الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أكذوبة العزلة

أكذوبة العزلة
1 فبراير 2017 17:52
اعتبر الكاتب (حسين قاسم العزيز في كتابه: موجز تاريخ العرب والإسلام، ص 7) تاريخ شبه الجزيرة العربيّة قبل الإسلام ذا أهمّيّة خاصّة، وإن أوجد في نفوس بعض الباحثين تهيّباً مِن الخوض فيه لبُعد غوره وقّلة تسليط الأضواء الفاحصة والكاشفة على ثغراته الواسعة المعتمة وما أكثرها في مسيرته الطّويلة. ونحن ومع هذه الهيبة القديمة التي كانت موجودة مع قلّة الكشف الآثاري وندرة المتخصّصين في دراسات النّقوش والباحثين في التّاريخ القديم فإنّنا نرى الآن مِن الواجب على الباحثين والمتخصّصين دراسة هذه الفترة السّابقة للإسلام مع طولها وتعقّدها وتداخلها. ممّا لا شكّ فيه أن فترة التّاريخ القديم لشبه الجزيرة العربية هي أطول العصور التّاريخيّة والحقب الزّمنيّة التي مرّت بالمنطقة منذ الألف السّادس قبل الميلاد إلى القرن السّابع الميلادي. وهي في الوقت نفسه مِن أكثر المدد والعُصُر إهمالاً مِن قِبل الباحثين والمتخصّصين الخليجيّين. كما أنّها فترة متشعّبة ويكتنفها الغموض في بعض فتراتها وتتخلّلها حقب مظلمة. مصادر متنوّعة تعتمد هذه الفترة كثيراً في مصادرها على المعثورات الآثاريّة والكتابات والنّقوش المحلّيّة والإقليميّة والمصادر اليونانيّة واللاتينيّة والسّريانيّة وبالتّالي تتطلّب جهداً مضاعفاً في البحث والتّمحيص والدّراسة. وبما أنّ الآثار هي أهمّ مصادر الحقبة القديمة فهي تعتمد على مستكشفات فِرق التّنقيب ذات الغالبيّة الأجنبيّة. كما أنّ العديد مِن تقارير البحث الآثاري لا تزال قيد الكتابة لم تنشر بعد، وبعضها مكتوب بلغات أجنبيّة متعدّدة فهي بالتّالي لا تعتمد على لغة بحثيّة موحّدة. ومِن هنا يعتري البطء ميدان البحث في التّاريخ القديم للمنطقة. ومع ذلك فإنّ الكشف الآثاري الرّاهن قدّم إلينا معلومات قيّمة عن النّشاط الحضاري والمدني في المنطقة يستطيع الباحث مِن خلاله تشكيل رؤية متكاملة أو على الأقلّ شبه متكاملة عن أغلب العُصُر الزّمنيّة القديمة. أهمّية العلاقات مع الخارج ومِن هذا المنطلق أيضاً يهتمّ كثير مِن الباحثين والدّارسين لتاريخ شبه الجزيرة العربية بالعلاقات التّاريخيّة بينها وبين الشّعوب والدّول والممالك المجاورة والبعيدة التي تأثّرت وأثّرت في المنطقة، وحدث بين الجانبين صلات ذات جوانب سياسيّة أو عسكريّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة أو ملاحيّة متنوّعة ومتعدّدة. ومهما اختلفتْ هذه الصّلات وتفاوتَتْ قوّة وضعفاً فإنّها تثبتْ الحضور التّاريخي المتواصل لشبه الجزيرة العربيّة في الأزمنة الغابرة. وبخطوات متسارعة ورؤى عامّة بلغتْ منطقة شبه الجزيرة العربية شأواً عظيماً في الاهتمامات الدّوليّة في شتّى الجوانب السّياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة والعلميّة والثّقافيّة والآثاريّة لتؤكّد أهمّيّة هذه المنطقة عبر