الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكاتب خارجاً من مَحْبَسه

الكاتب خارجاً من مَحْبَسه
4 يناير 2017 19:18
لطيفة لبصير حين يتحدث الكاتب/‏ المبدع عن عدد ما من شخصياته، يبدو الكثير من ملامحها وكأنها مستقاة من الحياة، ذلك لأن الطبيعي هو أن الحياة تلهم الإبداع. لكن حين يحدث العكس! أي حين تحاكي الحياة الإبداع، فإن ذلك يطرح سؤالا آخر على الأدب، إذ الإبداع يمسي مستبقاً لواقعه، تماماً كما حدث للعديد من الكتاب حين رأوا شخصياتهم المتخيلة تمشي على الأرض، وبكل التفاصيل: الملامح ذاتها والأحلام نفسها... حدث هذا للكثير من الأدباء العالميين مثل «أوسكار وايلد»، الذي أبدع في عمله الشهير «صورة دوريان غراي»، وقد جاءت تجليات هذا العمل بعدياً، حين أثارت القبلات الحمراء على قبره العديد من الفضوليين لمحاولة اكتشاف اللغز وراء كل ذلك. وقد طرح «بيير بايار» في كتابه الشهير «الغد مكتوب»، هذه الفكرة الأبدية التي تراهن على أن العديد من الأعمال كتبت سابقا، في زمكان ما، قبل أن يتم اللقاء فعلاً بشخوصها، فكأنها كانت تنسج الآتي الموعود دون أن تدري، وهذا ما تدلل عليه الكثير من الأعمال الشهيرة التي تنبأت بقدر بعض شخوصها، وهي تنسج عوالمهم المكتوبة سلفا! فكأنما كانت تكتب المستقبل، فلا عجب إن وجدنا «جان جاك روسو» يعترف بأن بطلته (Julie) رآها مجسدة، فيما بعد الإصدار في امرأة أخرى حية تمشي في الأسواق. وهذا إشكال يظل مطروحاً بحدة في الأدب، بل ويثير بعداً آخر من الجمالية التي تمنح الإبداع ذلك الوجه الآخر الذي ليس بالضرورة «محاكاة كل ما يحدث في الواقع». ومن الغريب أيضاً ما حدث لبعض المبدعين، فالكاتب «بورخيس» كان أعمى، ومع ذلك كان ينتظر كما يحكي عنه «ألبرتو مانغويل»: «عكازات بورخيس تنتظر بصبر مثله كي تحمل إلى الخارج في جولة»، وكأنه يرى العالم الخارجي وينقله إلى عالم الكتابة، في حين أحجم العديد من المبدعين عن الذهاب إلى الأمكنة لرؤيتها وكأن رؤيتها ستحد من إمكانات بنائها بالشكل الذي يريدونه، وهذا ما يطرح، أيضاً، سؤالاً حول العديد من اعترافات الكتاب الذين كتبوا سيرهم الذاتية بكثير من الدقة في التفاصيل، في حين لم يكن حدث شيء مما نسجوه! فقط، هم أبدعوا في صنعه للقراء الذين يتلهفون للاستمتاع بالواقع الذي يظل الإشكال الكبير للكتابة. وقد تحدث كثير من علماء النفس مثل «فرويد» وآخرين حول علاقة الإنسان بالمكان أو لنقل الفضاء، خاصة السفر الذي يقوم به الكتاب من أجل الاكتشاف، فالعديد منهم عانى ارتباكا نفسيا وهو ينتقل إلى الأمكنة التي يرغب في الكتابة عنها، فكأن الذهاب إليها قد منعه من حقه في التخييل وفي عيش متعة الخلق؛ ولا عجب إذا اكتشفنا أن العديد من الفلاسفة أيضاً، كما الكتاب، قد وصفوا كثيراً من الأماكن التي لم يروها البتة، بل فعلوا انطلاقاً من محكيات السفر التي اطلعوا عليها ثم راكموها في غرفة خاصة، وجاء وصفهم لها أدق من حكي الناس الذين قاموا بزيارتها حقيقة، وهو حدث غريب فعلاً!! فالفيلسوف «كانط» لم يغير مكان إقامته، ولكنه استطاع أن يتحدث عن العديد من الأمكنة دون أن يبرح مكانه؛ لأنه، ببساطة، لم يكن لديه الوقت للسفر. ويتحدث «بيير بايار» عن هذه الإشكالية في كتابه «كيف نتحدث عن أمكنة لم نزرها؟»