الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إبداع يحلّ في إبداع

إبداع يحلّ في إبداع
8 نوفمبر 2017 20:18
يُجمع علماء اللغة في اليونان على أن مصطلح «ميوزيوم» يعود إلى جذور إغريقية أثينية مطوّرة عن مصطلح «ميزيون»، وقد استخدمه أفلاطون في بعض محاوراته، ويعني دولة فن النحت ومنظومات الأدب والشعر والفكر والفلسفة، أي ذلكم الفضاء الإبداعي والثقافي الخصوصي متوضّعاً مادياً، والذي بتنا نسميه «المتحف» وينجذب إليه الناس ليبلوروا معه وحدة تفاعل ثقافي أثيري تظلّ تجسّده تلكم الإبداعات والصنائع الفنية المعروضة فيه. وذلك انطلاقاً من أن هذه الإبداعات والصنائع ليست رموزاً دالّة على الماضي فحسب، وإنما على صيغة الحاضر والمستقبل أيضاً، وما يندّ عن هذه الصيغة من أشكال السبق والتوقّع، وقد تحوّلت جميعها إلى نشاطٍ ذاكريّ واعٍ وحيّ، يضفي على حياتنا غنىً، ليس من شأنه الصقل والتهذيب وبث المعرفة المفتوحة فحسب، وإنما «تصحيح» حتى الأزمنة والأمكنة وطبعها بطبعة حضارية جديدة ومنقّحة. من هنا إذاً تأتي أهمية مشروع متحف اللوفر أبوظبي، وافتتاح هذا المشروع الثقافي الاستثنائي الضخم، الذي يتقاسم مجموعة نادرة من الآثار واللوحات والتحف الفنية مع لوفر باريس، تغطي مراحل تاريخية وحضارية مختلفة، تبدأ من حقب ما قبل التاريخ، مروراً بالأزمنة الإغريقية والرومانية والمصرية والرافدينية، ووصولاً إلى العصور الوسطى والحديثة. ويتميز اللوفر أبوظبي (تمتد معروضاته على مساحة 9200 متر مربع) عن لوفر باريس، بهذه النكهة العربية الإماراتية، وقد جسّدها البعد الفلسفي المعماري لمبنى المتحف نفسه في أبوظبي، والذي راعى فيه مُصممه الفرنسي جان نوفيل البيئة المحليّة، بحيث تنعكس الشمس مثلاً على آلاف من النجوم المعدنية المثبتة بطريقة محكمة على القبة المركزية الأنيقة للمتحف، والتي تزن 7500 طن من الحديد المفضّض، وتمتد لتظهر وكأنها مهيمنة على هيكل المتحف بأكمله، عاكسة مشهداً مرآويّاً يوحي بدوره، وكأنّ ثمة شتاء من الأضواء ينهمر ليستحيل بقعاً ضوئية متناظرة داخل المتحف، وهذا المشهد نفسه يحاكي، وإن على نحو شبه متطابق، مشهد أشعة الشمس وهي تخترق «سقف» غابة نخيل في الإمارات لتتكّسر من فورها بقعاً ضوئية على الأرض.. ولا غرابة، والأمر كذلك، أن يُطلق على متحف لوفر أبوظبي توصيف «لوفر الصحراء». أندلس جديدة هكذا يتحوّل متحف اللوفر أبوظبي إلى صرحٍ فخيمٍ مُلهم للجمال من الجمال المعماري عينه الذي تمثله هندسته، مضافاً إليها بالطبع جمال كنوز المعروضات الآثارية والفنية الاستثنائية داخل قاعاته.. أي أننا صرنا هنا، وبدهشة مضاعفة، أمام إبداع يحلّ بالإبداع، تُراكم مشهديته أنساق قيمٍ عالية وفوق سامية لعاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة التي وصفها أحدهم مرة بأنها «أندلس حيّة جديدة». وتقتضينا الضرورة الإشارة هنا إلى أن بناء متحف أبوظبي المذكور، والذي يمتد على مساحة 24 