السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

طه حسين.. الشك الذي يلد الحقيقة

طه حسين.. الشك الذي يلد الحقيقة
4 أكتوبر 2018 01:13

محمود قرني

تلك المحنة التي صنعها تحالف تاريخي بين الكهنوت والسياسة ودفع ثمنها ملايين البشر عبر التاريخ لم تكن هي الوحيدة التي أصابت مفهوم الحرية الذي ظل عارياً أمام تهجمات السلطة في كل عصر. ولم يكن العقل العربي فريداً في دعم تلك الأبنية البطريركية، لكنه ربما العقل الوحيد الذي ظل يأبى أن يغادر موقعه في تلك التراتبية.
ولاشك أن العربي كغيره من البشر سعى لفهم «جبرية الظواهر»، كما ظل راغباً في التحرر من أسر الضرورة، لكن الحقيقة تقتضي الاعتراف بأن الأبنية السياسية والمجتمعية أرادت احتكار تعريف الحقيقة حتى تظل مستأثرة بتحديد ما يسميه الفقه بـ «شرعية التكليف»، ومن ثم احتكار فكرة الثواب والعقاب، لكن ذلك عادة لم يكن احتكاراً نزيهاً بل ظل خاضعاً لمفهوم المصلحة، وهو أمر لم تمارسه السلطة وحدها بل مارسه رجالها في كل عصر.
ويروي الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه «نقد الخطاب الديني» واحدة من الوقائع الطريفة والدالة التي كان شاهداً على وقائعها في ندوة من ندوات الجمعية الفلسفية حيث قدم المفكر «حسن حنفي» ورقة بحثية يقول فيها بأولوية الواقع على الوحي.
ورغم أن الورقة اعتمدت على ما قال به «النيسابوري» في كتابه «أسباب النزول» فإن معظم ردود الفعل التي تلقاها «حنفي» اتسمت بالعنف الفكري بحيث بدا النقاش لائقاً بمجمع كهنوتي، بتعبير أبي زيد، لا بجمعية فلسفية، إذ كانت مجمل التعليقات تنتهي إلى أن كلام الله قديم وأزلي وسابق على خلق البشر وما دام علم الله شاملاً للحاضر والماضي والمستقبل ومحيطاً بالجزئيات إحاطته بالكليات، فلا معنى للنقاش في الأمر كله!.

حرية البحث
حاول طه حسين في كتابه «في الأدب الجاهلي» الجمع بين مذهبي القراءة عبر نظرية اللغة التي كان يمثلها وقتها أستاذه الشيخ «سيد المرصفي»، والمذهب التاريخي الذي كان يمثله البروفيسور «نيلنو» أستاذه في جامعة القاهرة وكان هذا التصور «الطهسيني»، «اختصار صكه جورج طرابيشي»، نابع من تأثره بمذاهب مؤرخي الأدب الفرنسي، وعلى رأسهم «سانت بيف» الذي كان يريد أن يجعل تاريخ الأدب علما كغيره من العلوم الطبيعية، وكان يريد استنباط قوانين هذا العلم من العكوف على درس شخصيات الكتاب والشعراء درساً نفسياً وعضوياً على النحو الذي فعلته العلوم التجريبية. لذلك كانت دعوة طه حسين للمزيد من حرية البحث العلمي التي يمكنها أن تضع أدب المتقدمين موضع مساءلة فنقول أخطأ الأصمعي هنا وأصاب هناك أو أصاب الكسائي هنا وضل هناك، دون أن يكون ثمة جريرة على الباحث في ممارسته أقصى حدود حريته العلمية. ولم يكن كتاب «في الأدب الجاهلي» سوى واحد من أعلى تعبيرات حرية البحث العلمي بعيداً عن فكرتي الخطأ والصواب، لأنه في النهاية لم يكن أكثر من اجتهاد ينتهي إلى أن الكثرة المطلقة من الشعر الجاهلي ليست من الجاهلية في شيء وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، وعلة طه حسين في ذلك أن هذه الأشعار تمثل حياة المسلمين وبيئاتهم بأكثر ما تمثل حياة الجاهليين وهنا يقول: «لا أكاد أشك في أن ما بقي من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جداً لا يمثل شيئاً ولا يدل على شيء».