العصور. هذه الأهمّيّة ظلّتْ ملازمة لها مهما اعتراها مِن ضعف في بعض الأحيان، ولكنّها لا تختفي أبداً مما يجعلها من أكثر مناطق العالم تأثيراً وجذباً. العلاقات مع المحيط أمّا فيما يخصّ العلائق مع القوى المحيطة والقريبة والبعيدة فهي ميدان خصب للبحث والدّراسة ومنذ البروز الحضاري لبلاد الرّافدين فقد تواصل السّومريّون والأكاديّون والبابليّون والآشوريّون والكلدانيّون مع حضارَتَي ديلمون وماجان وحضارات شبه الجزيرة العربية الأخرى، كما نشأتْ بين منطقة الخليج العربي خصوصاً وبلاد الرّافدين علاقات يغلب عليها الطّابع الاقتصاديّ. ثمّ ظهرتْ في المنطقة ممالك محلّيّة امتدّت مِن شماليّ شبه الجزيرة العربية إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها حيث اشتهرت ممالك أو حضارات أو مدن ميسان، والجرهاء، وعمانا، وتيماء، ومدين، ودومة الجندل، ومدن إقليم الحجاز، وممالك اليمن الكبرى ثمّ حضارات المدن الكبرى مثل البتراء وتدمر ثم ما تلا ذلك من ممالك الأطراف العربية في العراق والشام وبروز مدينتي الحيرة وبُصرى. واحتلّتْ المنطقة مكاناً عالياً في سياسات ومخطّطات الإسكندر الكبير وخلفائه السّلوقيّين والبطالمة وتعرّف أهلها إلى ملوك وشعوب مِن خارج الإطار الجغرافي لبلاد الشّرق الأدنى. أمّا الفرس فيعتبرون مِن أكثر الشّعوب التي اتّصلت بمنطقة الخليج العربي خصوصاً وبشبه الجزيرة العربيّة عموماً، وامتدتْ صلاتها بهم زمنيّاً منذ مجيء الفرس إلى الهضبة الإيرانيّة وبروز أولى الممالك الفارسيّة في إيران وهي الأخمينيّة في القرن الخامس ق.م. ثم الپارثيّة وأخيراً السّاسانيّة إلى سقوطها في القرن السّابع الميلادي. وفي أثناء ذلك حاول الرّومان الوصول إلى بلاد العرب أثناء فترة الصّراع مع الپارثيّين ولكنّها محاولات متقطّعة وغير مستمرّة وتعاني خللاً في التّواصل السّياسي والعسكري على الرّغم مِن أنّ كثيراً مِن السّلع والبضائع الآسيويّة والهنديّة كانت تصل حوض البحر المتوسّط عبر الخليج العربي والبحر الأحمر مما جعلهما ضمن دائرة الاهتمام الرّوماني. وبعد تأسيس القسطنطينيّة ونشوء الإمبراطوريّة البيزنطيّة حدث نوع مِن القرب المكاني والاهتمام السّياسي والاقتصادي بعموم بلاد الشّرق الأدنى التي دخلتْ بطبيعة الحال في أتون التّنافس بين القوّتين العظميين آنذاك فارس وبيزنطة. وأضحتْ لكلّ منطقة مِن مناطق الشّرق أهمّيّة خاصّة لدى القوّتين. ومِن هنا انبثق ما يُعرف بالسّياسة الدّوليّة العالميّة التي لعب فيها البيزنطيّون والسّاسانيّون أدواراً متباينة أحياناً ومتوافقة في أحيانٍ أخرى. وقد شملتْ هذه السّياسة ميادين السّلطة وبسط النّفوذ والاقتصاد والملاحة ونال الجانب العسكري تركيزاً كبيراً في أتون الصّراع بين فارس وبيزنطة. وقد أدّى كلّ ذلك إلى بروز علاقات شبه الجزيرة العربية بعالَم حوض البحر المتوسّط وتبيان الدّور الاقتصادي لها، كما اتضحت الأهمّيّة الملاحيّة للخليج العربي، والبحر الأحمر، ودورهما