السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

استراتيجية التأني...

استراتيجية التأني...
13 يوليو 2011 19:08
يؤكد المؤلف الفرنسي جيل فانشلستاين Gilles Finchelstein وهو عالم اجتماع في كتابه: “دكتارتورية العجلة” La dictature de l’urgence إن المجتمع أصبح يعيش تحت سيطرة السرعة المفرطة، وحاول الكاتب أن يثبت ذلك من خلال أمثلة عديدة ومتنوعة حتى وصل الى حد طريقة الأكل، والعلاقة مع مائدة الطعام، مستنتجاً بالنسبة للمجتمع الفرنسي أن الزمن المخصص لإعداد الطعام مثلًا حاليا قد تقلص بنسبة 25 في المائة مقارنة بعام 1988، والمثال الثاني الذي اختاره هو مجال الصحة، فقد قفز عدد المواطنين الين يلجؤون إلى خدمات الطب الاستعجالي من 7 إلى 18 مليون فرنسي بين 1990 و2008، وكذلك الأمر نفسه بالنسبة للموضة، فالناس أصبحوا أكثر ميلًا لاستبدال ملابسهم بأخرى جديدة بمعدل أسرع من ذي قبل. وحلل المؤلف علاقة الإنسان بالسرعة من خلال علاقته بالإعلام، فالمقالات أصبحت قصيرة وكذلك نشرات الأخبار. ولا يقف جيل فانشلستاين عند حد تعداد مثل هذه الأمثلة المذكورة، بل إنه حاول البحث في الأسباب وفي انعكاسات هذا النمط السريع من الحياة، مؤكداً أن أعلى نسبة من الانتحار في أوروبا الغربية هي في فرنسا التي جاء ترتيبها مباشرة بعد فنلندا. وهو يرى أن هذه النسبة المرتفعة مرتبطة بالضغط النفسي المرتبط بدوره بالسرعة المجنونة لنمط الحياة. ويجزم المؤلف في كتابه بأن العولمة قد أحدثت شرخاً في النسيج الاجتماعي الفرنسي. الأسلوب البرقي ويؤكد الكاتب أن الأسلوب البرقي في الحياة العامة قد انعكس أيضاً في مجال الحياة السياسية، ويتجلى ذلك من خلال تواتر الأزمات وسرعة ظهورها والإجراءات السريعة التي يتم اتخاذها في محاولة لإخماد تلك الأزمات، فالسياسة أصبحت منكبة على الحاضر، مما يجعلها عمياء إزاء المستقبل، فالسياسة أصبحت تهتم بالآني وتحاول أن تعالج مشاكل اللحظة الراهنة، وحتى القوانين تنعكس سلباً على البلاد والعباد، إذ غابت النظرة بعيدة المدى عند سنها وتشريعها. ويدعو المؤلف إلى الخروج من مأزق الخضوع لدكتاتورية الآني الاستعجالي، معترفاً بأنه أمر صعب، وهو يلح على ضرورة التأني في سن القوانين، وإلى التأني أيضاً في اتخاذ القرارات، والتأني في أسلوب الحياة عموماً، لأنه يرى في هذه “العجلة” التي تسير بها حياة الفرد والجماعة وتيرة مضرة لبلاده، جازماً بأن عواقب هذا النمط هي عواقب وخيمة. واللافت للانتباه أن الكاتب يسيّس المسألة التي يطرحها، إذ لاحظ وجود صلة بين هذا الأسلوب “المستعجل” وبين شخصية الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي الذي قال عنه إنه “يضيف السرعة إلى السرعة” دون جدوى. والمؤلف يريد أن يعطي مفهوماً مختلفاً للزمن داعياً إلى التخلي عن القول بـ”ترك الزمن... للزمن” وهو في كامل فصول كتابه يدعو إلى كسر رمزية اللحظة الراهنة لفائدة الماضي وخاصة لفائدة المستقبل. والكتاب يأخذنا في رحلة الى ما يصر المؤلف على تسميته بدكتاتورية الاستعجالي كاشفاً عن حقائق تتجاوز ما يمكن للقارئ أن يتصوره، مبيناً وشارحاً أن “عبادة” اللحظة والخضوع الى منطق السرعة غيرت نمط حياة الناس وشخصياتهم في تعاملهم مع الأكل والصحة وحتى الترفيه، وكذلك في العمل الذي أصبح مكبلاً ومقيداً ومرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمفهوم المردودية والجدوى والإنتاجية. ويحلل الكتاب العلاقة المستجدة مع الزمن باعتبارها إحدى السلبيات المتسببة في الأمراض الاجتماعية والنفسية التي تعاني منها المجتمعات الغربية خاصة، مما جعلها تحت ضغط دائم ومستمر، ويذهب المؤلف الى حد الجزم بأن هذا النمط الاستعجالي قد يلحق أضراراً فادحة بالأجيال المقبلة، وهي أضرار يرى أنها قد تفوق مخاطر المديونية او الانحباس الحراري. الحلول الفردية والجماعية ولا يكتفي المؤلف بتشخيص الداء بل إنه يقدم تصوره للحلول وهو يتساءل: إذن ما العمل؟ هل يمكن معالجة السرعة بالسرعة نفسها على غرار ما يفعله الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي هو دائماً مسرع في خطبه وفي سياسته وفي قراراته، وفي معالجته للأزمات؟ والمؤلف الذي يبدو ناقداً لهذا الاسلوب الذي يتبعه الرئيس يدعو الى التفكير في المستقبل عوض الاكتفاء بالتفكير في الحاضر. يعرض جيل فانشلستاين نظرية جمعية فرنسية تدعو الى الأناة، وهو يرى أن تمشي هذه الجمعية قد يمثل حلًا فردياً. لكنه قد يكون هو أيضاً مضراً كحل جماعي، إذ يدعو أتباع هده النظرية الى الحد والتقليص من نسب النمو. والمؤلف هو من دعاة طريقة ثالثة قوامها الحد من السرعة وخاصة لدى السياسيين الذين يدعوهم الى تفكير أعمق وأكثر تركيزا، مؤكداً أن المهم هو المعنى الذي نعطيه للزمن مع إيلاء أهمية للماضي وللتاريخ وضرورة تعلم التخطيط لآفاق المستقبل. والمؤلف جيل فانشلستاين هو مدير عام مؤسسة “جون جوراس” التي هي مخبر للأفكار لليسار الفرنسي، وهذا ما يفسر “تسييس” كتابه ونقده اللاذع لسياسة نيكولا ساركوزي اليمينية، بل المؤلف كان يحرر الخطب لبيار موروا وهو أول رئيس حكومة اشتراكي في عهد فرانسوا ميتران، واللافت أيضاً أن المؤلف عمل 15 عاماً مستشاراً لدى دومينيك ستروس ـ كان عندما كان وزيراً في الحكومة الاشتركية، وهو مدير البنك الدولي السابق، والمرشح المحتمل لانتخابات رئاسة الجمهورية الفرنسية، والمتورط حالياً في قضية تحرش جنسي مع عاملة في فندق بنيويورك. والمؤلف يكرر في كتابه أكثر من مرة قوله: “إن لا يفعل المرء شيئاً ولو لمدة محددة أمر لا يمكن تصوره، في حين أصبح أمراً عادياً ومقبولًا أن يفعل المرء أشياء كثيرة في نفس الوقت”، وهو بذلك يستشهد على تمكن ديكتاتورية العجلة في نفوس أكثر الناس. ويبدو أن مدير البنك الدولي السابق استفاد من استشارات المؤلف وطبق هذه النصيحة في مجال مختلف طبعاً عما قصده المؤلف!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©