ثقافة الحذف
رغم أن كثرة من الباحثين انتهوا إلى أن طه حسين بالغ بشدة في موقفه من الشعر الجاهلي لأنه لم يُجب على شيء من الأسئلة التي طرحها في مستهل بحثه، غير أنهم تجاهلوا أنه لفت إلى مشكلة جوهرية، وهي أن الشعر الجاهلي جاء خالياً من التعبير عن وثنية الحياة الجاهلية ومن ثم فإن المرجح أنه تعرض لتنقيح وحذف كبيرين حتى يبدو على صورته الراهنة، وهو ما قال به أدونيس بعد ذلك في كتابه «الثابت والمتحول»، إذ أكد أن المحذوف من ثقافتنا العربية أكبر بكثير مما هو متداول بين أيدينا، لذا فإن ثقافتنا تستحق أن نسميها وبامتياز ثقافة الحذف. من هنا كان طه حسين محقاً عندما قال إنه لا يمكن من الوجهة النظرية أن نقرأ في شعراء الجاهلية تعبيراً حقيقياً عن بيئاتهم الجاهلية، ومن ثم لا ينبغي أن نستشهد بهذا الشعر في تفسير القرآن وتأويل الحديث، وإنما الأدق أن نستشهد بالقرآن والحديث في تأويل الشعر الجاهلي. لكن نتاج هذا الاجتهاد كان مؤسفاً، إذ تم سحب الكتاب من الأسواق، وأصدر رئيس الوزراء آنذاك إسماعيل صدقي قراراً بفصل طه حسين من عمادة كلية الآداب، هذا فضلا عن الاتهامات التي تلقاها من المحيط الاجتماعي والعلمي لدرجة أن شيخ الأزهر وقتذاك محمد الخضر حسين أصدر كتاباً تحت عنوان «نقض كتاب في الأدب الجاهلي»، كال فيه أبشع الاتهامات لطه حسين، وتلاه بعد ذلك مصطفى صادق الرافعي، ومحمد فريد وجدي وأحمد كمال زكي، وغيرهم حتى أنْ وصفه الدكتور علي الجندي بأنه رأس حربة لحملة من الغزو الثقافي التغريبي احتضنته المعاهد الغربية والمحافل اليهودية! هذا فضلاً عن اتهامه بسرقة فكرة كتابه من المستشرق الإنجليزي «مرجليوث» رغم أن طه حسين لم يكن يجيد الإنجليزية، فضلاً عن ذيوع تلك الآراء التي قال بها طه حسين في كتاب صدر في باريس عام 1880 حمل آراء مجموعة من المستشرقين الألمان بعنوان «الشعر العربي قبل الإسلام»، والكتاب يعتمد على فكرة جوهرية هي عدم التسليم بصحة الروايات التي وصلتنا عن الشعر الجاهلي لأنه لم يكن التمثيل الملائم لتلك البيئة الوثنية.
وقد تحول النيل من طه حسين إلى صناعة قائمة بذاتها وتجارة نافعة ورياضة وتمرينا للنقاد الناشئين كما يقول الدكتور عبد الرشيد محمودي في كتابه «طه حسين بين السياج والمرايا». وربما بسبب هذا الإسراف في الخصومة ومساحات الجهل والتقصد التي واجهها حسين كانت دعوته التي لا تفتر إلى دراسة الأدب العربي عبر ما نسميه اليوم النقد التاريخي، وهو ما يفسر دعوته لضرورة إلمام دارس الأدب بالأدب السامي والآداب اليونانية واللاتينية وحتمية إلمامه بالتاريخ والفلسفة والنظم السياسية وعلوم الأديان والحضارات.
وقد ضرب مثلا على ذلك في محاضرة كان يشرح فيها خمرية أبي نواس التي يقول في مطلعها: دع عنك لومي فإن اللوم إغراء/‏‏‏ ودواني بالتي كانت هي الداء. حتى وصل إلى قوله: فقل لمن يدعي في العلم فلسفة/‏‏‏ حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء، حيث يشير إلى أنه لابد لقارئ النص هنا أن يعرف من هو مدعي العلم في خطاب أبي نواس، فإذا ما علمنا أنه «النظَّام» كان علينا أن نعلم أنه أحد متكلمي المعتزلة الذين يؤمنون بأن الخمر كبيرة وأن كل كبيرة في النار، ولكي تكتمل معرفتنا لابد أن نعود لمفهوم التوحيد لدى الأشاعرة والمعتزلة علي السواء، حتى نتمكن من تفكيك بيت من الشعر يبدو على هذا النحو من الوضوح.