في التواصل بين الشّرق والغرب. كما تبيّن دور المنطقة كمنفذ للسّلع والبضائع الآسيويّة إلى الغرب، وأثرها في النّشاط الاقتصادي والسّياسي والعسكري والملاحي في عموم بلاد الشرق الأدنى. استمراريّة وتواصل استمرّت الأهمّيّة الملاحيّة والاقتصاديّة للمنطقة في كلّ العُصُر تنتقل مِن جيل إلى جيل، تزداد انتعاشاً وازدهاراً حتّى أزفتْ الحقبة السابقة للإسلام التي ازدهر فيها النّشاط الملاحي والاقتصادي وزاد فيها تأثيرهما في السّياسة الدّوليّة والتّحوّلات الاقتصاديّة والتحرّكات الاجتماعيّة بين القرنين الثّالث والسّابع الميلاديّين، وكان للحالة الملاحيّة تأثير خاصّ مِن حيث إبحار السّفن وتواصلها مع الشّرق ونقلها السّلع والبضائع الهنديّة والآسيويّة وغيرها وتَواصُل المنطقة عبر موانئها ومرافئها السّاحليّة ومدنها وبلداتها الدّاخليّة وأسواقها الإقليميّة والعالميّة. وشرحاً للحالة الاقتصاديّة مِن حيث طبيعة التّجارة البحريّة والبرّيّة وأنواع السّلع والمنتجات المحلّيّة والمستوردة وتجارة الترانزيت والأسواق في المدن السّاحليّة والبلدات الدّاخليّة التي نشأتْ بينها شبكة مِن المواصلات أنعشتها سفن البحر وقوافل البرّ وموانئ ومرافئ ومدن وبلدات. وبطبيعة الحال فإنّ النّشاط التّجاري قد عمّ بلاد العرب وانخرط فيه كثير مِنهم وبالذّات أهالي مكّة الذين امتدّت تعاملاتهم إلى الشّام والعراق واليمن وإقليمَي البحرين وعمان. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الحركة النّشطة قد ربطتْ بين أنحاء شبه الجزيرة العربيّة ووحّدت بين أهاليها اقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً. الميدان الثقافي كانت بلاد العرب على تواصل اقتصادي وثقافي وحضاري مستمرّ مع العالَم الخارجي يدلّ على تميّز موقعها ومشاركة أهلها في الحراك الحضاري عبر العصور. وكانت التجارة بالذّات العنصر المهم في نشأة الممالك والحضارات في بلاد العرب. على الرغم مِن أنّ البعض يرى أنّ أغلب بلاد العرب كانت تعيش في عزلة وتخلّف وبداوة عدا الشريط الساحلي اليمني. وفي اعتقادي أنّ ما وُصفت به بلاد العرب مِن العزلة هو أمر نسبي. وهذا الموقع المتميّز لشبه الجزيرة العربية جعل أهلها في تفاعل مستمرّ مع الحضارات المجاورة عبر نشاطاتهم المختلفة مع هذه المراكز الحضارية حيث مثّلت بلادهم محطّة الاجتياز الرئيسة. وهذا الأمر أكّد أنّ شبه الجزيرة العربية لم تكن في معزل عن العالم الخارجي وإنّما عاشت تاريخاً طويلاً مليئاً بالأحداث شديد التفاعل وتدلّ على ذلك أعمال التنقيب والمسح المتواصلة للآثاريّيْن التي أبرزت الكثير مِن مخلّفات وآثار تلك الأحداث. ولِما شبه الجزيرة العربية مِن سواحل طويلة فإنّها قد أثّرت كثيراً في قاطنيها الذين اتّجهوا إلى البحار ليقوموا بدورهم الملاحي المتميّز. وبفضل التواصل التجاري بين العرب وبين غيرهم مِن الأمم والشعوب تهيّأ لهم مجالاً واسعاً للتبادل الفكري والثقافي. وأصبحت لهم شهرة