الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بابلو نيرودا.. يُحاكِم من قبره جلّاديه

بابلو نيرودا.. يُحاكِم من قبره جلّاديه
4 أكتوبر 2018 01:13

أحمد فرحات

لم يدخل الشاعر التشيلي الأكبر بابلو نيرودا (1904 – 1973) السجن يوماً، لكنه كان على الدوام يتجنّبه ويخشاه، لا من واقعته كسجن بحدّ ذاته، وإنما لأنه إذا ما حدث ودخله، فلن يتمكّن البتة من كتابة الشعر فيه. فهو «لا يؤمن بأدب السجون، ولا بالقدرة على الإبداع الحر والحقيقي في زنزانة»، كما قال لصديقه ميشال سليمان، الشاعر اللبناني والعربي الوحيد، الذي ارتبط نيرودا معه بصداقة شخصية وثقافية مستدامة، وذلك منذ العام 1965 حين التقاه على هامش «مؤتمر الكتاب العالمي» في برلين – فيمار أيام كان صاحب «مرتفعات ماتشو بيتشو» حاضراً هناك، حيث عقد اتفاقاً مبدئياً مع الشاعر سليمان على أن يترجم الأخير منتخبات من أشعاره إلى العربية صدرت في ما بعد تحت عنوان: «سيف اللهب»؛ وتعمقت الصداقة الشخصية بين الشاعرين وترسخّت أكثر، حينما صار نيرودا سفيراً لبلاده في باريس في العام 1970.

عندما دهمت قوات بينوشيه منزل الشاعر بابلو نيرودا صيف عام 1970 بهدف اعتقاله ومحاكمته صورياً وإدخاله السجن، كان أول من عرف بهذا الأمر، وحتى قبل وكالات الأنباء العالمية جميعها، الشاعر اللبناني ميشال سليمان، الذي يروي أن صديقه نيرودا أخبره عبر برقية أرسلها له تقول: «لقد دهمت الشرطة السرية منزلي فجأة يا «ميشا». كانت وجوههم حادّة وشبه وحشية، وحين سألتهم للوهلة الأولى ماذا تريدون؟ أجابوني: جمع السلاح الذي في منزلك، فقلت لهم: لن تعثروا في منزلي سوى على سلاح واحد، هو سلاح الشعر... فسخروا منّي وانصرفوا».

