الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

أبو ظبي: سجّادة العُمران.. وفتنة الطيف البشري الآسرة

21 يوليو 2006 00:00
رسول محمَّد رسول: في صيف عام 2001 جئتُ إلى أبوظبي، ولم أكُن أملكُ عنها كمكان في مخيلتي سوى صور قليلة، والأغلب أنها مسموعة ومعاينة عن بُعد تناهت إليَّ على نحو عابر· وعندما تدخل المدينة قادماً إليها من أطرافها ترى ذاك الأُفق المجسَّم الصاعد نحو السماء الذي تُطليه أذيال الغيوم ورذاذ الرُطوبة والضباب البحري الذي يحاول ملامسة عطسات الغيم النازلة على أبراج المدينة التي تبدو من بعيد مدينة ببرج واحد، وكلمّا تتوغَّل أكثر باتجاه تفاصيلها، كلمّا وجدتَ معالمها تتضح لك أكثر، وترسيماتها الهندسية تكشف عن جماليات التصميم والبناء وفق جدلية الماضي والحاضر أو التراث والحداثة· عُمرانيَّا، ترى في أبوظبي مدناً عدَّة في مدينة واحدة، فمع أنَّ الطابع العام لها أنَّها مدينة حديثة العُمران؛ لأنها بنيت في النصف الثاني من القرن العشرين، ترى المزاوجة في إنشائها بين التراث العُمراني العربي والإسلامي والبناء الحديث ميِّزة تنجلي لك مفرداتها إذا ما تمعَّنت في أسرار العمران التكوينية، وفي هذا المعنى تكاد المباني الإماراتية القديمة، تتوَّزع جغرافية المدينة إلى جانب المباني الحديثة، منها ما يُمثِّلُ قيمة تراثية أو قيمة موروثة بوصفه أثراً شْفكم، ومنها ما تمَّت إعادة تصميمه كمشاكلة لعيِّنات أو شواهد عُمرانية كانت موجودة في الإمارات سابقاً· على أنَّ العُمران التراثي تجدهُ أيضا مندسَّاً في ثنايا أحدث المباني في المدينة كالجوامع مثلا، ليمارس دوراً تعبدياً تارة، وتجارياً تارة أخرى، فضلاً عن الدور التأصيلي والجمالي، إلاّ أنَّ الانطباع الأولي لمن ينظر إلى أبوظبي غالباً ما تُهيمن عليه صورة الحداثة العُمرانية، ليس في حركة العُمران العمودية، على الرغم من أولويتها في مشهد المدينة العام، إنما في هندسة الجسد العُمراني الذي يعتمد في تجسيد البناء من الخارج فَّىَه على مادّة المرمر والزجاج والصفائح المعدنية العاكسة حتى لتبدو المدينة من أعلى أو من بعيد بؤراً للإشعاع لولا هيمنة حزم الرطوبة وأذناب الغيوم التي تغلِّف مبانيها، لكنك كلما صرت في شوارع المدينة ستجد للضوء فيها معنىً تعكسه عناصر التجسيد الخارجية· مدينة أسرار على الرغم من وضوح المعالم، تبدو أبوظبي مدينة أسرار، أسرارها الوجودية مثل أسرار ما لا يُريد التراث قوله وما لا تريد الحداثة قوله أيضاً؛ فإذا كنت تعيش في مدينة عمودية تبدو تكويناتها صاعدة إلى الأعلى، معناه أنك تحتاج إلى جهد مضاعف لكي تعرف ما تستطيع معرفته· ومعلوم أنَّ المدن الأُفقيَّة هي الأكثر قدرة على عدم إخفاء أسرارها مقارنة بالمدن العمودية· وأما إذا كنتُ قادماً من مدن أفقية، وعشتُ في مدن من هذا النوع لسنوات طوال بما فيها مدينتي (الكوفة) بالعراق التي ولدتُ وعشتُ فيها بعض أعوام حياتي الأولى، خصوصاً أعوام الطفولة، فإنَّ الصعوبة تكون مضاعفة لإقناع سلطة الفضول عندي التي تهيمن على الإنسان المرتحل إلى غير مكانه الأصل· إنَّ فك أسرار المدينة، أسرارها الوجودية، تلك العملية التي تبدو شائقة، تمنحك لذَّة هي الأخرى مضاعفة، وعندما تشخِّص المكان بكل تفاصيله في خلال خمسة أعوام مثلاً على وجودك في أبوظبي، فإنك تكتشف، بعد هذه المدة، أن شارعاً صغيراً فيها يمارس وظيفة مركزية في جغرافيا المدينة لم يكن ذا بال لك من قبْل، وهكذا ستحتاج إلى زمن لكي تعرف مفاتيح جغرافيات أخرى· وهذا الإضمار أو ربما التمنُّع الذي لا يبدو سياسة يريد أحد تكريسها إنما هو طبيعة في مدن مفتوحة مثل أبوظبي، ينعكس على الجغرافيات البشرية ذات التنويع العرقي الذي يتدفَّق كل يوم من دون تحديد نهائي، إنها جغرافيا بشرية هي الأخرى تُضمر أكثر مما تفضي وتقول لتبني نسيج الأسرار الوجودية في هذه المدينة· وبالطبع ليس لكَ أنْ تعرف كل هذا الطيف البشري عن قرب؛ فذلك محفوف بمصاعب متعبة، لكنك تستطيع أن تتلَّمس أطياف كل شريحة منهم على مهل إذا ما وجدت نفسك منخرطاً في مفردات تفاصيل الحياة اليومية· الطيف البشري الآسر أبو ظبي كمدينة، شأنها شأن مدن الإمارات الأخرى، هي مدينة مفتوحة، ليست منغلقة على كيانها البشري، ولا على هويتها الثقافية والحضارية، ما يعني أنها تنتمي إلى المدن المفتوحة المعروفة في العالم المعاصر، وعندما تعتمد مدينة على فلسفة مفتوحة في حراكها البشري والحضاري والثقافي فإنها تتعايش مع الطيف البشري المقبل من وراء البحار والقارات وفق روح تواصلية لا تضع هوية الذات الوطنية أو المحلية في تصادم مع هويات وذوات الآخر (الوافدون)، لذا تنسج اللحظات البشرية في المدينة طيفاً من التنوع الرمزي (لغة التواصل والتعبير عن المعاني)، والتنوع الثقافي (نمط التعبير عن الهوية كالتعامل مع الزمن، وتكريس العادات والتقاليد، واستخدام المُتع الاجتماعية، ونظام السفر)، والتنوع الحضاري (نمط السكن والأكل)· عندما تمشي في المدينة ترى وجوهاً متجانسة، وترى غيرها أيضاً مختلفة، ترى الناس في حركة دؤوبة نحو كل الاتجاهات، ترى هذه الأطياف على طاولة طعام واحدة أو في مقهى واحد، تراها في ساعات العمل وفي التسوُّق، وفي متعة الاسترخاء على شاطئ البحر· في كل صور هذا التعايش البشري والثقافي والحضاري ترى الطيف البشري جسداً آسراً يخلق هوية هذه المدينة لتتصالح فيها الذات مع الآخر بلا تردُّد حتى لتبدو أبوظبي سجَّادة يتناهى فيها الاختلاف إلى تجانس غير عصيٍّ على التصيُّر في التعبير عن مكنوناته وذواته وهويّاته الجزئية، مدينة بقدر ما تُضمر أسرارها الوجودية تكشف عنها، وبقدر ما تكتنز الاختلاف تُظهر التجانس لخلق مشهدها كمدينة طيف بشري آسر جمعته فتنة العيش المتنافذ·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©