، بشكل جميل ورائق وغريب يستدعي التأمل فعلاً، وكأن أحسن طريقة للحديث عن المكان هي أن نظل، حيث نحن إذ لا داعي للذهاب إلى هناك لنبدع! ومع أن هذا المسافر «البيتوتي» يمنح للحلم أجنحة أخرى من الخيال، مثنى وثلاث، فإن السؤال الذي يظل مطروحا هو أن العديد من الاكتشافات العلمية والجغرافية قد تمت لأن الكثير من المغامرين والمكتشفين قد ذهبوا فعلاً إلى الأمكنة لكي يكتبوا عنها وعن عاداتها وتقاليدها المتوارثة، ومزاياها وسلبياتها، في حين أن العديد من المبدعين كانوا ينحتون شخوصهم من ذواكرهم الثقافية، ومن قدراتهم التخييلية وكأن العالم الخارجي يشوش على تحديدهم لتلك الملامح التي هاموا في إبداعها وفي رسمها كما أرادوا. يطرح هذا الإشكال على الرغم من غرابته سؤالا جاداً حول إمكانية الأدب في أن يتنبأ بالآتي! فالذي يحدث فعلاً هو أن الأحداث تستبق الواقع وكأنها هي التي أملت عليه ما سوف يحدث في الحياة من بعد. و يظل السؤال يكبر فعلاً، فالغريب أن عشق الكاتبة «فيرجينيا وولف» للماء وكتابتها عنه في العديد من أعمالها، كما في روايتها الشهيرة «الأمواج»، أو انتحار ذلك الجندي الذي كان يعاني من ارتباك نفسي جراء معاناته في الحرب، في روايتها «السيدة دالوي»، الذي سقط من علٍ جعلها تصفه وكأن جسده لم يرتطم بالأرض، ولكنه هبط في الماء! ذلك لأن «فرجينيا وولف» كانت تتخيل دوماً السقوط في الماء مثل موت رحيم، وهو الموت الذي اختارته لنفسها حين أثقلت جيوبها بالحجارة وقد صممت على الموت غرقاً. الحياة تحاكي الإبداع؛ لأن الإبداع هو نفسه قادم من الحياة، ومن عوالمها الملتبسة، التي لا يدرك مصادرها اللاواعية المختزنة أحد! ولذا نجد في كثير من الأحيان بعض الشخصيات «الكونية» تتشابه في مسارها رغم أنها لا تنتمي لمكان واحد، ولا لسياقات اقتصادية - اجتماعية أو سياسية واحدة، وإنما تنتمي لعالم آخر هو عالم «الإنسانية»، وعليه، يمكن للأدب أن يستبق الواقع؛ الأدب يحلم والواقع يؤكد هذا الحلم بعد ذلك؛ لأن العديد من الشخصيات الواقعية هي قبل كل شيء كائنات يتخيلها المبدع وينحتها. ورغم ما قيل عن السفر، وعن قصيدة بودلير الشهيرة «السفر» التي تثبت مرارة السفر، وبأن المعرفة التي نستخلصها من السفر هي مرة جدا، فمن الأفضل، أحياناً، أن لا نغادر أماكننا؛ لأن السفر في الخيال حياة، والسفر إلى المكان حياة أخرى! وكل يطرح التباسه على الدوام، وأسئلته الأخرى الغريبة! لماذا نختار المغامرة والخوف والارتباك ونحن نغادر أماكننا الاعتيادية مما قد يؤدي بالكثير منا إلى مساوئ نفسية وفيزيائية لا تنتهي؟ وإلى متى سنتحمل المحبس الذي قد لا يكون ملهما البتة؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©