اغتيال سرّي
وتكرّرت فيما بعد لدى قادة الانقلاب العسكري التشيلي على سلطة الرئيس سلفادور الليندي، محاولات النيل من الشاعر بابلو نيرودا، واستقرّ خيارهم النهائي على اغتيال صاحب «النشيد الشامل»، إنما بطريقة سرية للغاية. وهكذا أوعز أوغست بينوشيه، رأس النظام العسكري الذي حكم تشيلي سبع سنوات (من العام 1973 إلى العام 1990) إلى شرطته السرية المسمّاة: «الدينا» لتنفيذ الأمر.. فنفذته بدقة محسوبة، وكانت أداة جريمتها المستخدمة في ذلك، حقنة مسمومة دُسّت للشاعر وهو طريح الفراش في المستشفى للعلاج من الداء الذي يتخبط به: سرطان البروستاتا. وكان أن عجّلت الحقنة المسمومة بمصرع نيرودا وأظهرته وكأنه مات نتيجة تفاقم داء البروستاتا لديه، وليس نتيجة أي عمل جرمي طارئ، كما ستبيّن التحقيقات الطبيّة المخبرية لاحقاً.
وكان مصرع نيرودا مثيراً للجدل على نحو مطوّل وساخن، خصوصاً وأن توقيته جرى بعد حدوث الانقلاب العسكري البينوشووي بـ 12 يوماً فقط ومقتل الرئيس التشيلي بقصف مقره الرئاسي (قصر لامونيدا في سانتياغو) بالطيران، أي بتاريخ 11 سبتمبر 1973، ما يؤشر إلى أن الجنرال قتل الشاعر ليتخلص من نشاطه الإعلامي القوي داخل تشيلي نفسها أولاً، ثم على مستوى بلدان أميركا اللاتينية قاطبة، والعالم بأسره ثانياً.
وبالفعل فإنّ وجود شاعر عملاق معارض كنيرودا في الخارج، من شأنه أن يقلب ظهر المِجنّ على بينوشيه ونظامه، وينغّص عليه، بالتالي، حياته السياسية والسلطوية، مهما كانت متماسكة وناجحة في قبضتها على ناصية الأمور في البلاد.
هكذا إذاً، تحقّقت لعبة انكشاف حادثة مقتل نيرودا بحقنة سامة، وهي كانت قد جرت قبل ساعات فقط من توجهه إلى المكسيك لتعبئة المعارضة التشيلية الموجودة هناك بعشرات الآلاف ضد نظام بينوشيه العسكري. وتقول بعض المعلومات إن نيرودا كان سيترأس حكومة منفى وطنية تشيلية من قلب العاصمة المكسيكية مكسيكو سيتي، ويعلن عبر منصّتها حرباً عواناً على سانتياغو وسلطاتها العسكرية حتى إسقاطها ومجيء سلطة شعبية تشيلية بديلة عن طريق صناديق الاقتراع.
وهذا الأمر أكّده في ما بعد سائق نيرودا نفسه، مانويل آرايا، الذي كان بمثابة مستشاره الخاص في الشؤون الأمنية والإدارية المتعلقة بالحزب الشيوعي التشيلي، والذي كان ينتمي إليه الشاعر بابلو نيرودا. فقد روى آرايا للإعلام ما مفاده بأن دخول نيرودا المستشفى في سانتياغو لم يكن هذه المرة بسبب مرضه الخبيث، وإنما كحيلة آمنة للخروج من البلاد، لأن الرئيس المكسيكي وقتها لويس إيشيفيريا، لم يرحب باختيار نيرودا المكسيك منفى له فقط، بل رحّب بجعلها أيضاً مختبر علاج متقدم للشاعر من سرطان البروستاتا. فالرئيس المكسيكي كان سيجنّد لعلاجه، وعلى نفقة الدولة المكسيكية، كبار أطباء سرطان البروستاتا من الولايات المتحدة وكندا وفرنسا والدانمرك والسويد وألمانيا. ولهذا الغرض أرسل الرئيس المكسيكي للشاعر التشيلي طائرة خاصة لتقلّه إلى مكسيكو سيتي. غير أن بينوشه الذي كان عالماً بتفاصيل هذه التطورات كلها، سرعان ما أمر رجاله في «الدينا» بأن يتحركوا وينفذوا جريمة إعدام الشاعر بابلو نيرودا قبل فوات الأوان.

المحاكمة المفتوحة لبينوشيه
الآن، وبعد مرور ما يزيد على عقود أربعة على اغتيال الشاعر نيرودا، لم تسكت عائلته الصغرى ولا عائلته الكبرى، داخل تشيلي وخارجها، على هذه الجريمة، بل ظلت تقيم الدعاوى لمحاكمة الجلادين، حتى ولو غابوا عن هذه الدنيا، انطلاقاً من مسلمة أن كشف الجريمة من شأنه أن يبرّد قلوب ذويه ومحبّيه، وينتقم له بعدل، حتى ولو كان منقوصاً. هذا أولاً.. ثانياً إن متابعة أمر الجناة ومحاكمتهم والتشهير بهم، هو أيضاً لأخذ الدرس والعبرة من أنّ اغتيال الكبار في الإنسانية والإبداع، لا بدّ من أن يكون له عقاب رادع قاطع.
وفي هذا الإطار، نبشت رفات الشاعر بابلو نيرودا مرات عدة لأجل إجراء فحوص وتحليلات مخبرية عليها، كان أولها في العام 2013 لتعود وتدفن للمرة الرابعة في العام 2016 بأمر القاضي ماريو كاروزا الذي كان يتولى التحقيق بمساعدة 16 خبيراً من إسبانيا وفرنسا وتشيلي والولايات المتحدة وكندا.. ولم يستبعد هؤلاء جميعاً إمكانيّة حدوث فعل التسمّم في جسد الشاعر.
من جهة أخرى، تبرّعت مختبرات جامعية اعتبارية، مثل ماكماستر الكندية ومختبر مورلينغ في العاصمة الدانمركية كوبنهاغن، بفحص رفات الشاعر نيرودا وخلصت نتائجهما العلمية بعد ستة أشهر إلى وجود نوع خطر جداً من البكتيريا في أحد أضراس الشاعر، تبيّن في ما بعد انه ناجم عن مادة سميّة قاتلة حُقن بها.
وتقول الباحثة ديبي بوينار في جامعة ماكماستر، التي عملت على البحث في منشأ البكتيريا ووضع التقرير الأوّلي حولها، إنّ الفحوص اللاحقة أثبتت وجود مواد قاتلة فعلاً للجسد البشري؛ وطالبت بُعيد ذلك بضرورة أن يدخل القضاء بحزمٍ على الخط، ومعه كخطوة تالية قرارات الدول النافذة المسؤولة، ليُبنى على الشيء مقتضاه.