ألف متر مربع في منطقة جزيرة السعديات الظبيانية، كان قد بدأ في العام 2007 بموجب اتفاق رسمي موقّع بين فرنسا ودولة الإمارات العربية المتحدة، يستعير بموجبه الجانب الإماراتي اسم متحف اللوفر لمدة 30 عاماً و6 أشهر، والمعروضات الفنية والتاريخية لمدة 15 عاماً. وفي المناسبة، يمثل متحف اللوفر أبوظبي جزءاً من مشروع تنويري ثقافي حضاري عام يُحوّل جزيرة السعديات إلى «جنّة إبداعية» تضمّ على امتداد مساحتها أكبر حشد من الصروح الثقافية والفنية مجتمعة في العالم، ومن أشهرها، بالإضافة ألى لوفر أبوظبي (على مستوى المتاحف)، «متحف زايد الوطني» و«متحف جوجنهايم أبوظبي»، والذي صُمّم ليكون أكبر متحف في العالم. ثم هناك «المتحف البحري في أبوظبي»، والذي سيكون مُقدّماً على أهم وأكبر متحفين بحريين في العالم: «متحف بورسغرون البحري في النرويج» و«المتحف البحري الوطني الدانماركي في هلسنغر».. علاوة على مبانٍ فنية وثقافية عديدة قيد الإنشاء في الجزيرة، ومنها «مركز أبوظبي للفنون الاستعراضية» (من تصميم زها حديد المعمارية العراقية - العالمية الراحلة)، ومبانٍ أخرى للمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية، ما يحوّل أبوظبي بالفعل إلى مدينة مدائن العالم كله، الحاضنة لصروح الإبداع والثقافة بوجهيها القديم والحديث في وحدة جغرافية مركزية واحدة. قرار سيو/‏‏ ثقافي وهنا لا بدّ من التنويه بحقيقة أن هذا التنوير الثقافي التكاملي تقف وراءه قرارات كبرى لساسة كبار وثقاة يضعون بجدارة بصماتهم الذهبية على صفحات التاريخ الثقافي والإبداعي بوجهيه العربي والعالمي.. فالتنوير الثقافي، وبمطلق الصراحة، يحتاج، أولاً وأخيراً، إلى قرار سياسي حاسم، ليصير في ما بعد حقيقة ماثلة على الأرض، وقد اتخذت القيادات الإماراتية مثل هذا القرار الكبير. وهو قرار ينسحب على مشروعات تنويرية وتنموية أخرى كثيرة في الدولة، وعلى مختلف الصعد، ما أهّل ويؤهّل الإمارات لتتصدّر مختلف الدول النامية (ومعها أيضاً العديد من الدول المتقدمة) في ميادين معارك التنمية الشاملة، ولا سيّما الثقافية منها، كيف لا وهذا البلد الفتيّ يستثمر، حتى في المستقبل البعيد، ويعلن ذلك عبر خطط رسمية واضحة ومبرّمجة التنفيذ، كتلك التي أُعلن عنها مؤخراً وجاءت تحت عنوان «مئوية الإمارات 2071»، وهي تشكّل برنامج عمل حكومياً طويل الأمد مستمدة عناصره من محاضرة تاريخية كان أطلقها في وقت سابق صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، تطرّق فيها لمجتمع المستقبل في الإمارات، راسماً خطوطاً عريضة لبناء إمارات الغد وإعداد الدولة وتجهيزها للأجيال الشبابية المقبلة. إذن، القرار التنويري الثقافي، يقف خلفه، باستمرار، قرار سياسي حاسم في الأساس، وقد ترجمت الإمارات مفاعيل مثل هذا القرار على الأرض اليوم وكل يوم، وكأبدع ما تكون عليه الترجمة. وعندما نقول كل يوم، فإنما نعني الغد وبعد الغد.. علاوة على الغد البعيد.. مالرو