الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دورميسون.. حياة في كتاب

دورميسون.. حياة في كتاب
28 ديسمبر 2016 20:01
هاشم صالح أعترف بأني أجد متعة حقيقية في قراءة مؤلفات الكاتب الفرنسي جان دورميسون. مبدئياً كان ينبغي ألا أقرأه أبداً. فلا شيء يجمعني به. لقد ولد في القصور و«في فمه ملعقة من ذهب»، كما يقول المثل الفرنسي. بل وتوجد مدينة صغيرة باسم عائلته نحو باريس. ذلك أنه من عائلة أرستقراطية عريقة في تاريخ فرنسا. وكان رئيساً لتحرير الفيغارو أكبر جريدة يمينية ليبرالية. كما كان مشرفاً على قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية باليونيسكو، وبالأخص على مجلة «ديوجين» الشهيرة. وفيها كتبت خيرة أقلام فرنسا. ثم انتخب مبكراً عضواً في الأكاديمية الفرنسية ونال الشرف الرفيع. ثم إنه يسكن في أرقى الضواحي الباريسية وأغناها، حيث يسكن ساركوزي أيضاً وبقية المشاهير والأغنياء الكبار. وحتما يسكن فيلا تشبه القصور إن لم تكن قصراً حقيقياً. فما الذي يجمعني بشخص كهذا؟ أين الثرى من الثريا؟ في الواقع يجمعني به شيء واحد فقط هو: حب الأدب. فهو ذواقة من أعلى طراز للشعر والنثر على حد سواء. وإنها لمتعة حقيقية أن تسمعه يتحدث عن كبار أدباء فرنسا ماضياً وحاضراً، وبالأخص شاتوبريان. وهو لا يمل من الاستشهاد بعبارته التي تقول: (ينبغي أن نقتصد في توزيع احتقارنا على الآخرين. ذلك أن عدد «المحتاجين» كبير جداً!). العبارة بالفرنسية أقوى وأبلغ بكثير، وأكاد أعتذر عن ترجمتها. ولكني أعطيت معناها على ما أعتقد. ولا يمكن أن يذكرها دورميسون إلا وهو يكاد ينقلب على قفاه من الضحك. عبارة أدبية بليغة لا يقدر عليها إلا الكتاب الكبار من أمثال شاتوبريان. لكن جان دورميسون الغني الأرستقراطي ليس فقط معجباً بشخص يميني مثله كشاتوبريان، وإنما هو معجب جداً أيضاً بشخص يقف على النقيض منه تماماً: أراغون. نعم أراغون الشيوعي! إنه لا يمل من ذكره والاستشهاد بأشعاره. وهذا يعني أن الأدب يجمع الأضداد الذين لا يجمع بينهم شيء. إنه يتجاوز الانقسامات السياسية والتفاوتات الطبقية. فالشعر ليس رجعياً ولا تقدمياً. الشعر إما أن يكون شعراً أو لا يكون. نقطة على السطر. ما معنى شاعر يساري ماركسي تقدمي قياساً إلى بدوي الجبل أو نزار قباني؟ ما يشبه وصية أخيرة لنعد إلى جان دورميسون وكتابه الأخير الذي يشبه الوصية الأخيرة أو المذكرات الشخصية. ذلك أن الرجل تجاوز التسعين (من مواليد 1925). وهو ما انفك يودعنا في كل مرة على مدار كتبه الأخيرة المتلاحقة. إنه يخاف أن يموت قبل أن يقول كل ما يريد قوله. لقد أزعجنا من كثرة التوديع والتحسر إلى درجة أننا قد نموت قبله! على أي حال لقد آن الأوان لكي نذكر عنوان الكتاب بعد كل هذه الديباجة الملفقة. إنه طويل على النحو التالي: «سأقول على الرغم من كل شيء بأن هذه الحياة كانت جميلة». والعبارة ليست له وإنما مستعارة من شاعره المفضل: أراغون. هكذا تلاحظون أن الرجل يريد أن يودع، يريد