المحاكمات الشعبية المبرمة
من جهة أخرى، ومنذ عام 2004 كانت تتوالى دعاوى الشعب التشيلي لمحاكمة بينوشيه وزمرته العسكرية الديكتاتورية. وكانت تدفع بهذه الدعاوى أحزاب يسارية تشيلية فاعلة، في طليعتها الحزب الشيوعي التشيلي، و«الحزب الاشتراكي في تشيلي».. وأخرى وسطيّة مثل «حزب الاتحاد الديمقراطي المستقل» و«حزب الديمقراطية».
وبعد ما يزيد على أربعة عقود سمحت السلطات التشيلية الرسمية بقيام قداس عن روح الرئيس الشيوعي الأسبق سلفادور الليندي وصديق نيرودا في السلطة، وذلك في مقر قصر لامونيدا في العاصمة التشيلية سانتياغو.
وتقول المعلومات، إن هناك أكثر من 3600 شكوى مقدمة في حق قائد الانقلاب العسكري أوغست بينوشيه في قضايا إعدام معارضين سياسيين محليين وخطف وتعذيب واحتجاز حريات لكثيرين بلا محاكمات، وحتى بلا إعلام عنهم في كل تشيلي، علماً بأن البعض منهم كان يُعثر على جثته في غير مكان من البلاد، فيتم الإعلان الرسمي عن وجود هذه الجثث على سبيل الغرق أو الانتحار أو الدهس بشاحنات فرّ سائقوها، وتقام بعدها دعاوى «الحق العام» على الجناة بصفة «فاعل مجهول».
غير أن قاتل نيرودا بينوشيه لم يواجه المحكمة مباشرة يوماً، وحتى في زمن تجريده من حصانته من طرف «المحكمة العليا في تشيلي». أما سبب ذلك، فهو فريق محامي الديكتاتور، الذي كان يتصدّى لمطلق شكوى ضد موكله بتقديم تقارير طبية وشهادات صحية موازية تثبت بأن ظروفه الصحية تحول من دون خضوعه للمحاكمة.
غير أنه وفي نهاية المطاف، ستظلّ دعاوى المحاكمات على مغتالي الشاعر بابلو نيرودا شغّالة، وترنّ في آذان كل من يريد أن يسمع بأمر هذه الجريمة أو حتى يتجاهلها على السواء، بحسب تعبير ابن أخت شقيقة نيرودا المحامي رودلفو رييس، الذي يضيف قائلاً «بأن كشف حقيقية ما جرى لشاعرنا المغدور أمر يفوق الضرورة نفسها، ليس لأجل عائلتنا نحن فقط، بل من أجل وطننا تشيلي بأكمله ومن أجل العالم كله أيضاً. ولن يرتاح العالم، ولن يهنأ لنا بال كعائلة، إلا بكشف لغز مقتله ومحاكمة الجناة المجرمين، والحكم عليهم بالإعدام، حتى ولو كانوا ميّتين».
إنها محكمة التاريخ إذاً، تلك التي يُعوّل عليها كل مطالب بحق صارخ ومضيء كعين الشمس، وهي محكمة معنوية جبارة وأقوى في حكمها من المحكمة الاعتيادية التي تصدر الأحكام المعنية بحضور المتهمين مباشرة وتنفيذهم للحكم بكامل بنوده.
هكذا من قبره، ومهما طال الزمن، سيظل بابلو نيرودا يحاكم كل متورّط بجريمة مقتله. وستكشف تلكم المحاكمة الكبرى و»الدائمة» التي تطلقها محكمة التاريخ عن أن الشاعر كان يخيف جلاديه في حياته، تماماً كما ظلّ يخيفهم في مماته.. وربما أكثر.