نقد.. وانتقاد
وما قاله طه حسين في الشعر الجاهلي هو نفسه في ما قاله في مقدمة عدد من كتبه المهمة مثل «مستقبل الثقافة في مصر»، «على هامش السيرة»، «علي وبنوه»، و«حديث الأربعاء» حيث استمرت دعوته الملحة لوجوب تنضيد الرواية التاريخية وإرجاعها إلى أصولها تحت معيار التجرد من كل العواطف القومية والدينية حتى يصل الباحث إلى أقصى درجات موضوعيته.
إن شكوك طه حسين لم تتأسس على مذهب الشك الديكارتي وحده كما يقول خصومه، لأن تشكيك طه حسين في وجود العالم الخارجي لم يكن إلا بالقدر الذي تشهد به الحواس، لكنه يعود في النهاية إلى إثبات وجود العالم الخارجي على أساس عقلي محض.
لقد وقف طه حسين ضد القراءة الكهنوتية للتاريخ، ومن ثم التراث، لذلك لم تغفر له المؤسسة الدينية مروقه ورفضه لاحتكارها تعريف الحقيقة باعتبار أن الحقيقة مصدرها العقل وحده. وتلك هي المؤسسة التي لعبت دائما دور الذراع الطولى بالنسبة لكل سلطة، فظلت أداة من أدوات تكريس الطغيان وتعظيم الجهل. ربما لذلك كان ربط طه حسين بين تطور الأدب وتطور البنية العقلية حيث كان يرى أن «المجددين من الأدباء لا يزالون قلة غير مطمئنة على مثلها العليا ومذاهب تفكيرها وإنما هي عرضة للمناوءة بحق وبغير حق». ورغم أن طه حسين يقف على رأس التنويرين في العالم العربي إلا أنه لم يذهب مذهبهم في تفضيل التعليم على الثورة لذا كان موقفه المؤيد لثورة يوليو ودعوته لثورة الأدب عندما قال: «يثور الأدب قبل أن تثور السياسة والأدب الجاد يدفع إلى الثورة لأنه يقاوم الاستبداد والعسف وهو أثناء الثورة لا يستطيع أن يقاومها لأنه يقاوم نفسه إن قاومها».
ويرى المفكر السوري جورج طرابيشي أن طه حسين ربما كان أول مفكر في تاريخ الحضارة العربية يطرح سؤالاً حول المستقبل في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، وتتأتى أهمية هذا الطرح من أن المستقبل بدا للمرة الأولى يمثل مفهوماً معرفياً ومن ثم منهجا للتفكير. وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهها طرابيشي لطه حسين لاسيما في خلطه بين الكيفية والغائية التي تدفعنا لتمثل الحضارة الأوربية، حيث يرى طرابيشي أن دعوة طه حسين كانت تمثل نوعاً من الجبرية الهوانيَّة التي تمس تركيبة الهوية التي حذر علماء الاجتماع من الخلط بينها وبين فكرة التماهي، إلا أنه في النهاية قاد العقل العربي نحو فكرة غير مسبوقة آنذاك هي فكرة التحديث، لكنه لم يقع في أسر التغريب الذي كان يتخوف منه طرابيشي ودفعه في النهاية إلى ترديد الاتهامات ذاتها التي كان يرددها خصوم طه حسين. ورغم النكوص الذي صادف مشروع التنوير في جملته، لأسباب لا مكان لها هنا، إلا أن خطاب طه حسين، ما زال مع كل قراءة، يبدو خارج أفق التوقع. ويكفيه أنه أحد أخطر المعاول التي رفعت غطاء القداسة عن الخطاب الكهنوتي، حيث استطاع أن يجعل إعادة النظر في التراث ومحاكمته منهجاً عقلياً ضمن القراءات التاريخية القابلة للنقد والنقض في آن.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©