائلة يهودية من أمستردام. نضالها، شبه الأسطوري، يتأسس قبل أي شيء على رفض كراهية النازيين والإيمان بجمال الحياة، حتى في معتقل فيستربورك، حيث يمر المرسلون إلى (معتقل) آوشفيتز... ** ايتي هيلزوم شخصية من نسيج خاص. لا تنشغل بأي بعد سياسي، تريد فقط متابعة سعيها الروحي. ومع ذلك، تمردها الشخصي المدهش ضد العنف واللامبالاة انتهى إلى «لمس» العالم الخارجي. لقد شغلت أحد بورتريهاتي، فنضالها أساساً كان أخلاقيا، ولم تقبل إلا في اللحظة الأخيرة بشرعية المقاومة السياسية والنضالية. المتمردون الآخرون موجودون على أرضية أخلاقية وسياسية في آن معاً، وهذا ما يثير اهتمامي على وجه الخصوص. نيلسون مانديلا رمز هذين المجالين، وهو رمز يبين كيف من الممكن أن تصبح معركة أخلاقية قوة عسكرية سياسية. في الواقع، هو تخلى عن المعرفة الأولية السياسية، وعمل على تحطيم غريمه وقتما انتصر عليه. وميض الإنسانية * بالنسبة لك، التمرد رفض المانوية... ** بدون شك، إنها تربيتي، أو بالأحرى تربيتي المضادة في بلغاريا. في هذا المجتمع التوتاليتاري، المانوية مبدأ أصيل، حيث يجري تصوير الأمر على هذا النحو: هناك «الأشرار»، الآخرون، من يريدون بنا الشر سواء من بعيد (الإمبرياليون) أو عن قرب (المخربون، البورجوازيون)، ونحن «الأخيار». ورثت شيئاً من الحذر إزاء كل صور المانوية، ومن ضمنها تلك الممارسة في الديمقراطية. الشخصيات التي أعرضها في كتابي ترفض الاستسلام للغريم، وأيضاً لشياطينها؛ فجيرمان تيون - مثلاً - تستبعد كراهية الألمان جميعهم. وقد شعرت بالراحة، في المعتقل، حين اكتشفت أن بعض الحراس ليسوا على شاكلة الآخرين. مانديلا، أيضاً، عرف التحول ذاته في المعتقل، فبدلاً من أن يصبح شي جيفارا جديداً، كما تمنى قبل اعتقاله، اكتشف أن لدى حراسه ما أسماه «وميض الإنسانية»، مما مكّنه من إقناع القادة الجنوب أفريقيين بتسليم السلطة له! * لماذا لم تكرس فصلاً عن غاندي ؟ ** تبدى لي أنه أمر بديهي، كما جرى مع مارتن لوثر كينج، الذي لم أكتب عنه. لمالكوم اكس مسيرة فريدة، فقد غير التزامه سبع مرات بالرغم من حياته القصيرة، ودوماً مع إنكار كلي للذات. وفي آخر الأمر، هجر الموقف العرقي، واقترب من مواقف كينج – تحت تأثره بالإسلام، المتهم اليوم بكل الشرور! أعترف أيضاً أنني لا أتعاطف مع غاندي مثلما أتعاطف مع مانديلا أو الشخصيات الأخرى الواردة في كتابي. يتبدى لي أن غاندي لاإنساني نوعاً ما، متعصب لـ اللاعنف. دوماً أجد صلات تربطني بالشخصيات الجروحية، الهشة للغاية. وكان غاندي، أيضاً، مناهضاً متطرفاً للحديث. كان معارضاً للقطار! شولمان.. المجهول! * بين نيلسون مانديلا ومالكوم اكس، كرست فصلاً عن الإسرائيلي شبه المجهول، ديفيد شولمان، لماذا؟ ** سعيت للكلام عن شخص عادي. شولمان أحد أكبر المتخصصين في الأدب السنسكريتي. وقد أمضى شطراً كبيراً من حياته في المعابد الهندية. إلا أنه خصص جزءاً من وقت فراغه مع غيره من المتطوعين، لمتابعة طرد الفلسطينيين من أراضيهم أو منازلهم، داخل الأراضي المحتلة، لكي يكون شاهداً على معاناتهم، بدون أي عنف وبطريقة إيثارية.. تلك طريقته في التدخل. الوجود البسيط لهؤلاء المعارضين يسمح أحياناً في تأخير الطرد، أو تعليقه على الأقل. * هل من الممكن أن نكون متمردين على الحروب أو الطغاة؟ ** الخوف الكبير يمنح الشجاعة الكبيرة، بيد أنه من اللازم قبل أي شيء أن يكون المرء متمرداً في إطار الديمقراطية الليبرالية، مثل فرنسا، التي تعتبر نموذجاً مختلفاً للغاية عن التمرد في الأراضي المحتلة، أو في الأنظمة الديكتاتورية. الحريات الفردية هناك رحبة، والتمرد لا يتضمن نفس المخاطر. أيضاً، هناك إمكانية لرفض الظلم بالارتكان على القانون عند ممارسة التمرد، مع أنه أقل «مشهدية». يتبقى أن هناك أشخاصاً مثل إدوارد سنودن يتحدثون عن عالمنا اليومي ويختبرون إمكانية أن نكون متمردين من خلال الديمقراطية، والتمرد ضد بعض مظاهر محيطنا التافه. بالضبط، في فرنسا، نستطيع عدم الخضوع للقيود التي تحيط بنا. هناك أشكال جديدة من عدم التمرد يتم ابتكارها في أوروبا، على سبيل المثال بوديموس (1). * هجرة المرء من بلاده تحمل في بعض الأحيان احتمال المخاطرة بحياته، أهي شيء من التمرد؟ ** إنها تمرد على المصير، على الوضع القائم. المهاجرون ليسوا مناضلين تخلوا عن النضال، وإنما ممثلون للمواطنين المدنيين الذين لا يستطيعون تحمل العنف من كلا الناحيتين. الرحيل بحثاً عن عالم أفضل يتطلب شيئاً من القوة التي لا يحوزها الكثيرون. حصان طروادة * تبني كتابك حول المساعي الفردية، وتنتقد الالتزام الإنساني الخاص المتعلق بكون كثير من الأشخاص وجدوا على علاقة مع عالم القنن بعد نهاية الحرب الباردة... ** لا أنتقد الإنسانوي، وإنما إحدى الوظائف التي حققها؛ فقد أصبح الإنسانوي حصان طروادة في جميع الصراعات التي جرت ما بعد سقوط برلين، ولكن هذه المرة باسم الاعتبارات الإنسانية التي التزمت الدول الغربية باتباعها، وبقدر ما أختبر الطريقة الأخلاقية التي طبقها مانديلا في السياسة، بقدر ما أفكر في ما تفضي إليه الحروب بالنسبة لأهدافها الأخلاقية أو الايديولوجية، أي الحروب الصليبية الجديدة. هناك خلط بين الأخلاق والسياسة أكثر من كونها وسيلة أخلاقية للدخول في عالم السياسة. كل سياسة يجب أن تكون واقعية، مع وعيها بالطريق المسدود لممارساتها. السياسي الفاشل هو من ينتهج – باسم النوايا الطيبة – أفعالاً تفضي إلى نتائح كارثية، مثل التدخل في العراق عام 2003. السياسة، على العكس من الأخلاق، لا يتم الحكم عليها بناء على نوايا فاعليها، وإنما بناء على النتائج. كل شخصية من شخصياتي غير كاملة. كان مانديلا أول من طلب عدم النظر إليه كقديس أو بطل. المنشقون دوماً غير مقبولين. كلهم مترددون، متشككون، ومع ذلك لم ينغلقوا. لقد وجدوا الطرق الملتوية للهرب من مصيرهم الذي تبدى لهم حتمياً. * كيف يكون المرء متمرداً في فرنسا الموسومة بالاعتداءات، وإعلان حالة الطوارئ والتصويت الكبير للجبهة الوطنية؟ ** صباح الاعتداء، شعرت بعجزي عن الكلام للجمهور، كان التعاطف مع هؤلاء الموتى قوياً. لكنني اليوم أقول مع شيء من التراجع، إن التمرد الأول يتمثل في عدم قبول رؤية العالم التي أراد مرتكبو العنف ترويجها، تلك الرؤية المتمثلة في الحرب عديمة الشفقة بين الإسلام والمسيحية، أو الإسلام والكفر، التي تؤطر آليا الخوف والكراهية. «لن تحصلوا على كراهيتي»، هكذا قال زوج امرأة ذهبت ضحية الاعتداء. في رأيي هو ذا نموذج للتمرد. ولكن هذا من الممكن أن يتبدى في رفض تبني التأويلات التي ذكرها ممثلو الحكومة أو الوسائط الإعلامية الكبرى. لقد أرادوا تفسير الاعتداءات كهجمة على «بلد حقوق الإنسان أو ضد نمط الحياة الحر والسعيد الذي يمثله الشباب الباريسي، متجاهلين أن فرنسا، ومنذ أشهر، تضرب مواقع الدولة الإسلامية في سوريا، وأن الرد وُجِّه لثلاثة من أعدائها: روسيا (تفجير الطائرة في شرم الشيخ»)، حزب الله (اعتداء بيروت) وباريس. ولذلك رأوا أن أفضل رد على الاعتداء يكون بتكثيف الضربات في سوريا، في حين أن اعتداءات باريس لم ترتكب بواسطة سوريين، وإنما من قبل شباب ولد ونشأ في فرنسا وبلجيكا، وهؤلاء لم تدركهم الضربات. علينا أيضاً أن نبقى يقظين أمام النتائج التي تفرزها حالة فرض الطوارئ (أي وضع الشرعية) بين قوسين. وبالنسبة لمناخ الانتخابات البلدية، تأسس التمرد على رفض تقسيم الشعب بين «وطنيين» و«كوزموبوليتانيين»، بين منطق كبش المحرقة ورفض أن يكون الخوف والرعب هما المصدران الوحيدان لإلهام أفعالنا. .............................................. (*)Sonya Faure, Catherine Calvet, Entretien avec Tzvetan Todorov, Libération, 1 janvier 2016. (1) بوديموس، وتعني بالعربية قادرون. تنسيقية تعمل ببرنامج اليسار الاجتماعي ضد الفساد السياسي والاقتصادي في إسبانيا. أصبحت حزباً سياسياً في يناير سنة 2014. يعتبر بوديموس حزباً إصلاحياً وليس يسارياً راديكالياً بالمعنى المألوف، على الرغم من أن قياداته السياسية غالبها من اليسار المناهض للرأسمالية بشكل عام، غير أنه لا يتبنى الأيديولوجيا الاشتراكية كمنهج. (المترجم) شيء عن تودوروف * فيلسوف فرنسي - بلغاري وُلِد في 1 مارس 1939 في صوفيا البلغارية. يعيش في فرنسا منذ 1963، ويكتب عن النظرية الأدبية، تاريخ الفكر، ونظرية الثقافة.. * نشر تودوروف 21 كتابا، بما في ذلك «شاعرية النثر (1971)»، «مقدمة الشاعرية (1981)»، و«فتح أميركا (1982)»، ميخائيل باختين: مبدأ الحوارية (1984)،«مواجهة المتطرف»،«الحياة الأخلاقية في معسكرات الاعتقال (1991)»، «حول التنوع الإنسان (1993)»، «الأمل والذاكرة (2000)»، «والحديقة المنقوصة: تركة الإنسانية (2002)». * ارتكز مشروعه في مرحلة الدراسات الثقافية على تفكيك المتخيل الغربي خصوصاً في كتبه الهامة «نحن والآخرون»، «غزو أميركا» (1982)، «مواجهة المتطرف: الحياة الأخلاقية في معسكرات الاعتقال» (1991)، «حول التنوع الإنساني» (1993)، «الحديقة المنقوصة: تركة الإنسانية» (2002)، «الأدب في خطر»، «الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات»، «أعداء الديمقراطية الحميمون». * نال تزفيتان تودوروف جوائز دولية لإسهاماته الفكرية الخلاقة والمستنيرة مثل: جائزة أمير أستورياس للعلوم الاجتماعية، الميدالية البرونزية لويزار، وجائزة موراليس أكاديمية العلوم. * يعيش تودوروف في رفقة زوجته الكاتبة والروائية نانسي هيوستن وطفليهما في باريس مواصلاً كفاحه الإنساني من أجل السلام العالمي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©