في كتابه «التساؤلات»، وهو آخر ما كتبه الشاعر بابلو نيرودا ورحل عن 69 عاماً، كان نيرودا، بحسب الناقد التشيلي خافيير ألبيرتو كأنه يتابع تفاصيل موته بعد الموت، ساخراً حتى من نفسه ومن هذا العالم المختل الذي لا يمكن إصلاحه. والسخرية من النفس جعلت نيرودا يتساءل في مكان ما من كتابه: «هل من الممكن أو المعقول أن يدعى المرء بابلو نيرودا؟!». ومن يقرأ كتاب «التساؤلات» لنيرودا، يراه كذلك كتاباً في الأنين البشري والنظر إلى العالم وكأنه بات مستودعاً للحطام، بل مستودعاً للعدم. يقدم فيه نيرودا، من ضمن ما يقدم، حكمة الشعر الشاهدة على كسر معادلات تاريخه الشخصي وإعاقة استئناف مسيرته هو كفرد، كان يأمل لحركته اللولبية الحياتية المتصاعدة ألا تنقلب إلى حركة لولبية هابطة، تلقيه في مهبّ الانقسام على الذات وعلى الآخر وتشظّي الجميع - وفق الرؤية لديه - وتخبّطهم في مستنقعات المجهول. لقد بدأ نيرودا الشعر، من مجموعته «عشرون قصيدة حب وأغنية يائسة» الصادرة في العام 1924 من القرن الفائت. وهي أيضاً قصائد في الشكوى من الظلم والإجحاف وفوضى العالم وإلغاء الروح في الإنسان لحساب الهيمنة المطلقة والمال وتسليم مقادير الأمور إلى أناس يتصفون بهستيريا التسلط في وعيهم ولاوعيهم على السواء.. لذلك نراهم لا يتوقفون عن النهش العشوائي لبلادهم وبلاد الآخرين وتسويغ إيديولوجيا الاكتئاب على حساب «إيديولوجيا المحبة والمساواة والعدل»... «عشرون قصيدة حب وأغنية» باكورة شعرية تتطابق مع آخر عمل مهم لبابلو نيرودا هو «كتاب التساؤلات». إنها إذاً بداية ونهاية واحدة، على قاعدة متن شعري فلسفي يائس لإنسان ضائع بين الأزمات المستحيلة وأوهام التسويات المستحيلة.
نيرودا باختصار كان شاهداً على الظلم في بلاده وفي بلاد العالم.. وانتهى شهيداً في مواجهته.

لقد فقدنا حتى هذا الشفق؟

لم يرنا أحد هذا المساء متشابكي اليدين
عندما كانت الليلة الزرقاء تهبط فوق العالم
رأيت من نافذتي
مهرجان الغروب فوق الربى البعيدة
ومثل قطعة نقود
تتقد شذرة من الشمس بين يدي
كنت أتذكرك وروحي تضيق
بهذا الحزن الذي تعرفين
أين كنت آنئذٍ؟
بين أيّ أناس؟
أية كلمات كنت تقولين؟
لماذا يدهمني كل هذا الحب
عندما أشعر بالحزن وأشعر بك بعيدة؟
سقط الكتاب الذي كان يُفتح وقت الشفق
ومثل كلب جريح ألتفّ ردائي عند قدميّ
دائماً.. دائماً تبتعدين في الأمسيات
إلى حيث يمضي الشفق وهو يمحو التماثيل.

بابلو نيرودا

 

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©