أن يرحل. ولكن قبل أن يرحل لن يتركنا مرتاحين لحظة واحدة. وحسناً فعل. فنحن المستفيدون في الواقع من إضاءاته وتحليلاته وذكرياته الاسترجاعية وصراعاته مع نفسه. لنتركه إذن يصفي حساباته مع حاله لا أقول على ظهرنا وإنما على مسامعنا. إنه لا يتردد عن تعرية ذاته، بل ويفضح نفسه بنفسه أمامنا. والدليل على ذلك أنه يعترف بسر خطير كان قد كتمه طيلة خمسين سنة: وهو أنه أغرى زوجة ابن عمه بل وخطفها وعاش معها فترة من الزمن قبل أن يتخلى عنها. يقول: «أشعر بالعار ليس فقط لأني خطفت زوجة ابن عمي الذي كان مثل أخي، وإنما لأني تخليت عنها بكل جبن، ولم أستطع تحمل مسؤولية فعلتي الشائنة تلك». إذن فالرجل يعري نفسه ويصفي حساباته مع حاله، وهذا شرف له في الواقع. فلا شيء يجبره على هذه التعرية أمام الأنظار. بل ويحاكم نفسه بنفسه على مدار الكتاب الذي نشرته غاليمار في نحو الخمسمئة صفحة. لماذا يمتعك هذا الكتاب؟ لأن كتب السيرة الذاتية ممتعة عموماً. ثم لأنه يستعرض من خلال قصته الشخصية كل الحياة الثقافية الباريسية على مدار نصف القرن المنصرم. وكل من عاش في باريس إبان تلك الفترة أو قسم منها يجد حصته في الكتاب إذا جاز التعبير. أقصد يستمتع كثيراً بالمعلومات التي يقدمها جان دورميسون عن الأحداث الثقافية الكبرى والشخصيات الفكرية والسياسية الشهيرة التي شغلت باريس طيلة الخمسين أو حتى الستين سنة المنصرمة. هذا ناهيك عن الشخصيات التاريخية القديمة التي تهم كل قارئ صاحب فضول معرفي معين. أعترف بأني استفدت كثيراً من شروحات المؤلف وتعليقاته وذكرياته وتصويراته للحياة الثقافية الباريسية. وقارنت بينها وبين ما عشته أنا شخصياً في باريس على مدار أكثر من ثلاثين سنة متواصلة. وعندئذ فهمت بشكل أفضل أشياء كثيرة كانت خافية عني. فأن يتحدث لك كاتب فرنسي شهير عن الساحة الثقافية الفرنسية غير أن يتحدث لك عنها شخص آتٍ من الخارج. فأهل مكة أدرى بشعابها. نعم لقد كانت متعتي مضاعفة أثناء قراءة الكتاب. أقول ذلك وبخاصة أنه يتميز بأسلوب شيق، جذاب. علاوة على ذلك فإن بعض التيارات والأحداث الثقافية التي يذكرها هي ذاتها التي شغلتنا، نحن الطلبة العرب، عندما وصلنا إلى باريس منتصف السبعينيات. فهو يلقي أضواء ساطعة على الأجواء الثقافية والسياسية الباريسية ويجعلك تعيشها مرة أخرى. كما يتعرض بالذكر لبول فاليري، وريمون آرون، وجان بول سارتر، وجان هيبوليت مترجم هيغل إلى الفرنسية، وأندريه جيد، وفرانسوا مورياك، وفرنان بروديل، وكلود ليفي ستروس، وألتوسير، وبول موران، وفيكتور هيغو، ومارسيل بروست، ومعظم شخصيات الفكر والأدب الفرنسي. هذا ناهيك عن الشخصيات السياسية من الجنرال ديغول، إلى الماريشال بيتان، إلى بومبيدو، وميتران، وجيسكار ديستان. عضة برنار فرانك كان الكاتب اليساري برنار فرانك أحد خصوم جان دورميسون في الساحة الثقافية الباريسية. وقد جرت بينهما معارك طاحنة، وحاول كل واحد أن «يعض» الآخر بقدر ما يستطيع. كل واحد كان يركز على نقطة