السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمَّد حلمي الرَّيشة: القاتلُ لاَ يقرأُ الشِّعرَ!

محمَّد حلمي الرَّيشة: القاتلُ لاَ يقرأُ الشِّعرَ!
13 يوليو 2011 19:05
شاعر جميل، ومميز في لغته التي تصيبك بمتعة قريبة إلى الانبهار.. إنه “شعريار” القصيدة التي تكتبه قبل أن يكتبها، وتبوح بأسراره قبل أن يبوح بأسرارها، حيث تصبح لقصائده طعم الدهشة والفرح والحزن والفقد والحنين.. في هذا الحوار الخاص، يتحدث الشاعر محمد حلمي الريشة عن الكتابة، عن القصيدة، عن الحلم تمامًا كما يقول على لسان لويز جيليك: “لَم أَكُنْ يومًا ممَّن يشعرونَ بضرورةِ توسيعِ قاعدةِ قرَّاءِ الشَّعرِ، فأَنا أَشعرُ أَنَّ مَن يحتاجونَ الشِّعرَ يجدُونهُ”... محمَّد نور الدَّين لو طلبت منك أن تقدم محمد حلمي الريشة للقارئ، ماذا ستقول عنه؟ ? توقَّفتُ طويلاً أَمامَ هذَا السُّؤالِ! أَقرأُهُ ثمَّ أَعبرهُ تاركًا إِيَّاهُ فارغًا! جملٌ كثيرةٌ تمرُّ فِي اتِّجاهاتٍ أَكثرَ لدرجةِ الاحتكاكِ فِيما بَينها! أَذهبُ إِلى مرآةٍ فأَرى شخصًا آخرَ يطلبُ منِّي أَن أُخرجَهُ منْ أَسرِ ماءِ الفضَّةِ، فأَبتعدُ عَنهما إِلى لاَ أَعرفُ! أَتمشَّى بخطواتٍ حرَّةٍ، لكنَّها فِي قفصٍ كبيرٍ! ثمَّ أَصرخُ في داخلِي المرهَقِ/ المرهِقِ: كيفَ لَو كانَ الإِنسانُ بلاَ مخيلةٍ ولاَ ذاكرةٍ! وأَسأَلُني: هلْ لَو فقدتُ الحواسَّ كلَّها، أَكانَتا تَكفيانَني؟ أَصحُو منْ غفلةِ سؤَالي علَى صوتٍ مُواربٍ قادمٍ منْ جهةِ المرآةِ: أَنا حواسُّ متأَجِّجةٌ بأَكثرَ منْ عددِها، ومخيلةٌ سماويَّةٌ دائمةُ الإِبراقِ تخترقُ سوادَ تلبُّدِ الحياةِ، وذاكرةٌ جشعةٌ لاَ تمتلئُ ولا تغلقُ البابَ حتَّى علَى كَنزِها! أَنا شاعرٌ؛ حاولتُ منذُ مَا بعدَ مطلِعي الشِّعريِّ بقليلٍ أَن أَكتبَ الشِّعرَ بالشِّعرِ؛ بدمهِ، وقلبهِ، وروحهِ، وجسدهِ، وبأَن أَفتحَ حتَّى مَا بعدَ الحواسِّ علَى كلِّ شيءٍ، حتَّى أُغيَّرَ مَا بِنَفْسي فيتغيَّرُ مَا بشعرِي؛ تفرُّدًا خاصَّا، ومغايَرةً عنِ الآخرينَ، كضرورةِ اختلافِ إِبداعٍ، ورفضٍ لمعظمِ السَّائدِ الشِّعريِّ (الفِلسطينيِّ خصوصًا آنذاكَ)، لذَا عوقِبتُ بنُكرانِ معظمِ السَّائِدينَ طويلاً، لكنِّي بَقيتُ، ومَا زلتُ، فِي قاربِي الشِّعريِّ الَّذي صنعتُهُ بعيونِي، فَلمْ أَجنحْ لشاطئٍ، ولاَ حتَّى لوَّحتُ لمنارةٍ أَغوتني بأَيدِيها الضَّوئيَّةِ، كمَا فعلتْ معَ كثيرينَ، ثمَّ أَطفأَتهمْ لسببٍ أَعلَمهُ! ? القصيدة، تلك السيدة الاستثنائية كما وصفها نزار قباني.. ماذا تعني بالنسبة لك؟ ? كلُّ قصيدةٍ هيَ حالةُ حبٍّ باعتبارِها الأُنثى الاستثنائيَّةَ، وليسَ السَّيِّدةَ، إِذِ الأُنوثةُ تكمنُ فِي أَشياءِ الحياةِ الكثيرةِ كفعلِ حياةٍ يُصرُّ علَيْها، والَّتي تأْتي شاعرَها بِكرًا دائمًا، ومكسوًّا قلبُها بزغبِ الحنينِ البريءِ، معَ فورانِ نبضٍ متأَجِّجٍ، وارتعاشِ بدنٍ لذيذٍ. لذَا؛ لاَ بدَّ منْ حدوثِ علاقةِ حبٍّ باذخةٍ بينَهما، كأَساسٍ أَوَّليٍّ لإِنشائِهما؛ القصيدةِ والشَّاعرِ، لأَنَّ فِي إِنشاءِ أَيَّةِ قصيدةٍ إِنشاءٌ لشاعرِها، بِمعَنى أَنَّهما ينشآنِ معًا/ يُنشئُ أَحدُهما الآخرَ. هكذَا يَفترضُ الإِبداعُ الشِّعريُّ؛ وجودَ شاعرٍ متعدِّدٍ لأَنَّ قصائدَهُ متعدِّدةٌ. وإِذا لمْ تَقمْ علاقةُ الحبِّ الباذخةُ بينَهما، ولمْ يكنِ الشَّاعرُ شاعرًا متعدِّدًا، فإِنَّ كلَّ قصائدِ الشَّاعرِ قصيدةٌ واحدةٌ بصياغةٍ تناسخيَّةٍ! منْ رُؤيتي هذهِ، فإِنَّ القصيدةَ عنتْ لِي الأُنثى المحبوبةَ العاليةَ فِي كلِّ حالاتِها/ أَشكالِها/ كينونتِها/ وجودِها/ ...، مهمَا كانَ موضوعُ حضورِها، والَّذي قدْ تراهُ فِي امرأَةٍ تحبُّها كمَا تراهُ فِي رجلٍ لاَ تطيقهُ، وقدْ تراهُ فِي ابتسامةٍ ماكرةٍ كمَا تراهُ فِي جرحٍ جميلٍ، وقدْ تراهُ فِي وردةٍ جافَّةٍ كما تراهُ فِي خريفٍ خفيفٍ، وقدْ تراهُ فِي وطنِكَ المسلوبِ كمَا تراهُ فِي جنَّةٍ داخلَ النِّسيانِ/ ...، وهكذَا يفعلُ فعلُ التَّأْنيثِ خصوصيةً وتفرُّدًا وامتيازًا فِي الشَّاعرِ فيَّ، وهكذَا عنتِ القصيدةُ بالنِّسبةِ إِليَّ، أَيضًا، ملاذًا غيرَ آمنٍ منْ سطوةِ النَّجاةِ منَ النَّجاةِ! الخوف والتفاؤل ? داخلَ هاجس الخوف على الرغيف وعلى الحياة، كيف يمكن بناء قصيدة وجعلها سببًا للأمل وقائدة لفكر يتأسس على التفاؤل؟ ? لمْ يَزلْ معظمُ الشُّعراءِ العربِ، وغيرِ العربِ، يعيشونَ هذَا الهاجسَ! هلْ هذَا منْ طبيعةِ تكوينِ الشَّاعرِ، أَم ماذَا؟ أَم أَنَّ هذَا منْ طبيعةِ الآخرِ المعروشِ فوقَ سلطتهِ، أَيًّا كانتْ تلكَ السُّلطة، أَم ماذَا؟ تَقتلُ باشتهاءٍ الأَسئلةُ فِي أَحايينَ كثيرةٍ، علَى الرَّغمِ منْ طبيعةِ الشِّعرِ أَن يطرحَ الأَسئلةَ. يركضُ الشَّاعرُ، وغيرُ الشَّاعرِ، علَى منحدرٍ، خلفَ رغيفٍ مدوَّرٍ بمهارةِ القسوةِ/ مسوَّرٍ بيدِها المانعةِ، حيثُ يَسعى الآخرُ منكَ إِلى إِشغالِكَ بِهذا “الماراثونِ” الَّذي لاَ يَنتهي، خوفًا منْ رونقِ الوعيِ الَّذي فيكَ، والَّذي يشكِّلُ عَدوى جيِّدةً، وضرورةَ حرِّيَّةٍ، ونشيدَ أَنشادِ الخلاصِ، لمنْ تُنادي عليهمْ/ توجِّهُ لهمْ خطابَكَ؛ هذَا النِّداءُ/ الخطابُ يهزُّ الضَّميرَ الجمعيَّ، وقدْ يهزُّ عروشًا، هيَ فِي أَعلاَها أَقفاصُ الآخرِ النَّقيضِ مقامةً لآخرِنا منَّا. هلْ نظلُّ خلفَ ذاكَ الرَّغيفِ الدَّائريِّ يتأَبَّطنُا هاجسٌ مرٌّ وقاسٍ؟ لاَ.. لاَ بدَّ منْ أَن ننشُرَ وعيَ الرُّوحِ، وفكرَ الأَملِ، وجمالَ الإِبداعِ، حتَّى ونحنُ فِي عدْوِنا الَّذي لاَ يَنتهي، والَّذي يَبدو أَنَّ مسارَهُ دائريٌّ أَيضًا. ? لعل ما أعنيه هو، هل تستطيع القصيدة أن تحمي ضحية من القتل؟ أن تحمي شارعًا من البشاعة؟ أن تحمي كائنًا من الضغينة؟ ? بالتَّأْكيدِ لاَ.. ربَّما لأَنَّ القاتلَ لاَ يقرأُ الشِّعرَ! هلْ تتخيَّلُ أَن أَقفَ أَمامَ المحتلِّ/ محتلِّي؛ المُدجَّجِ بالرُّعبِ، والملفوفِ بالخوفِ، والـمُكتسِي بـ”الأَمانِ الـمُمعْدنِ”، كمَا وصفتُهُ فِي إِحدى قصائدِي، أَن أَتلوَ عليهِ قصيدةً، فيتراجعُ مترًا، أَو يؤخِّرُ تصويبَ بندقيَّتهُ نَحوي، أَو...، كذلكَ الحالُ فِي البشاعةِ، والضَّغينةِ، و....! “ليسَ بِوسعِ قصيدةٍ أَنْ تُوقِفَ حربًا، هذَا مَا يُفترَضُ أَن تفعلَهُ الدُّبلوماسيَّةُ، أَمَّا الشِّعرُ فهوَ سفيرٌ مُستقلٌّ يُمثِّلُ الضَّميرَ، وهوَ لاَ يَستجيبُ لأَحدٍ، وهوَ يعبرُ الحدودَ بلاَ جوازِ سَفرٍ، ولاَ يقولُ إِلاَّ الحقَّ، وهذَا هوَ السِّرُ فِي أَنَّهُ- ودَعْكمْ مَّما يُقالُ عنْ هامِشيَّتهِ- واحدٌ منْ أَكثرِ الفُنونِ قُوَّةً” (إِلينْ هِينْسِي). القصيدةُ تعملُ/ تَسعى/ تتأَمَّلُ/ تُنشئُ الجمالَ فِي عرسِ الأَسى، ولَو أَنَّها لاَ تستطيعُ محوَهُ. علَيْها- بمحضِ إِرادتِها- أَن تنتصرَ للحياةِ/ للحريَّةِ/ للعدالةِ/ للإِنسانِ، بأَن تقولَ كلَّ شيءٍ بجدلٍ فنِّيٍّ ضمنَ شعريَّةٍ عاليةٍ. أزمة الشاعر ? قبل عقود، كان الشاعر أشبه بكتيبة تقود جيلاً إلى الوعي، كيف تفسر أن يبتعد أغلب الشعراء عن هذا الدور في وقتنا الراهن؟ ? إِذا وجَّهنا نَظرةً نحوَ الماضِي، فإِنَّنا نَرى الواقعَ غيرَ الواقعِ الآنَ؛ نعرِفُ أَنَّه كانَ فيهِ منْ كلِّ شيءٍ، لكنَّ الأَشياءَ لمْ تكنْ بِهذا الحجمِ منَ الضَّراوةِ، والقسوةِ، والكراهيةِ، والخيانةِ، والعبوديَّةِ، والقتلِ، و...! إِضافةً إِلى المعاناةِ، والقهرِ، واليأْسِ، والاستلابِ، والجنونِ، و...! الآنَ؛ ثَمَّ مَا يمسخُ الإِنسانَ أَكثرَ إِلَى مَا دونَ ذلكَ، والشَّاعرُ يَستشعرُ هذَا، بلْ يعيشهُ، ولكنَّهُ لاَ يستطيعُ أَن يتعايشُ معهُ، وهُنا تكمنُ أَزمتُهُ الدَّائمةُ، وحساسيتهُ الشَّديدةُ، وصدمتهُ القاهرةُ، إِلى درجةِ أَنَّه بَدا/ يَبدو مبتعدًا عنْ الواقعِ الآنيِّ، وكأَنَّه لاَ يشاركُ فيهِ! “الشَّاعرُ الحقُّ لاَ يتوقَّفُ عنِ الرُّؤيا، ومهمَا كانَ بينَ النَّاسِ والأَصحابِ، يَبقى وحيدًا، وحدةَ رجلٍ علَى فراشِ الموتِ”. (شاعرٌ لمْ أَجدْ اسمَهُ علَى هذهِ المقولةِ). لمْ يبتعدِ الشُّعراءُ الحقيقيُّونَ عنْ دورِهمُ الخاصُّ والعامُّ، بلِ الآخرونَ همْ مَنِ افتعلُوا/ فعلُوا هذَا الابتعادِ/ الهروبِ لأَكثرَ منْ سببٍ؛ مِنها مَا هوَ منْ صنيعِ أَيديهمْ، ومِنها مَا هوَ منْ صنيعِ الآخرينَ؛ نعرِفُ أَنَّ الشِّعرَ الإِبداعيَّ الجديدَ ارتقَى بلُغتهِ ومخيلتهِ وتأْويلهِ، ولكنَّ القارئَ العربيَّ لمْ يَبذلْ جهدًا للارتقاءِ إِلى هذَا المُستوى منَ القراءةِ، وظلَّ حاسرًا ذاتهُ فِي خانةِ المتلقِّي (القراءةُ تختلفُ اختلافًا كبيرًا عنِ التَّلقِّي) كمَا تعوَّدَ علَى هذَا منذُ زمنٍ بعيدٍ. مَا يتعلَّقُ بالشُّعراءِ؛ منهمْ مَن استسلمَ لحالَتينِ: الاستسلامُ للسُّلطةِ الثَّقافيَّةِ السَّائدةِ، أَوِ الاستسلامُ للغيابِ/ الصَّمتِ/ التَّماوتِ. ومنهمْ، وهمْ قلَّةٌ، مَن آثرَ البقاءَ فِي حُرقةِ الشِّعرِ المختلِفِ إِخلاصًا لهذَا الإِبداعِ الجميلِ علَى الرَّغمِ منْ قبحِ/ قسوةِ مَا يتعرَّضُ لهُ مِن تهميشٍ/ نفيٍ/ إقصاءٍ. الشَّاعرُ/ المبدعُ الحقيقيُّ يدركُ أَثرَ رقصةِ الفراشةِ حولَ الضَّوءِ بِما يتجاوزهُ إِلى الاحتراقِ الماديِّ والمعنويِّ. ? وأنا أقرأ نصوصك الشعرية، كان يخيّل إلي في كثير من الأحيان أن القصيدة هي التي تكتبك، هل تشعر أنك “متورط” في الشعر إلى هذا الحد؟ ? هذَا مَا قلتهُ/ أَقولهُ، ومَا تبيَّنَ لِي خلالَ سَيْري الشِّعريِّ؛ إِنَّ القصيدةَ الإِبداعيَّةَ هيَ الَّتي تكتبُ شاعرَها! ليسَ هذَا مِن بابِ المجازِ/ التَّهويمِ الفانتازيِّ/ السِّباحةِ فِي بحيرةٍ جافَّةٍ! تصِلُ الحالةُ إِلى مَا هوَ “استبدادُ” القصيدةِ بِي، لكنَّهُ “استبدادٌ” جميلٌ، وتماهٍ عذبٍ فِي بعضِنا البعضِ لدرجةِ أَن لاَ تعرِفَ الشِّعرَ منَ الشَّاعرِ (“كيفَ نعرِفُ الرَّقصَ منَ الرَّاقصِ؟!” و. ب. ييتس)، علَى الرَّغمِ منْ معاناتِها الَّتي كأَنَّها خروجُ الرُّوحِ ببطءٍ كلَّ قصيدةٍ (“خلعُ ضرسٍ أَهونُ منْ كتابةِ بيتٍ منَ الشِّعرِ” الفرزدق). كلُّ قصيدةٍ جديدةِ، وتكتبُ شاعرَها، لاَ تقدِّمُ نفسَها هديَّةً مجانيَّةً، ولاَ تُسلِّمُ نفسَها بسهولةٍ؛ لاَ تَسترخِي علَى البياضِ كامرأَةٍ مُجرِّبةٍ حتَّى لَو كانَ الشَّاعرُ متمرِّسًا علَى دربتِها، لأَنَّ كلَّ قصيدةٍ تَستسلمُ سريعًا، لاَ أَقولُ إِنَّها قصيدةٌ ميِّتةٌ، بلْ تظلُّ تُعاني سكراتِ الموتِ أَمامَ شاعرٍ يظلُّ فِي حالةِ احتضارٍ! نعمْ.. أَنا “متورِّطٌ” شعريًّا