وديجول وما دمنا نتكلم عن علاقة الثقافة التنويرية بالسياسة الرياديّة.. والعكس صحيح، تحضرني هنا سابقة واقعية لا بد من ذكرها، فقد تسنّى لي أن ألتقي أندريه مالرو، وزير الثقافة الفرنسي الأسبق في عهد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول في منزله في ناحية «كريتيه» (إحدى ضواحي باريس) وسألته عن علاقته الثقافية المميزة بالجنرال ديجول، وكيف تجلّت مفاعيلها على الأرض، ولا سيما بعد العبارة الشهيرة التي كان أطلقها مالرو أمام رئيسه قبيل تسلّمه حقيبة الثقافة: «الآن يا سيادة الرئيس صار عقل فرنسا عهدة بين يدي»؟.. وقد أجاب مالرو عن تساؤلي المذكور بالحرف الواحد: «ديجول كان يعتبر الثقافة الفرنسية بمنطلقاتها التنويرية المستمرة، هي القوة المعنوية الكاسحة التي حفظت وتحفظ لفرنسا سيادتها وهيبتها في العالم، وأكثر بكثير من أي جبروت قوة عسكرية أو نووية تمتلكها»... وتابع مشيراً إلى متحف اللوفر «هذا المبنى الذي يقع على الضفة الشمالية لنهر السين، يحوي كنوزاً من حضارات إنسانية مركزية عديدة، تشكل بدورها هوية تعددية مكتنزة بالمعرفة والجدوى، لا تعني فقط كل إنسان من هذه الأمم أو الحضارات، وإنما البشرية جمعاء. نعم، اللوفر قوة ثقافية إنسانية مشتركة تعتز بها فرنسا اعتزاز أي أمة أو حضارة أخرى معنية باحترام قيم إبداعاتها وفنونها على أنواعها». وأردف مالرو:«على طول خدماتي في حقيبة الثقافة، وفي أكثر من حكومة ديجولية، لمست أن أصل مسار الثقافة التنويرية في بلادنا، كان ولا يزال سياسيّاً في المقام الأول، ونتيجة لقرارات سياسية مباشرة وملزمة، من أعلى الهرم الرسمي إلى قاعدته على الأرض. خذ مثلا سياستي في تعضيد اللغة الفرنسية في مواجهة اجتياح الأنغلوفونية لها، كانت هذه المسألة، أولاً وأخيراً، قراراً سياسياً اتخذته، بموافقة الجنرال ديجول والحكومة الفرنسية بالتأكيد. وقد مارس هذا الشأن السيو/‏‏ ثقافي المفتوح، كل من جاء بعدي من وزراء ثقافة في فرنسا». وختم مالرو قائلاً: «كان ديجول يؤمن، وأنا معه أيضاً، بأن أي إنجاز ثقافي أو معرفي يقام، مهما كانت قيمته وقوة تأثيره ورمزيته في المجتمعين الفرنسي والعالمي، هو في أساسه ناتج عن قرار سياسي محض ومُتابع بدقة من صانعيه ومتبنّيه، لكن هذا لا يعني في المقابل استتباع الثقافة للسياسة البتة». إذن، ما نشهده اليوم، ومن خلال هذه التظاهرة الثقافية الكبرى، ممثلة بافتتاح متحف اللوفر أبوظبي، إنما يدل على مدى قمة الوعي السياسي والحضاري لدى صانع القرار في الإمارات، لأن السياسة في النهاية مرتبطة بحاصل جدواها على الأرض تنموياً وحضارياً، ولا سيما في المجال الثقافي والمعرفي، حيث الرمزية معهما هنا تبقى أعلى وأرسخ من غيرها في ذاكرة الأجيال الراهنة واللاحقة. دروس اللوفر أبوظبي يُعدّ متحف اللوفر قي طليعة متاحف العالم وأشهرها وأكثرها أهمية وجاذبية للمشاهدين، وتُشكل عملية إقامة امتداد تقاسمي له في أبوظبي تحت مسمى«متحف