السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هل انتهى زمن الكبار؟

هل انتهى زمن الكبار؟
29 ديسمبر 2016 15:54
د. ألفة يوسف مضى من القرن الحادي والعشرين ستّ عشرة سنة، والمتأمّل في هذه السّنوات يلاحظ أنّه لا وجود لأديب أو مفكّر تألّق عالميّاً ولا لفنّان أدهش العالم. وليست هذه الملاحظة خاصّة بالقرن الحادي والعشرين، بل إنّه منذ الثّمانينيّات والتّسعينيّات من القرن الماضي، لم يشهد العالم أدباء في مثل نبوغ طه حسين أو إرنست هيمنغوي أو غابريال غرسيا ماركيز، ولم يشهد العالم فلاسفة من طراز ميشال فوكو وجاك درّيدا وإمانويل ليفيناس مثلاً. ومن المنظور ذاته ظلّت أمّ كلثوم وفيروز ومحمّد عبد الوهاب وماريا كالاس شخصيّات موسيقيّة وغنائيّة استثنائيّة وبقي فيلليني وبازوليني يوسف شاهين فلتات سينمائيّة تعسر مضاهاتها. لا تعني هذه الملاحظة البسيطة أنّ الأدب والفنّ موسيقى وسينما ومسرحاً... إلخ، قد انتهيا، ولكنّ الملاحظة تفيد ضمور الجودة الثّاقبة والتّميّز المذهل. ولمّا كنّا ممّن يؤمنون بأنّ لكلّ ظاهرة اجتماعيّة أسباباً خفيّة، فإنّنا نريد أن نبحث في هذا المقال بسرعة عن سبب أفول زمن الكبار. وإنّنا نرى لهذا الأفول سببين أساسيّين: السّبب الأوّل له علاقة بالإيقاع السّريع اللاّهث لحياتنا منذ أواخر القرن العشرين، فالأغنية الّتي كانت تستدعي كتابة كلماتها ووضع موسيقاها والبروفة على أدائها ثمّ تسجيلها، زمناً يطول، أصبحت تُنجز في سرعة قياسيّة. وكذا شأن الكتابات الأدبيّة، والأبحاث الفكريّة والأفلام السّينمائيّة والمعارض التّشكيليّة. لقد أصبح الإنسان عَجِلاً، وغدت الحضارة الجديدة مفتقرة إلى قيمة أساسيّة لطالما نوّهت بها الأديان والفلسفات. هذه القيمة هي قيمة الصّبر. إنّ بذل الجهد والصّبر على ما قد يقتضيه الجهد من إرهاق هو عامل جوهريّ من عوامل تميّز الأثر الأدبيّ أو الفنّي. وليس من المصادفة أن يكون الله تعالى قد أكّد في كتابه الحكيم أنّه قد خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام، إذ قال: «إنّ ربّكم الله الّذي خلق السماوات والأرض في ستّة أيّام ثم استوى على العرش...» (الأعراف7/54)، وقال عزّ وجلّ: «الله الّذي خلق السّماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام...» (السّجدة 32/4). إنّ الله تعالى وهو القادر على كلّ شيء، وهو الّذي يقول للشّيء كن فيكون، قد أخبر عن خلقه السماوات والأرض في ستّة أيّام. ولمّا كان كلّ ما يفعله الله تعالى مستنداً إلى حكمة، فإنّ ممّا استنتجه بعض المفسّرين أنّ الله تعالى خلق السّماوات والأرض في ستّة أيّام حتّى «يعلّم العباد الرّفق والتّثبّت في الأمور» وفق القرطبي، وحتّى يعلّم «عباده التّثبّت، فإذا تثبّت مَنْ لا يَزِلُّ، كان ذو الزّلل أولى بالّتثبّت» وفق ابن الجوزي. وبغياب الرّفق والتّثبت لدى جلّ المحدثين، يمكن أن نفترض أنّ ضمور الإبداع المدهش المتميّز له بالتّسرّع والعجلة وقلّة الصّبر صلةٌ وطيدةٌ. غير أنّ العجلة ليست السّبب الوحيد لانتهاء «زمن الكبار»، بل يضاف إليها سبب ثان هو طغيان الكمّ على الكيف. ولهذا الواقع علاقة كبيرة بتطوّر التّكنولوجيّات الحديثة من جهة وبتحوّلها إلى ملك مشاع مشترك بين كلّ النّاس من جهة أخرى. ففي القرن الماضي، كان الكاتب مثلًا يحتاج إلى وسيط يقيّم موهبته ويعترف بها قبل مرورها إلى المتقبّل، وهذا الوسيط كان عادة مسؤولًا إعلاميّاً بارزاً في مجال الكتابة الصّحفيّة أو أحد الخبراء الّذين تعتمدهم دار النّشر في مجال الكتابة الأدبيّة أو الفكريّة. وكان الموسيقار في حاجة إلى من يثبت موهبته ويقرّ بها قبل تسجيل أيّ لحن وقبل استماع الجماهير إلى أيّ نغم. وكان الفنّان التّشكيليّ مفتقراً إلى صاحب معرض يقرّ بقيمة آثاره الفنّيّة قبل عرضها على الجمهور. أمّا اليوم، فقد أصبح بإمكان أيّ شخص أن يكتب ما اتّفق وينشره على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وصار في مجال قدرة أيّ فرد أو جماعة أن ينشر على النّات موسيقى وغناء مهما تكن قيمته الموسيقيّة والغنائيّة. وغدت كلّ المنتجات التّشكيليّة قابلة لأن تُعرض لجمهور الأفضية الافتراضيّة. لقد اهتمّ المفكّر الفرنسيّ ريجيس ديبراي (Régis Debray) بعلم الوسائط وأشار إلى أهمّية الوسيط (médium) لا بمعناه البشريّ، ولكن بمعناه الفلسفيّ، فالوسيط يقع في مجال تقاطع بين التّقنيّ والثّقافيّ، وهذا ما يجسّمه تأثير التّكنولوجيّات الحديثة، بصفتها تقنية، في قيمة المنتجات الإبداعيّة، بصفتها وجها من وجوه الثّقافيّ. إنّ تقنيات التّواصل الحديثة قد ولّدت طفرة كمّية خلوا من أيّ تقييم مسبق واعتراف محترف. ولا يعني ما سبق أنّ الجودة قد انتفت تماماً، فهذا ممّا لا يمكن أن يقبله ذو عقل، ولكنّ الجودة غدت ذائبة في خضمّ عدد الأعمال المنشورة الّتي تصنّف نفسها «إبداعا»، وبعبارة أخرى، فإنّه يمكن أن نقول إنّ الكيف أصبح ذائباً في الكمّ. وهذا الواقع الجديد يؤكّد نظريّة ديبراي الّذي يعتبر أنّ تغيّر الوسائط ينتج تغيّراً للعقليّات وللرّؤى وللتّمثّلات وللمخيال الجماعيّ. استناداً إلى ما سبق، يمكن أن نقول إنّ زمن «الكبار» قد انتهى، ولكن يمكن أيضاً أن نقول إنّ البشريّة قد دخلت في آفاق ثقافيّة وفكريّة وفنّية جديدة تبشّر بمقاييس جديدة للجودة والقيمة الفنّيّة والأدبيّة. و«تلك الأيّام نداولها بين النّاس»...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©