كبيرة وذاع صيتهم عند الأمم الأخرى. الموقع المتوسّط وصراع القوى في كثير مِن فترات تاريخها توسّطت شبه الجزيرة العربية قوى إقليمية متنافسة تسعى لتحقيق مصالحها الخاصّة بها مما جعلها تدور في أتون هذا الصراع بين الدول القوية القريبة مِنها التي سعت إلى فرض نفوذها ومدّ سلطانها على المنطقة بهدف التأثير في سياسة واقتصاد الدولة الأخرى المنافسة لها. واتّضح ذلك جليّاً في التنافس والصراع السلوقي البطلمي وفي الصراع والتنافس الپارثي الروماني وفي النزاع الساساني الروماني ثم البيزنطي. وكما قال أحد المؤرخين: «إنّ أعظم ما هيمن على كلّ تاريخ آسيا القديمة في العصور الغابرة هو المجابهة بين الحضارة اليونانية/الرومانية وإيران، تلك المجابهة التي كانت موضوع الصراع الأكبر في هذه البلاد بين الشرق والغرب»، وقال آخر: «إنّ الصراع بين الأمم والممالك والشعوب سيظلّ العامل المحرّك لكثير مِن الأحداث التاريخية في كلّ العصور». وعادة ما يقوم الصراع والتنافس بين الأمم الكبرى على مبدأيْن: الأوّل: الصراع مِن أجل البقاء. والثاني: الصراع مِن أجل فرض النفوذ على المناطق الحيوية بدعوى تحقيق الأمن بأنواعه المختلفة. وكانت البحار مِن أهم المناطق التي تسعى القوى الكبرى إلى فرض سلطانها عليها لأنّ البحار، بصورة عامّة، كانت في العصور الماضية أقدم الطرق بين الأمم والشعوب وأيسرها في تحقّق السيطرة عليها وتأمينها اقتصاديّاً وعسكريّاً. وغالباً ما يدور الصراع على البحار الرائدة والنشطة والمتحرّكة. وقد تأثّرت شبه الجزيرة العربية بذلك التدافع لوقوع سواحلها على أحد أكثر بحار العالم حركة ونشاطاً وهي الخليج العربي والبحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب. وقد بقيت هذه البحار بؤرة الاهتمام العالمي القديم بين طرَفَيّ النزاع في شرقي وغربي بلاد الشرق الأدنى. وإنّ النشاط التجاري عبر بلاد العرب كان يعتمد إلى حدّ كبير على وجود قوى كبرى خارجية مهتمّة بحركة التجارة وقادرة على فرض السلام فيها والسيطرة على منافذها. ومع الاعتقاد بصحّة بعض هذه الطروحات والآراء فإنّ كثيراً مِن المؤرخين والكتّاب بالغوا في تصوير هذا الصراع بين القوى العظمى في بلاد الشرق الأدنى. وفي الوقت نفسه قدّموا تصوّرات خاطئة أنّ ظهور شأن الخليج العربي وعلوّ مكانته لا يتمّ إلا بضعف دور البحر الأحمر وتوقّف أو كساد حركته. والعكس صحيح مِن وجهة نظرهم. وذلك نتيجة لقوّة إحدى الممالك المسيطرة على أحد هذين المَنْفَذيْن المهمّيْن. وكأنّ أهالي المنطقة وممالكها لم يكن لهم دور في صناعة الأحداث وتسيير أمور الاقتصاد والعمل على الحراك التّجاري والسياسي في بلاد العرب. الطّرق التّجاريّة البحريّة والبرّيّة أضحتْ الممرّات المائيّة الحيويّة التي تحيط بشبه الجزيرة العربيّة موضعاً للصّراع بين الدّولتين العظميين آنذاك وهما: فارس وبيزنطة. وكان تفوّق بلاد الشّرق بصورة عامّة في ميدانَي التّجارة والصّناعة ومواد الإنتاج وشبكة المواصلات مطمعاً للقوى المجاورة للسّيطرة عليها. وكان الطّريق البحري عبر الخليج العربي يعدّ مِن الطّرق الملاحيّة الرئيسة في بلاد العرب. وعبر عصور طويلة كان لشبه الجزيرة العربية منفذان بحريان مهمان هما الخليج العربي والبحر الأحمر اللذان يعتبران أيضاً ذراعين بحريين للمحيط الهندي. فالخليج يعدّ المنفذ البحري الوحيد الذي يوصّل العراق بالشرق، وهو خطّ الملاحة المهم إلى الهند مما جعل له تأثيراً في سياسة واقتصاد المنطقة عبر العصور. وهو الخطّ الملاحي الشمالي الشرقي لشبه الجزيرة العربية حيث تتّصل عن طريقه بالهند والشرق الأقصى. والبحر الأحمر هو المنفذ الوحيد القديم لمصر ومنطقة البحر المتوسّط نحو الشرق وشبه القارّة الهندية وشرق أفريقيا. إشارات قرآنيّة إلى الملاحة البحريّة إذا أردنا الاستشهاد بالآيات القرآنية الكريمة على عمق تواصُل العرب بالبحر ومعرفتهم بالملاحة والسفر في أعالي البحار والمحيطات. نجد في ذلك قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» (الأنعام: 97). وقوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى? إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَ?ذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ» (يونس: 22). وقوله عزّ وجلّ: « رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا. وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا» (الإسراء: 66-67). وقوله تبارك وتعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ الجَوَارِ فِي البَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ. أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ» (الشورى: 32-34). وعلى الرغم مِن أنّه لم يروِ المفسّرون في هذه الآيات رواية تبيّن سبب نزولها، وهي وإن كانت مُطلَقة التوجيه إلا إنّه مِن المُتَبادر أنّها تخاطب السّامعين لها لأوّل مرّة مِن كفّار مكة وسكّان الحجاز والعرب بصورة عامّة. مما يشير إلى سفرهم في أعالي البحار وركوبهم أمواج المحيطات ومواجهتهم لمصاعب الملاحة وعواصف البحار العاتية. موانئ ومرافئ وطرق كان رأس الخليج عند ميناء الأُبُلّة يتّصل بالعاصمة الفارسيّة طيسفون عبر طريق نهريّ/برّيّ يخترق إقليم خوزستان. وكانت الطّرق التّجّاريّة تربط بين أجزاء شبه الجزيرة العربيّة وقد كمّلت الطّرق البريّة والبحريّة والنّهريّة بعضها بعضاً، وعوّض بعضها عن بعض آخر في أحيانٍ كثيرة. وكان مِن أهمّ الطّرق: الطّريق المنطلق مِن ساحل الخليج العربي إلى مكّة في غربي شبه الجزيرة العربيّة، والطّريق الواصل بين مكّة والعراق. وكان هذان الطّريقان يمرّان عبر أراضي قبيلة تميم، وهو يؤيّد ما كان عليه بعض زعماء تميم مِن ثراء تفاخروا به عندما وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكان لموانئ الخليج ارتباط بالطّريق البحري المتّجه نحو الشّرق، ولأهلها مراكز على السّاحل الغربي للهند وجزيرة سيلان ومرافئ جنوبي