الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مرثية قائد دون كيشوتي

مرثية قائد دون كيشوتي
29 ديسمبر 2016 12:11
حنا عبود لا حاجة أن نقرأ أفكار مثقف مثل صادق جلال العظم، فكل المثقفين وضعوا أفكارهم على أوراقهم، ولكن عندما نحاول تقديم فذلكة عن الدوافع والبواعث، والمنطلقات الفكرية التي لم يفصح عنها المفكر نفسه، فلا بد أن نكون على حذر شديد جداً، ولو استعنا بالظواهر إلى أبعد حد، وبخاصة أن صديقنا الراحل كان يكثر من الاغتراب، فلا يعيش في بلده كثيراً، فهو بين سورية ولبنان وألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة.. كان مثل سندباد ألف ليلة وليلة في أسفاره. وهذا ما جعلنا نحذر عندما «نقرأ» ما يقع خلف تفكيره، من غير أن تشفع لنا معرفتنا به، بل ربما كانت هذه المعرفة من جملة عوامل الزوغان والتضليل. فلتتجاوز روحك عن أخطائنا أيها الصادق العزيز. من أين نبدأ؟ سوف نبدأ من العقيدة الماركسية كما صاغها فريدريك إنجلز، وتبعه، تبعية كاملة ومتشددة الرفاق البلاشفة، وتبع الرفاق البلاشفة، يساريو أوروبا والعالم الثالث. باختصار: المعلم الأول في الفلسفة الماركسية لم يكن ماركس، أو على الأقل عند الآسيويين، ونحن متأكدون من هذا، بل كان إنجلز. وحتى لينين عندما يصل إلى الفلسفة الماركسية فإنه يعتمد على إنجلز فيكثر منه الشواهد وبخاصة ما يتعلق بالمشكلة الأساسية في الفلسفة، وليس في الفلسفة الماركسية وحدها. لذلك نظن أن البدء من إنجلز، أو بالأحرى من النقطة التي وضعها إنجلز، والتي تحمس لها الكثيرون، وبالأخص صديقه جيورجي بليخانوف، يكون خير مدخل إلى شخصية الراحل العزيز صادق جلال العظم. من هنا نبدأ يقول إنجلز في كتابه «لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية» بما معناه إن المسألة الأساسية في الفلسفة، أي فلسفة، هي مسألة المادة، أو لنقل الموقف من المادة، فالذين يرون أن المادة هي الوجود الأول يشكلون معسكر المادية، والذين يقولون إن الروح، أو الله هو الوجود الأول يشكلون معسكر المثالية. فهما معسكران متناقضان كل التناقض، ولا تمكن المصالحة بينهما، ودائماً يتمسك التقدميون بالمادية، ويتمسك الرجعيون بالمثالية، فالتقدمية والرجعية أساس نظرة الماركسي إلى الأمور، وعلى أساس هذه النظرة «يتخذ الشيوعيون موقفهم». هل للسلوك العملي دور؟ نعم. بكل تأكيد، فلا يمكن ربط التقدمية والرجعية بالفكر وحده. وفي الخمسينات ظهر ما يسمى «لاهوت الثورة» في أميركا اللاتينية، وهو أن بعض الكهنة حملوا السلاح في وجه الديكتاتورية التي كان يمسك بها شاب مغرور أو عسكري أرعن.. وكان السؤال المطروح علينا في تلك الأيام، ماذا نعتبر الكاهن الذي يرفع السلاح في وجه الطاغية؟ يجب أن نعتبره، من دون أي تردد تقدمياً، ولو لم يأخذ بالنظرة المادية. وكان الرفاق الشيوعيون يعللون ذلك بأنه يكفي أن يناضل «المثالي» ضد الدكتاتورية حتى يجد نفسه في صفوف المعسكر المادي (ومصطلح معسكر في الفلسفة من ابتكار فريدريك إنجلز). فلا يمكن لمناضل ضد حماة المثالية والمدافعين عن الخرافات، أن يظل على ما هو، فمع الأيام سوف ينقي فكره وينضم إلى المعسكر المادي. وفي الطبقة العاملة نفسها الكثير من أصحاب الفكر المثالي، ولكنهم بعد فترة من النضال ضد البرجوازية والهيمنة الرأسمالية، يتحولون في فكرهم إلى ماديين. فيما عدا ذلك في غير هذه النقطة المهمة ليس هناك مساومة أبداً، فإما أنك مع المعسكر المثالي وإما أنك مع المعسكر المادي (شرح بليخانوف هذه النقطة بدقة في كتابه «القضايا الأساسية في الماركسية» و(ترجمناه منذ خمسين عاماً). ليس المهم هذا التصنيف الثنائي (لم يشر الرفاق الشيوعيون إلى التركيب الناتج من القضيتين المتناقضتين) بل المهم الصفات التي ألصقت بهذين المعسكرين: فالمعسكر المادي هو المعسكر الثوري، التقدمي، الباحث عن حل جذري، وليس عن حلّ مؤقت، الواقع إلى جانب الطبقة العاملة.. بل ذهب الرفاق إلى أكثر من ذلك فرأوا أن المادية هي العقيدة الأساسية للطبقة العاملة، وعندما تعتنق المادية طبقتنا العاملة، فإن هذه العقيدة تصبح قوة فاعلة وعاصفة في الجماهير. ولكن ماذا عن المجتمع المدني الذي ينشأ في قلب المجتمعات الرأسمالية، ينشئه البرجوازيون أنفسهم؟ أمره محسوم، فهو نوع من المساعدة للنظام الرأسمالي، لوأد، أو تأخير، أو عرقلة، أو تضليل، أو تمويه.. الطريق المؤدي إلى التغيير. ومن هنا نعرف لماذا لا وجود - على الإطلاق- لمجتمع مدني في الأنظمة الشيوعية، ولا حتى جمعية أدبية ينشئها لفيف من الأدباء.. ففي هذه المجتمعات لا حاجة إليها، لأن العدالة تضرب أطنابها، بحيث لا وجود لمعوز ولا مستاء ولا مكبوت.. إنه الفردوس الأرضي الموعود، على ما جاء في كتب الأيديولوجيا الشيوعية. من هذا المنطلق حاول صادق أن يقوم بطقوس التنسيب، فكان دائماً يقيس الأشياء بهذه التصوّرات التي التزم بها. ولم يكن بمنأى عن الأمراض التي كنا نصاب بها، ففي كثير من الأحيان يقارع من لا أمل منه، ولا يمكن حتى لنبوءة دلفي أن تثنيه. كان صادق من عائلة شامية عريقة جداً، وثرية جداً، وقد لاحظنا، نايف بلوز وأنا، أنه يتصرف دائماً كأنما يريد التبرؤ من هذه الأسرة، حتى أنه في إحدى المرات منعوه من الدخول إلى حفل دعي إليه في الشيراتون بسبب سيارته الستروين القديمة جداً والتي هي أشبه بعلبة الكبريت. وانتهر العسس: إن كان هناك نبيل يحضر الاحتفال فهو أنا، فصرنا نمازحه على هذا التصريح الذي قلما سمعه أحد منه. حاولنا إقناعه بتغيير سيارته التي تلفت أنظار الرجل العادي، فكيف إذا دعي إلى الشيراتون وغير الشيراتون؟. والأرجح أنه لم يقدم على هذه الخطوة؛ بسبب تنقلاته الكثيرة بين العواصم العالمية، وتدريسه مادة الفلسفة تعاقداً مع بعض الجامعات في بلدان نائية كالولايات المتحدة- مثلاً. كنت كلما شاهدته في الستروين تذكرت قائدنا ومعلمنا وهادينا إلى درب الصفاء والنقاء، دون كيشوت دي لا منشا على حصانه الخالد روزينانتي. وكما كان دون كيشوت يجد شيئاً من شخصيته في حصانه، كذلك كان صديقنا صادق يرى الستروين امتداداً له، ونوعاً من التحدي لخصومه الرجعيين، ونكاية بذكرى ترف أسرته المنقرضة. كانت إحدى الوسائل التي حارب بها، ولا ندري إن كانت لقيت مصير نظيرها روزينانتي. لم نكن نعلم بكتابه «نقد الفكر الديني» حتى صدر. وعن طريق الممازحة كنا نقول له «ما لجرح بميت إيلام» أإلى هنا بلغ بك الحد يا أبا جلال؟ وبابتسامته العذبة وبكل براءته يحذرنا: ليس ميتاً إنه غول سيلتهم الأخضر واليابس. وفي بعض الأحيان نقرأ له بعض ما كتبه لينين في كتابه الصغير «حول الدين» الذي يطالب بعدم التعرض للدين، لأن الحياة اليومية والدخول السريع والمريع للصناعة سيغيّر كل شيء. وما الجدال في الدين سوى إثارة معارك لا جدوى منها. لكنني من بين بقية الأصدقاء كنت أرى أنه نوع من عناد صادق. فبما أن الدين مرتبط بالطبقات العليا تستخدمه كوسيلة للاضطهاد، كان لا بد من أن يعلن براءته مما اتهمت به عائلته. وفي بعض الأحيان كنا نتحدث عن التعصب الأرثوذكسي في روسيا، وموقف الثورة من الأرثوذكس، وبالتالي موقف الأرثوذكس من الثورة.. وكالعادة يبتسم ويحذر. كان مثل بيثيا عندما يأتيها الوحي وهي على كرسيها المثلث، سوى أنها كانت امرأة عبوساً، بينما كان صاحب ابتسامة دائمة، نظن أنها خلقت معه، ولا يتصنعها. المعارك النموذجية كما خاض القائد الخالد دي لا منشا معارك مع من تخيلهم خصومه، وهم أبعد ما يكونون عن الخصوم مقدماً نماذج لنا، كنا نحن أيضاً نخوض المعارك، الواحدة بعد الأخرى، غير منتبهين إلا إلى طقوس التنسيب، الأيديولوجيا، والبروليتاريا، والشيوعية، والزعماء... وأشياء أخرى. ومن المعارك التي خاضها صادق معركته مع دون كيشوتي شهير توهّم أنه فرّ من الدكتاتورية العراقية إلى الديمقراطية السورية، هو هادي العلوي، وهو نوع مختلف عن العظم، في المعالجة، وليس في احترام الوقائع والحقائق، وعندما نقول المعالجة، فإن فيها ما ليس في منطق الوقائع والحقائق.. هنا يجب الحذر والانتباه أكثر فأكثر. فقد تحمس صادق لسلمان رشدي، فوقف منه الموقف ذاته الذي اتخذه في كتابه «نقد الفكر الديني» ورأى فيه فارساً مقتحماً لقلعة الرجعية، في حين مال الهادي إلى موقف آخر، يقترب من موقف لونجينوس الحمصي في كتابه العظيم «الجليل في الأدب» ففي رأي هادي أن رشدي لم يتبع القوانين الخاصة بالأدب، والمتوارثة عبر آلاف السنين. يقول لونجينوس: إذا كنت تريد أدباً جليلاً فلا بد أن يكون المضمون والعواطف من النبل بحيث يشتهيها غيرك. فالهادي لم يكن حريصاً على الشخصيات الدينية التي جاء على ذكرها رشدي، بل حاسبه وفقاً لقوانين الأدب الخاصة، التي لا تصوّر النقيصة إلا لهدف راقٍ نبيل، فما هدف رشدي من عرض شخصيات مثل النبي العربي وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وغيرهم، وغيرهم...؟ بالتأكيد ليس هدفه أدبياً، ومع ذلك لم يكن هادي ليقبل بإباحة دم رشدي، لا من قريب ولا من بعيد، ورأى في ذلك متابعة لأساليب التعذيب والقمع في الإسلام السياسي، ورأى أن موقف «الأزهر» هو الموقف الأفضل، فقد أصدرت هذه المؤسسة رأيها في الكتاب بكل مهابة، من دون أن تصدر أي فتوى في إباحة دم الكاتب. المعركة الثانية كانت مع أدونيس، الدونكيشوتي الآخر الذي لا يؤيد أي تظاهرة تخرج من كنيسة أو مسجد ولو قادها لينين نفسها، من غير أن يشير إلى المكان الذي يريد أن تخرج منه التظاهرة. إن فيه عقدة من الأيديولوجيا الدينية أكثر من صادق، ومع ذلك اختلفا. والقارئ لا يحتاج إلى تلخيص أدبيات هذه المعركة فهي موثقة في كتب صادق، ولكن لا بد من عرض رأي صادق في الثورة الإيرانية. فعندما كان الإيرانيون ضد الاتحاد السوفييتي وقف ضد ملالي إيران، وعندما لم يعد هناك اتحاد سوفييتي وقف مع الملالي بحسب المنطق التالي: إن الموقف المعادي للشيطان الأكبر والشيطان الأصغر، سيجمع جماهير هائلة، وسينتصر هذا المحور في المعركة، ولو كان متعصباً دينياً، فطريقة الإنتاج والأوضاع التي تفرضها الرأسمالية العالمية، تدفع الملالي إلى مقارعة الإمبريالية، وخاصة بتصدير الثورة الإسلامية (طبعاً الإيرانية). وفي إحدى محاضراته في مدينة حمص عرض نصين: الأول لروح الله الخميني والثاني لكاسترو (من أرشيفه القديم جداً) وانتقل من الأول إلى الثاني، ولو لم يشر إلى الخطابين، لما انتبه أحد إلى ذلك. ولما خرجنا من قاعة المحاضرات إلى غرفة الاستقبال، سأله أحد الدونكيشوتيين المستائين من محاضرته التي اعتبرها ترويجاً للنفاق الديني: لو كان كاسترو عند روح الله ألا يحكم عليه بالإعدام، والعكس صحيح؟ ولم يمهله للردّ، بل أنشده: وقد يجمع الله الشتيتين بعدما، يظنان كل الظن ألا تلاقيا، ولم يدخل غرفة الاستقبال بل انسحب وهو في الدهليز الموصل إليها، احتجاجاً واستنكاراً، فابتسم صادق وقال بكل صفاء الروح الدونكيشوتية، إن الرجل «أدونيسي». ستبقى ذكرى هذا القائد الدونكيشوتي فينا، نحن الجيل الذي قال عنه جورج طرابيشي إنه جيل الخيبات المتلاحقة، يراهن على الحق لا النصر، وعلى الخير للجميع لا للذات، من أجل بناء عالم جميل تكتمل فيه السعادة.. ولهذا كان عنيداً في مواقفه، ولهذا كان يخيب. النبيل والستروين كان صادق من عائلة شامية عريقة جداً، وثرية جداً، وقد لاحظنا، نايف بلوز وأنا، أنه يتصرف دائماً كأنما يريد التبرؤ من هذه الأسرة، حتى أنه في إحدى المرات منعوه من الدخول إلى حفل دعي إليه في الشيراتون بسبب سيارته الستروين القديمة جداً، والتي هي أشبه بعلبة الكبريت. وانتهر العسس: إن كان هناك نبيل يحضر الاحتفال فهو أنا، فصرنا نمازحه على هذا التصريح الذي قلما سمعه أحد منه. حاولنا إقناعه بتغيير سيارته التي تلفت أنظار الرجل العادي، فكيف إذا دعي إلى الشيراتون وغير الشيراتون؟. الفردوس الأرضي لا وجود - على الإطلاق - لمجتمع مدني في الأنظمة الشيوعية، ولا حتى جمعية أدبية ينشئها لفيف من الأدباء... ففي هذه المجتمعات لا حاجة إليها، لأن العدالة تضرب أطنابها، بحيث لا وجود لمعوز ولا مستاء ولا مكبوت!... إنه الفردوس الأرضي الموعود، على ما جاء في كتب الأيديولوجيا الشيوعية. الأدب الجليلa إذا كنت تريد أدباً جليلاً فلا بد أن يكون المضمون والعواطف من النبل بحيث يشتهيها غيرك لونجينوس
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©