اللوفر أبوظبي» أبعاداً وظيفية وجمالية واحدة لجهة جذب الزائرين وتعميم تنمية ثقافية من نوع تفاعلي جديد بين جهتين فرنسية وإماراتية، وجهة ثالثة طويلة عريضة يمثلها زواره، الذين يقيمون على أرض الإمارات وينتمون إلى مختلف بلدان وجنسيات وقوميات العالم، فضلاً عن سياح عرب وأجانب ممن سيصير اللوفر أبوظبي بالنسبة إليهم هدفا أولوياً يقف على رأس أجندة برنامج زيارتهم لدولة الإمارات. نحن إذاً أمام ظاهرة جماليّة لا يحدّها حدّ، يمثلها اللوفر أبوظبي، والذي سيتحوّل بالضرورة إلى مؤسسة جديدة من عولمة الأفكار الفنية والثقافية، التي ستبثها منظومة إبداعات متخيّرة يزيد تعدادها على الـ620 عملاً فنياً يحتويها المتحف المذكور، فضلاً على 300 عمل فني معار من 13 مؤسسة ثقافية فرنسية وعالمية ستتوزعها 23 قاعة عرض دائمة يؤلفها بناء المتحف مجتمعاً. وعولمة مثل هذه الأفكار تؤكد لنا انه لا معنى لثقافة فنية أو إبداعية بحالها، إذا لم يتم تقاسمها مع الغير، خصوصا البعيد منه. وهدف التقاسم مع الغير هنا هو في رأينا الهدف الأول، أو الدرس الأول، الذي تجسده هذه الثنائية المتحفية اللوفرية الفرنسية الإماراتية من البوابة الظبيانية. على أن هذه التجربة الثنائية والاستثنائية بمختلف المعايير، تطالبنا بدراستها أيضاً، والوقوف على نتائجها التقويمية المنتظرة، تمهيداً ربما لبلورة طراز ثقافيّ مشابه لها يتمّ تعميمه على مناطق أخرى في العالم، ودائما باسم الطرفين المؤسسين للتجربة الثنائية إياها، كمرجعية تؤكد السبق في الترويج الجمالي والمعرفي لرسالة اللوفر الفنيّة المتحركة هذه. والدرس الثاني الجمالي المستفاد منه على مستوى ظاهرة «اللوفر أبوظبي»، هو فرادته الأدائية التكاملية، التي تثري بدورها ذلكم الحوار الضمني الراقي مع الجمال والذكرى التاريخية وتأملها وتوسيع الآفاق الناتجة عنها. فالمتحف يصير هنا وكأنه مدرسة للتاريخ الحي، تُنطِق معروضها الجامد أوثق النطق الحضاري وأصرحه، فضلاً عن التأويل المتنامي الذي لا بدّ وسيظهر لدى مُشاهد المعرض، محرّكاً فيه كوامن وجودية لا حصر لمعانيها وأسرارها، ودائماً على قاعدة زرع القديم لديه في تربة ثقافية جديدة. الدرس الثالث من تجربة اللوفر أبوظبي، هو أنه يقدم لنا عنصر التاريخ، بما هو كائن حاضر، وبما هو أيضاً كائن مستقبلي. إنه يجعلك، مثلاً، تقرأ النصب أو اللوحة أو الرقيم برموزه المستحضرة كأحد مظاهر النشاط المعرفي النفساني المباشر، ثم أيضاً كأحد الأبعاد العميقة غير المنظورة، لكنها (أي هذه الأبعاد) تظلّ تكسي المجردات أمامك إهاباً حسيّاً وسمات واقعية تبهر البصر والبصيرة لديك. وتأسيساً على ذلك، يصبح المتحف خلية حيّة تبني على المعرفة القديمة معارف جديدة تثري كل ما تقدم من ثقافة راسية فيك، وتدفعك إلى إطلاق خطابات النقد والتحليل مجتمعين. الدرس الرابع لـ«اللوفر أبوظبي» يتبلور في حقيقة أنه نجح في جعل رسالة المتحف، مادة مألوفة في حياتنا اليومية، لها