شبه الجزيرة العربيّة. وتتّصل البحرين بطريق إلى يثرب. وتوجد شبكة مِن الطّرق البرّيّة الفرعيّة تربط بين مواضع إقليم البحرين بالطّريق القادم من جنوبي العراق عبر الكويت حيث موضع كاظمة فالقطيف ثمّ العقير. ويوجد طريق آخر يمتدّ مِن القطيف إلى الهفوف، ومِن الهفوف إلى اليمامة، ومِن العقير إلى جواثا. ويرتبط إقليم البحرين بطريق مع إقليم عمان يمتدّ مِن منطقة البريمي، وآخر مِن جلفار على طول السّاحل ويلتقي بالأوّل عند جنوبي قطر، وآخر يأتي مِن جنوب شبه الجزيرة العربيّة مبتدئاً مِن مأرب فنجران فالفاو ثمّ ليلى والأفلاج فالهفوف، وهذا الطّريق كان يُعرف بــ «الرّضراض». وفي شبه جزيرة عمان، يمكن تقسيم الطّرق التّجاريّة الدّاخليّة القديمة إلى ما يلي: = طريق يبدأ مِن السّاحل الشّرقي على خليج عمان، ويمتدّ إلى موضع مليحة. = طريق يبدأ مِن صحار ويتّجه صوب واحة البريمي ومنطقة العين حيث يتفرّع إلى فرعين: الأوّل يتّجه غرباً صوب ساحل الخليج العربي، والثّاني يمرّ عبر سفوح جبال الحجر إلى عبري ونزوى ومنها يتفرّع إلى مسقط وظفار وحضرموت. = طريق يبدأ مِن جلفار (رأس الخيمة) ويساحل الخليج إلى موقع الدُّور ومِنه يتّجه جنوباً نحو فلج المعلّا ويتفرّع بعد ذلك إلى فرعين: إلى مليحة وسهل المدام جنوباً، وإلى السّاحل الشرقي عبر موقع البثنة. = طريق برّي مِن مليحة وسهل المدام إلى البريمي وهيلي جنوباً عبر وادي الجزي مِن صحار إلى منطقة البريمي. جنوب شبه الجزيرة العربيّة تتمتّع المنطقة الجنوبية مِن شبه الجزيرة العربية بشيء مِن الاستقرار، وعلوّ المكانة في التاريخ الإنساني بصورة عامّة، وتاريخ العرب قبل الإسلام بصورة خاصّة. ومما ساعد على ذلك الموقع المهم على البحر الأحمر وخليج عدن وبحر العرب والتحكّم في مضيق باب المندب. إضافة إلى وفرة وتنوّع المواد الخام الزراعية والمعدنية، مع سهولة التواصل والاتصال مع العالم الخارجي بحريّاً وبريّاً. وقد جنت المنطقة ثروات طائلة مِن التجارة مع الخارج. وقد احتلّت ممالك جنوب شبه الجزيرة العربية مكانةً عظيمة في تاريخ وآثار ولغات الشرق الأدنى القديم. ويبدو أنّ تحوّل جنوب شبه الجزيرة العربية مِن الأوضاع القبلية إلى تنظيمات الدول المستقرّة استغرق وقتاً طويلاً. ولعلّه بدأ في بعض صُوَره على الأقلّ بنوع مِن التحالف المتساوي بين القبائل ذات المصالح المشتركة والأقاليم المتجاورة والقربى في الدم والنسب. ومع مرور الوقت تغلّبت كفّة فريق على الآخر وأصبح لهذا الفريق الزعامة والقيادة ثم أصبحت السلطة وراثية في عقبه ثم ملكية واسعة النفوذ. واستعانت الزعامة بتعاليم الدين ووجاهة الثراء ونبالة الأصل. كما قال البعض إنّ بلاد اليمن بلغت شأواً عظيماً مِن المدنية والحضارة انتقلت مِنها إلى أرجاء شبه الجزيرة العربية وكل الجهات التي اتّصلوا بأهلها عن طريق الأسفار المنظمة. ومما لا شكّ فيه أنّ العلاقات الثقافية بين حضارات الشرق الأدنى القديم وبين ممالك جنوب شبه