الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أبوحيان التوحيدي يدخل باب التصوف الواسع عبر «الإشارات الإلهية»

أبوحيان التوحيدي يدخل باب التصوف الواسع عبر «الإشارات الإلهية»
11 يوليو 2013 02:19
على مدار أيام شهر رمضان المبارك سوف نطل عليكم من خلال هذه الزاوية بعرض مختصر لعدد من الكتب في التراث والأدب والتاريخ وأدب الرحلات لتكون استراحة قصيرة، تروي شيئاً من شغف المعرفة في ساعات هذا الشهر الفضيل. ونتناول اليوم: الكتاب: “الإشارات الإلهية” الكاتب: أبو حيّان التوحيدي - تحقيق: وداد القاضي عدد الصفحات: 480 من القطع الكبير جهاد هديب (الاتحاد)- لم يكن أبو حيّان التوحيدي واحدا من المتصوفة كحال ابن عربي أوالنفري والحلاج والسهروردي وابن الفارض وأبي يزيد البسطامي وغيرهم، فهو لم يضع سوى كتابه الذي يحمل عنوان “الإشارات الإلهية”، والذي من الممكن إدراجه في باب الصوفية، أما ما تبقى من كتبه فتنتمي إلى حقول أخرى في الأدب، ومع ذلك يُحسب التوحيدي في الثقافة العربية الكلاسيكية على أنه واحد من كبارهم بسبب هذا الكتاب. في هذا الكتاب يستعير المؤلف “لسان” التصوّف أكثر من استعارته لفكرته ومنطلقاته الأساسية، والوجدانية منها بخاصة. يصف التوحيدي كتابه بأنه “هذا لسان التصوّف، والتصوّف اسم يجمع أنواعاً من الإشارة، وضروباً من العبارة، وجملته (أي بنيته النصية واللغوية) تقوم على التذلل للحقّ بالتعزز على الخلق”. ما يعني أن موقف التوحيدي من التصوّف هو موقف لغوي عميق بالأساس، ربما لأن معرفته كانت أوسع وأكثر شمولية، وربما لا أيضاً. تقشف الحياة لم يعش أبو حيّان التوحيدي، صاحب الإمتاع والمؤانسة، حياة المتصوفة، أي لم يرتد في حياته بزة الصوفيين وينأى عن الناس في معتزل خاص به بل هي الحياة التي تقشفت في أمره، فلم تمنحه أيّ مجدٍ في حياته، فضلاً عن أنه صاحب تلك الحادثة غير المسبوقة، ربما، في تاريخ التراث العربي والإسلامي حين أقدم على إحراق كل الكتب التي ألّفها وبذل فيها ماء القلب والعين معاً من دون جدوى، وقد شارف على التسعين من عمره أو ناهزها بقليل. لقد كان أول مثقف عربي أصيل يفعل ذلك بسبب الفقر مثلما اعتقاده في لحظة يأس بأن أهل زمانه غير جديرين بما لديه من أفكار قد تأخذ بأيديهم من الجهل إلى حياة أفضل، وحكام زمانه الذين لم يقدّروه حقّ قدره فقربوا إليهم أولئك الأكثر جهلا والبارعين في النفاق والتزلف والمرائين من المثقفين عظاة السلاطين الذين يُسمعون أصحاب الأمر ما يودّون أنْ يسمعوه دائماً. مرامي الكتاب بحسب بنية الكتاب ونصّه ومرامي الكلام وما يستشعره القارئ الحديث من حديث مثقف عربي عاش ذلك الزمان أن الكتاب ما كان إلا ثمرة يأس التوحيدي بشقيه: يأسه من المعرفة، وهي حالة وجودية من الممكن تلمّسها وإدراكها ببساطة من الصفحات الأولى للكتاب، ويأسه من أنْ تُحدث المعرفة تغييراً ما، خاصة عندما تتوجه بالكلام إلى الآخر، مستمعاً أو قارئاً، بغير ما اعتاد على سماعه أو قراءته من أساليب القول الشفوي الوعظي وطرائقه. إنه كتاب عزلة بالمعنى الحديث للكلمة، أي هو كتاب تأملات ونتاج عزلة الفرد واغترابه عن المجموع إذ قضى عمره، أي الفرد، فرداً بين مجموع لا يعترف بفردية الفرد: “وبقيت مثل السيف فرداً” بعبارة الشاعر عمرو بن معد يكرب الزبيدي. بهذا المعنى، لم يكن التوحيدي إماماً، ولم يكن لديه مريدون يرددون أقواله عندما يُختطف فيأتي إليه القول صافياً مقطراً، بل كان يكدح في الكتابة التي أدرك كم هي مهنة صعبة أن تقول أفكاراً بدرجة من الوضوح، تسمح للعامة والخاصة بأن يفهموا مراميها، وإلى ذلك لم يكن صاحب طريقة في التصوف كابن عربي أو المتصوفة المتأخرين الذين لا تزال أسماؤهم تحملها عائلات عريقة في برَّيْ الشام ومصر حتى يوم الناس هذا. كان مثقفاً بغدادياً موسوعياً، أتاحت له مهنته في الوراقة أنْ يغطي عورة الفقر الأبدي، الذي ورثه عن أبيه، ولازمه إلى الممات، برداء سميك من المعرفة. القيمة المعرفية والأرجح أن القيمة المعرفية لهذا الكتاب: “الإشارات الإلهية”، الصادر عن دار الثقافة – بيروت العام 1973، تتمثل في أنه الأول من نوعه الذي يستفيد فيه مثقف عربي من لغة المتصوفة أكثر من أساليبهم ومن تقنيات القول أكثر من القول نفسه أيضاً. على المستوى اللغوي يبدو أن التوحيدي كان مشبعاً بشعرية اللغة لدى المتصوفة، وهي لغة بدورها استفادت من تقنية الحلم أو المنام، ومن منطقه الخاص، حيث يُلغى الزمان والمكان معاً، وحيث الشعر مقولاً بالنثر: “إنّما هو رَقْدةٌ كالحلم، أو حلم كاللمح” أو “قد يكونُ الشخصُ ولا ظلّ” أو عندما يتحد عن الغريب في أهله: “خوفه وطن”. أيضا استخدام التشبيهات والاستعارات لإحداث نوع من الاختزال القائم على الإشارة بالفعل لا على الغموض والإبهام. مثلاً، عندما يتوجه التوحيدي بالخطاب إلى مَنْ يتوجه به إليه، أي “يا هذا” يقول: “لا يُجادُ لنا بعزاء، ولا يُفاضُ علينا صبر، حتى كأن الذنبَ كلُّه ذنبنا، وحتى كأنّا شقينا بنا، وحُرِمْنا منّا، أو بُدِّلْنا عنّا”. تُرى كم يسيل من الحبر لو أراد المرء أن يشرح الجمل الثلاث الأخيرة من هذه الاقتطاعة من حديث التوحيدي إلى نفسه وإلى “أناه” الآخر إذ يشكو زمانه وأهل زمانه إلى لا أحد تقريباً، هكذا تصبح الإشارة والإلماح حديث الذات مع ذاتها بالمناجاة والمجاهرة والإفصاح، وكأنّ هذين الأسلوبين المتجاورين في الكتابة هما وجها عملة واحدة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©