القدرة، حتى على قلب سحر الماضي بجعله مادة مُلتقطة وطازجة، الأمر الذي من شأنه أن يلهب مخيلتنا ويشحنها، استطراداً، بإبداع سردي قد يأتي على شكل منتج روائي أو شعري أو ملحمي جديد. ولنا في نتاج العديد من الكتاب العرب والأجانب مثالاً ملموساً على ذلك، فجورج برناردشو (1856 – 1950) كتب رواياته والعديد من مسرحياته عندما بدأ يتردد على المتحف البريطاني. ومثله الفرنسي فيكتور هيغو الذي كان من زوار متحف اللوفر شبه الدائمين، وكتب فيه العديد من أعماله الأدبية. أما على المستوى العربي، فإن الروايات التاريخية الأولى التي كتبها نجيب محفوظ وهي «عبث الأقدار» – 1939 و«رادوبيس» – 1943 و«كفاح طيبة» – 1944، فإنما كتبها انطلاقاً من أجواء متحف القاهرة، فضلاً عن أجواء أهرامات الجيزة وسائر آثار مصر التاريخية الفرعونية (كما قال لكاتب هذه السطور في حوار أجراه معه في العام 1980)، وكان محفوظ يطلق على مصر نفسها اسم «المتحف الحي والملهم الدائم للإبداع». الدرس الخامس، يقول مدير متحف اللوفر أبوظبي مانويل راباتيه، «إن المتحف سيعزّز الدور الثقافي لأبو ظبي على مستوى العالم»، وهذا الكلام أو الرأي في محلّه تماماً، ونضيف عليه بأن المتحف سيسهم أيضاً في تغيير الصورة التقليدية عن أبوظبي بأنها عاصمة لدولة غنية بثرواتها الطبيعية من نفط وغاز، وما يدور حول هذه الثروات الطبيعية من مشروعات وبناءات اقتصادية واستثمارية فاعلة ومتفاعلة، ليجعلها في عيون العالم عاصمة أخرى مغايرة، وصاحبة جدارة أيضاً، للثقافة والفكر والفن والإبداع، فاللوفر اسم له رصيد ثقافي عالمي لا يضاهى، وأن تتقاسم دولة الإمارات مع فرنسا مضمون هذا الرصيد محليّاً، إقليمياً وعالمياً، وعلى مدى يتجاوز الثلاثة عقود مقبلة، أمر في غاية الاستثناء والأهمية، عدا أنه غير مسبوق في تاريخ تعامل الدول بعضها مع بعض. وعلى أي حال، فإن صورة الإمارات العربية المتحدة كمفعلة عملية وراعية للثقافة العربية والعالمية، مسألة قائمة منذ سنوات طويلة أيضاً، وتتجسّد في العديد من المؤسّسات الثقافية الرائدة في الدولة، سواء في إمارة أبوظبي نفسها («المجمع الثقافي» سابقاً و«عجائب» جزيرة السعديات حالياً وفي طليعتها افتتاح اللوفر) أما في إمارتي الشارقة ودبي، حيث تقوم مؤسسات كبيرة أخرى بنشاطات ومهرجانات ثقافية دورية لا يستهان بها، مثل مهرجان «أيام الشارقة المسرحية» ومعارض الفنون التشكيلية الدولية (بينالي الشارقة، وهو حدث فني دولي كبير في المنطقة تقيمه الشارقة مرة كل عامين)، ثم مهرجان دبي السينمائي إلخ..