الجزيرة العربية كانت قائمة ومزدهرة. وكانت مدن الجنوب تلعب دورين مهمين الأول كونها عواصم وحواضر للدول والممالك والكيانات السياسية العربية الجنوبية. والثاني كونها محطات رئيسة على طرق القوافل التجارية البرية. شمال غرب شبه الجزيرة العربية تعتبر هذه المنطقة مِن أهم مناطق شبه الجزيرة العربية في التواصل مع سوريا ومصر وبلاد الرافدين إذ كانت ميداناً للعديد مِن طرق المواصلات وطرق القوافل. ونشأت فيها مجموعة مِن الممالك العربية التي ساهمت في ازدهار التجارة والتبادل الثقافي مع الشمال والجنوب. إشارات نبويّة للعلائق التجارية يمكننا الاستنتاج من عدد من الأحاديث النّبويّة الشريفة تلك العلاقات المتواصلة بين بلاد العرب المعتمدة على الجانب التّجاري منذ ما قبل الإسلام. كما يتبيّن من روايات الأحاديث أنّ النّبيّ عليه الصّلاة والسّلام والقرشيّين والحجازيّين بصورة عامّة كانوا على معرفة بديار التّجارة وبترامي أطراف بلاد العرب إذ يقول صلوات الله وسلامه عليه: «والذي نفس يد محمّد بيده، إنّ ما بين المصراعين مِن مصارع الجنّة لَكَمَا بين مكّة وهجر، أو كَمَا بين مكّة وبُصرى»، وقد قيل هذا الحديث في أحد المواقف بين أناس يعلمون المسافات بين هذه المواضع الثّلاثة إمّا قد سبق لهم السّفر بينها أو على الأقل السّماع عنها، ونلاحظ هنا التّحديد وأنّ المستمعين على علم بما يقال لهم. وفي رواية عند البخاري: «كما بين مكّة وحمير أو كَما بين مكّة وبُصرى»، وفي رواية: قال صلّى الله عليه وسلّم: «فيه ميزابان أحدهما مِن وَرِق والآخر مِن ذهب ما بين بُصرى وصنعاء أو ما بين صنعاء والمدينة أو ما بين أيلة ومكة أو كَمَا بين أيلة إلى الجُحفة أو قال مِن مقامي هذا إلى عُمان أو عمّان أو ما بين أيلة إلى عُمان»، وقوله عليه الصّلاة والسّلام: «الظّعينة ترتحل مِن الحيرة حتى تطوف بالكعبة»، وفي رواية: أنّ «الظّعينة ترحل مِن الحيرة بغير جوار حتى تطوف بالبيت»، وفي رواية: «حتى تخرج الظّعينة مِن الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد»، وفي رواية: «حتى تسير الظّعينة مِن الحجاز إلى العراق آمنة لا تخاف شيئاً»، كما يُفهَم من هذه الرّوايات، وكلّها صحيحة، هي الإشارات والملامح الجغرافيّة وبيان أبعاد المسافات بين أجزاء بلاد العرب، وهي نفسها المسافات التي تقطعها القوافل بمعنى أنّ المستمعين من الصّحابة رضي الله عنهم كانوا على علم بهذه المسافات لأنّ بعضهم أو أغلبهم قد سبق له وأن سافر وارتحل من الحجاز إلى عُمان، ومن عُمان إلى عمّان، ومن اليمن إلى الشّام، ومن العراق إلى الحجاز، ومن البحرين إلى الحجاز. ومن الملاحظ أيضاً أنّ هذه التّحديدات تشمل جميع اتّجاهات بلاد العرب، وفي الوقت نفسه هي ملمح إلى التّواصل فيما بينها، ويكفي الإشارة النّبويّة إلى عُمان بمعنى أهلها والرّاحلين منها وإليها. صراع القُوى في كثير مِن فترات تاريخها توسّطت شبه الجزيرة العربية قوى إقليمية متنافسة، تسعى لتحقيق