الضعف لدى الآخر لكي يصيبه منها. وكانت المعركة تتم من خلال المقالات الهجائية والمقالات المضادة على رؤوس الأشهاد. لقد عدنا إلى عصر جرير والفرزدق. وفي إحدى المرات عضه برنار فرانك عضة موجعة عندما قال له ما معناه: «بحياتك كلها لن تصبح كاتباً كبيراً مهما حاولت لسبب بسيط: هو أنك لم تتألم في حياتك. إنك لا تعرف معنى العذاب مثلنا نحن الذين نبحث عن لقمة الخبز ولا ننالها إلا بعرق الجبين. أما أنت فلست بحاجة لأن تشتغل أصلاً لكي تعيش. تكفيك القصور والأراضي الشاسعة الواسعة التي ورثتها عن عائلتك الإقطاعية الأرستقراطية. تكفيك الشقق الباريسية العديدة التي خلفها والدك الديبلوماسي الكبير لك. وبالتالي فاشتغل شغلة أخرى يا جان دورميسون. واترك حرفة الأدب لمن عانوا وتعذبوا ووصلوا إلى حافة الهاوية قبل أن يسطروا حرفاً واحداً». يعترف جان دورميسون بأن هذا الهجوم قد زعزعه ونال منه. ولكن الشيء العجيب الغريب هو أنه أصبح على الرغم من كل ذلك كاتباً شهيراً. وربما كان السبب يعود إلى كونه مولعاً فعلاً بالأدب. ثم إنه حتماً عاش تجارب حياتية عديدة أغنت كتابته وثقافته. فهو أحد الفاعلين في الحياة السياسية الفرنسية من خلال الخط الديغولي. وشيراك وجيسكار ديستان وحتى ساركوزي كانوا يحسبون لرأيه ومقالاته الحساب. ثم إن الأغنياء قد يعانون ويتألمون أيضاً. صحيح أن الحياة سهلة بالنسبة لهم بل ورغيدة، ولكن لهم همومهم ومشاكلهم وتجاربهم. بالطبع فإن جان دورميسون لم يصبح دويستوفسكي! ولم يرتفع إلى مرتبة الأدباء الكبار من أمثال أراغون أو جان بول سارتر مثلاً. ولكنه ألف عدة كتب أصبحت من أفضل المبيعات لاحقاً. لم يصل إلى قمة الأدب كشاتوبريان ومارسيل بروست، على الرغم من كل محاولاته السيزيفية المتكررة. ولكنه حاذاها أو اقترب منها. وكفاه ذلك فخراً. الخالدون الحقيقيون ما رأي جان دورميسون بالأكاديمية الفرنسية؟ إنه خبير في الموضوع أكثر من سواه لأنه عضو فيها منذ أكثر من أربعين سنة. يقول ما معناه: لقد تأسست الأكاديمية منذ نحو الأربعمئة سنة. وانتخبت أكثر من سبعمئة شخصية على مدار تاريخها الطويل. ولكن فقط أربعون منهم خلدوا فعلاً أو تركوا اسماً وراءهم بعد موتهم. وأما الباقون فقد طواهم النسيان تماماً. من بين الخالدين نذكر الأسماء التالية: كورني وراسين ولافونتين في القرن السابع عشر. ثم مونتسكيو وفولتير وديدرو في القرن الثامن عشر. ثم شاتوبريان وفيكتور هيغو ولامارتين وألفريد دوموسيه في القرن التاسع عشر. ثم بول فاليري وفرانسوا مورياك وبيرغسون وكوكتو وكلود ليفي ستروس في القرن العشرين. ولكن عدد النوابغ الذين أهملتهم الأكاديمية كبير جداً. لقد تجاهلت بعضاً من كبار العظماء من أمثال: موليير، وجان جاك روسو، وبودلير، وبلزاك، وفلوبير، وإميل زولا، وأراغون، وبالطبع جان بول سارتر وآخرين عديدين. ولكن هل كان سارتر سيقبل بالدخول إليها؟ حتماً لا. فهو قد رفض حتى جائزة نوبل. وأما بودلير فقد رشح نفسه لها وهو يعرف أن حظه صفر أو أقل من الصفر. لماذا رشح نفسه إذن؟ لكي يسخر منها ومن أعضائها. ومعلوم أنه كان مولعاً بفن السخرية والتهكم. (هناك رواية كاملة كتبها أحدهم مؤخراً عن هذه القصة. يكفي أن تقرأها لكي تموت من الضحك عشرات المرات وفي كل صفحة تقريباً. تصوروا بودلير، أكبر شاعر فرنسي، وهو يجلس بكل تواضع كتلميذ صغير أمام أحد أعضاء الأكاديمية التافهين الذين لا علاقة لهم بالأدب لا من قريب ولا من بعيد. تصوروه وهو يترجاه لكي يعطيه صوته. شيء رائع. من أرقى ما يكون..) وإذن فلا يكفي أن تدخل إلى الأكاديمية الفرنسية لكي تصبح من الخالدين. ينبغي أن يكون وراءك إنتاج أدبي طويل عريض هو وحده الذي يخلدك. والدليل على ذلك أن معظم من انتخبتهم لم يعد لهم أي ذكر. ماذا كان سيربح جان جاك روسو من دخول الأكاديمية الفرنسية ؟ لا شيء.على العكس سوف تنقص قيمته. هناك كتاب يتعالون على كل الجوائز والتشريفات الممكنة. ولا يمكن لأي تشريف مهما علا شأنه أن يرتفع إلى قامتهم، إلى مستواهم. هذا الكلام لا يعني إطلاقاً الاستخفاف بالأكاديمية الفرنسية. من أنا حتى أفعل ذلك؟ رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. فهي أعرق وأعلى مؤسسة فكرية فرنسية. إنها تستحق كل احترام وتقدير بل وتبجيل. ومؤخراً تأسف جان دورميسون لأن الأكاديمية لا تحتوي على أي شخصية إسلامية حتى الآن. وقال أنه سيتدارك الوضع. وقد فاجأني تصريحه تماماً. وهذا أكبر دليل على مدى احترامه للإسلام والمسلمين. أخيراً ينبغي القول إن الكتاب حظي بجائزة جان جاك روسو لعام 2016. وقد اعترف المؤلف بأن كتابته استغرقت منه أربع سنوات. ثم أضاف: كل حياتي وضعتها في هذا الكتاب. كتابة العذاب يقال إن أحد الكتاب الشباب اقترب مرة من ديستوفسكي وسأله: ما العمل لكي يصبح المرء كاتبا؟ فأجابه: ينبغي أن تتعذب، أن تتعذب، أن تتعذب. كررها ثلاث مرات. لم يقل له ينبغي أن تكثر من القراءات والمطالعات لأن هذا تحصيل حاصل. وإنما أوصاه بشيء واحد فقط هو: العذاب. فالشخص الذي لم ينصهر في محرقة الحياة وأتون المعاناة لا يمكن أن يصبح كاتباً كبيراً في نظر ديستوفسكي. أسرار المتعة كانت متعتي مضاعفة أثناء قراءة الكتاب. أقول ذلك وبخاصة أنه يتميز بأسلوب شيق، جذاب. علاوة على ذلك فإن بعض التيارات والأحداث الثقافية التي يذكرها هي ذاتها التي شغلتنا نحن الطلبة العرب عندما وصلنا إلى باريس منتصف السبعينيات. فهو يلقي أضواء ساطعة على الأجواء الثقافية والسياسية الباريسية ويجعلك تعيشها مرة أخرى. كما يتعرض بالذكر لبول فاليري، وريمون آرون، وجان بول سارتر، وجان هيبوليت مترجم هيغل إلى الفرنسية، وأندريه جيد، وفرانسوا مورياك، وفرنان بروديل، وكلود ليفي ستروس، وألتوسير، وبول موران، وفيكتور هيغو، ومارسيل بروست، ومعظم شخصيات الفكر والأدب الفرنسي. هذا ناهيك عن الشخصيات السياسية من الجنرال ديغول، إلى الماريشال بيتان، إلى بومبيدو، وميتران، وجيسكار ديستان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©