، كل ذلك أسهم ويسهم في جعل الإمارات بلداً عربياً وعالمياً تتألق فيه الثقافة جنباً إلى جنب مع نجاح التفعيل الاستثماري والتجاري الدائمين. تعميق فلسفة التسامح الدرس السادس، عندما تتحوّل أي دولة إلى مركز ثقافي إقليمي وعالمي من العيار الحضاري الوازن، فهذا يعني أن هذه الدولة تحولت إلى أرض فعلية لثقافة التسامح والاعتدال والحوار الحضاري المنتج بين الثقافات والأديان وسائر العقائد الدينية والدنيوية التي يتبناها البشر. وفي هذا الإطار باتت أبوظبي بشكل خاص، ودولة الإمارات العربية المتحدة بشكل عام، مرجعية متساميّة للتسامح بعينه، انطلاقاً من أن التسامح هو معطى العيش العقلاني والعملي للقيم الإنسانية المتآلفة والمتعاونة على الخير العام. وهنا يجب أن نعترف أن متحف اللوفر أبوظبي وسائر المؤسسات والأنشطة الإبداعية الفاعلة على مستوى الدولة، إنما زادت على مرجعية التسامح الإماراتي تسامحاً إضافياً ليس إلا، فأبوظبي أو دولة الإمارات عموماً، والتي يعيش على أرضها أكثر من 200 جنسية بوئام وانسجام رفيعين، هي في الأساس عنوان التسامح وموئله وقدوته في العالم أجمع. وهنا نستطيع القول بملء الثقة، إن الإمارات سبّاقة على سائر الدول في ممارسة فلسفة التسامح وتوكيد معالمها على الأرض.. وفي هذا المضمار لا يستطيع أحد أن يزايد على الإمارات أو يعطيها نصائح في قضايا حقوق الإنسان ونبذ العنصرية والكراهية وغيرها.. وغيرها من عبارات تعطلت معانيها من كثرة تردادها بلا طائل. هكذا إذاً، فإن وقائع ورموز الثقافة العالمية الوافدة على الإمارات والمتفاعلة معها في آن، ستظل تسهم في تعميق فلسفة التسامح المعمول بها أصلاً في هذه الدولة العربية الفتية، من دون أن تكون سبباً لها. لكأني بمبادئ التسامح التي أرساها كبار فلاسفة التسامح في التاريخ وفي طليعتهم الفرنسي فولتير (1694 – 1778)، لم تحسن دولة في العالم التعامل معها كما تعاملت وتتعامل دولة الإمارات. والدليل الدامغ على ما نقوله هنا، هو قيام وزارة للتسامح في الإمارات، وهي خطوة غير مسبوقة عربياً وعالمياً، ديدنها بالطبع تعزيز الحوار بين الأديان والثقافات وتقريب وجهات النظر بين الدول والشعوب وتكريس قيم الحياة في وسط ثقافة الموت والدمار، وكل ذلك بصيغة جديدة مغايرة تبتعد عن التكرار والتنميط والأحكام المسبقة. مع افتتاح «متحف اللوفر أبوظبي» لا بدّ من التنويه بحيوية دولة الإمارات سياسيا وثقافيا وفي سائر المجالات والفضاءات المتعارف عليها. فهذه الدولة العربية الفتية تفاجئك على الدوام بالجديد والاستثنائي على كل صعيد، وتتعاطى دوماً مع التنوير والحداثة كملحمة إنسانية بنائية على أرض الواقع والتاريخ. وعليه فكل عربي مخلص، يشعر أن الإمارات هي إنجاز دولتي عربي وإنساني عام غير مسبوق، ويتمنى لهذه الدولة بقيادتها الرشيدة دوام الاستقرار والمنعة وثبات هذا الالتحام الأساسي والدائم بين الدلالة والمعنى. وكعرب نحن، ولا شك، في قلب عالم متغيّر، ولكن لا ينقص الإمارات إدراك هذه الحقيقة قبل الآخرين، ولذلك نراها تسبق الآخرين في اتجاه صوغ معالم هذا العالم الجديد/‏‏ البعيد، لتسهم في صنعه مع الكبار، وتشاركهم لاحقاً، حتى في رسم وقائعه ومصيره. هكذا عرفت الإمارات بامتياز عصر المرور من مجتمع الإنتاج السائد إلى مجتمع المعرفة، واقتصاد المعرفة، حيث أتقنت بالتالي، ولا