مصالحها الخاصّة بها، مما جعلها تدور في أتون هذا الصراع بين الدول القوية القريبة مِنها التي سعت إلى فرض نفوذها ومدّ سلطانها على المنطقة؛ بهدف التأثير على سياسة واقتصاد الدولة الأخرى المنافسة لها. واتّضح ذلك جليّاً في التنافس والصراع السلوقي البطلمي وفي الصراع والتنافس الپارثي الروماني وفي النزاع الساساني الروماني ثم البيزنطي. وكما قال أحد المؤرخين: «إنّ أعظم ما هيمن على كلّ تاريخ آسيا القديمة في العصور الغابرة هو المجابهة بين الحضارة اليونانية/الرومانية وإيران، تلك المجابهة التي كانت موضوع الصراع الأكبر في هذه البلاد بين الشرق والغرب». الأطول والأكثر إهمالاً فترة التّاريخ القديم لشبه الجزيرة العربية هي أطول العصور التّاريخيّة والحقب الزّمنيّة التي مرّت بالمنطقة منذ الألف السّادسة قبل الميلاد إلى القرن السّابع الميلادي. وهي في الوقت نفسه مِن أكثر المدد والعصور إهمالاً مِن قِبل الباحثين والمتخصّصين الخليجيّين. كما أنّها فترة متشعّبة ويكتنفها الغموض في بعض فتراتها وتتخلّلها حقب مظلمة. أهمية اقتصادية تاريخية بعد تأسيس القسطنطينيّة ونشوء الإمبراطوريّة البيزنطيّة حدث نوع مِن القرب المكاني والاهتمام السّياسي والاقتصادي بعموم بلاد الشّرق الأدنى التي دخلتْ بطبيعة الحال في أتون التّنافس بين القوّتين العظميين آنذاك فارس وبيزنطة. وأضحتْ لكلّ منطقة مِن مناطق الشّرق أهمّيّة خاصّة لدى القوّتين. ومِن هنا انبثقتْ ما يُعرف بالسّياسة الدّوليّة العالميّة التي لعب فيها البيزنطيّون والسّاسانيّون أدواراً متباينة أحياناً ومتوافقة في أحيانٍ أخرى. وقد شملتْ هذه السّياسة ميادين السّلطة وبسط النّفوذ والاقتصاد والملاحة، ونال الجانب العسكري تركيزاً كبيراً في أتون الصّراع بين فارس وبيزنطة. وقد أدّى كلّ ذلك إلى بروز علاقات شبه الجزيرة العربية بعالَم حوض البحر المتوسّط وتبيان الدّور الاقتصادي لها، كما اتضحت الأهمّيّة الملاحيّة للخليج العربي، والبحر الأحمر، ودورهما في التواصل بين الشّرق والغرب. كما تبيّن دور المنطقة كمنفذ للسّلع والبضائع الآسيويّة إلى الغرب، وأثرها في النّشاط الاقتصادي والسّياسي والعسكري والملاحي في عموم بلاد الشرق الأدنى. ممالك وحضارات ظهرتْ في المنطقة ممالك محلّيّة امتدّت مِن شماليّ شبه الجزيرة العربية إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، حيث اشتهرت ممالك أو حضارات أو مدن ميسان، والجرهاء، وعمانا، وتيماء، ومدين، ودومة الجندل، ومدن إقليم الحجاز، وممالك اليمن الكبرى ثمّ حضارات المدن الكبرى مثل البتراء وتدمر ثم ما تلا ذلك من ممالك الأطراف العربية في العراق والشام وبروز مدينتي الحيرة وبُصرى. واحتلّتْ المنطقة مكانة عالية في سياسات ومخطّطات الإسكندر الكبير وخلفائه السّلوقيّين والبطالمة، وتعرّف أهلها إلى ملوك وشعوب مِن خارج الإطار الجغرافي لبلاد الشّرق الأدنى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©