تزال، الاستخدام الأفضل للمعلومة المتدفقة وبوتيرة متسارعة ومنضبطة في الآن عينه. هي إذن دولة حضارية، تثبت بأنه يمكن لإنسانها بناء أدوات ذهنية جديدة تساعده على مزيد من المشاركة في التفاعلات البيئية العلمية التي يكرسها العلم المتطور كل يوم، والتي من شأنها أن تتقدم به نحو ما يسمونه بالسببية اللولبية، ذلك أن الإنسانية في نهاية المطاف، هي اكتساب علمي وثقافي وليست إرثاً بيولوجياً. الإمارات، نعم، إنها تستحق اعتراف هذا الآخر الدائم.. وهو هنا الإنسانية بأكملها. المساحات الداخلية تصل المساحة الإجمالية الداخلية للمتحف إلى 8600 متر مربع، تتضمن قاعات العرض والمعارض ومتحف الأطفال، بينما تصل مساحة قاعات العرض إلى 6400 متر مربع، وستحتوي على نحو 600 تحفة فنية، فضلاً عن 300 عمل فني مُعار من مؤسسات ثقافية فرنسية، تروي قصصاً من مختلف الحقب التاريخية التي مرت بها البشرية وصولاً إلى الوقت الحاضر. وتصل المساحة الإجمالية المخصصة لإقامة المعارض المؤقتة إلى قرابة 2000 متر مربع، بينما تم تخصيص 200 متر مربع لمتحف الأطفال، ويرتكز هذا المتحف على برنامج متكامل ومتعدد المواضيع يشمل استضافة معارض مؤقتة، إلى جانب توفير أدوات ووسائط تفاعلية، ومجموعة من الأعمال الفنية للأطفال والعائلات. المعارض المؤقتة وستتم إقامة أربع معارض مؤقتة على مدار العام في مساحات منفصلة، وذلك لضمان عودة الزوار لاستكشاف المزيد من الأعمال الفنية الجديدة، وستتم هذه المعارض بالتعاون مع شركاء متحف اللوفر أبوظبي من المتاحف الفرنسية ضمن الاتفاقية بين حكومتي أبوظبي وفرنسا، وستشمل في بعض الحالات أعمالاً من مراكز ومؤسسات متعددة، وسيرصد أول معرض تطوّر متحف اللوفر في باريس من أواخر القرن الـ17 إلى 1793. الورش والبرامج والمعارض نظم متحف اللوفر أبوظبي، منذ عام 2009، مجموعة من الأنشطة العامة لإشراك الجمهور من مختلف الخلفيات والاهتمامات والأعمار. وتضمنت النسخ الخمس لسلسلة «اللوفر أبوظبي: حوارات الفنون»، ورش عمل وحفلات موسيقية تسرد أهمية الأعمال التي تتناولها الحوارات، سواء من الناحية الفنية أو التاريخية، أو في سياق مجموعة المتحف المتنامية. وشملت ورش العمل الفنية العائلية التي تعرف المشاركين على كيفية صنع قطعة فنية خاصة بهم مستوحاة من متحف اللوفر أبوظبي. ومن المعارض والبرامج التي تم تنظيمها: معرض «قصص من اللوفر أبوظبي»، ومعرض «قصص من اللوفر أبوظبي: القلم فن الكلمة المخطوطة» وتضمن خمسة أعمال، مثل صفحة لنص قرآني بالخط الكوفي، ومصحفٌ بالخط الكوفي من الشرق الأدنى وشمال أفريقيا، وصفحتين مصورتين من سيرة النبي محمد (عليه الصلاة والسلام) تعودان للعصر العثماني، ومخطوطة «سوترا الحكمة الكاملة» التي تعود لأديرة الهند الشرقية، ومعرض «قصص من اللوفر أبوظبي: صور خالدة»، ومعرض «نشأة متحف»، إضافة إلى كتاب يوثق أكثر من 300 عمل من مجموعة المتحف.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©