إِلى حدٍّ بعيدٍ جدًّا؛ ليسَ هذَا اعترافًا معَ سبقِ الإِصرارِ، وليسَ تَباهٍ أُجلُّهُ لغرضٍ فِي نفسِ (يَعقوبي)، وليسَ جنونًا مريضًا حدَّ أَنَّ (زَوجتي) لمْ تَزلْ تشفِقُ عليَّ منهُ بِشَفقِها الورديِّ علَى عرقِ جَبينِي المُنهَكِ، لأَنَّ مَا قرأْتَهُ/ مَا خيِّلَ إِليكَ، يَا صديقِي هناكَ/ هُنا، هوَ حقيقةٌ مشبَعةٌ داخلَ أَتونِ المخيلةِ/ مخيلتِكَ. الرمزية والإرث ? تعتمد أحيانًا على الرمزية، وأحيانًا تتكئ على الإرث التراثي العربي، كيف تختزل في قصيدة واحدة كل هذه الحالات؟ ? لعلَّ الرَّمزيَّةَ جزءٌ منَ التَّكوينِ الكلِّي للقصيدةِ لديَّ ضمنَ الاحتضانِ الفنِّيٍّ. أَشتغلُ علَى القصيدةِ بالحواسِّ ومَا بعدَها جميعًا، وأَكتبُها بلغةِ التَّشكيلِ؛ الرَّسمِ- التَّصويرِ المُركَّبِ، لتكونَ مَا سمَّيتهُ “الشِّعرَ التَّشكيليَّ/ القصيدةَ التَّشكيليَّةَ”. رُؤيتي هذهِ للإِبداعِ الشِّعريِّ تشكَّلتْ منْ موهبةٍ تشعشتْ فيَّ، فعمِلتُ جاهدًا جدًّ علَى تَنْمِيتها، وتَنْقِيتها، وتَقْنِينها، بِما هوَ الشِّعرُ كمَا فهِمتُ/ أَدركتُ أَن يكونَ. أَيضًا، منْ قراءاتٍ عميقةٍ/ عميمةٍ/ عارمةٍ فِي الإِرثِ الأَدبيِّ العربيِّ والإِرثِ العالميِّ شعرًا ونثرًا، مَا استطعتُ إِلى هذَا سبيلاً. كلُّ هذَا، إِضافةً إِلى تثقيفٍ ذاتيٍّ عامٍّ، لأَنَّ القصيدةَ لاَ تتغذَّى ذاتيًّا فقطْ، بلْ تحتاجُ إِلى تغذيةٍ خارجيَّةٍ، شرطَ أَن تذوِّبها وتهضمَها، ولاَ تعملُ فِيها سوَى جيناتِها الخاصَّةِ بِها. بِهكذَا، وربَّما بغيرِ هذَا أَيضًا، استطعتُ أَن أَختزلَ أَيَّ/ كلَّ شيءٍ فِي قصيدةٍ واحدةٍ لِي/ معظمِ قصائدِي. هذَا قادَني إِلى أَن أَعرفَ كيفَ أَكونُ/ تكونُ شاعرًا: كيْ تكونَ شاعرًا؛ عليكَ أَن تعيشَهُ خمسًا وعشرينَ ساعةً فِي اليومِ، وأَن تشعرَ أَنَّكَ وحدَكَ بينَ كلِّ النَّاسِ، وأَنَّكَ كلُّ النَّاسِ وأَنتَ وحدَكَ، وأَن تصحوهُ حتَّى وأَنتَ نائمٌ، وحتَّى لَو كُنتَ تحتَ عمليَّةٍ جراحيَّةٍ، وأَن يكونَ حاضرًا فيكَ حتَّى وأَنتَ تأْكلُ وتشربُ وتغتسلُ و...، وأَن تقرأَهُ حتَّى وأَنتَ تنتظرُ الضَّوءَ الأَخضرَ للعبورِ إِلى الرَّصيفِ الآخرِ. كيْ تكونَ شاعرًا، عليكَ أَن تكونَ شاعرًا. هلْ أَقولُ أَكثرَ؟! ? هذا يقودني إلى سؤالك كيف تولد القصيدة لديك؟ ? إِذا اتَّفقنا أَنَّ القصيدةَ تكتبُ شاعرَها، فهذَا يقودُ إِلى أَنَّ القصيدةَ تلدُ شاعرَها أَيضًا، إِذ القصيدةُ تلدُ/ تكتبُ نفسَها بنفسِها! السُّؤالُ الآنَ: أَينَ دورُ الشَّاعرِ فِي هذهِ الولادةِ/ العمليَّةِ الإِبداعيَّةِ؟ تحيَّرتُ كثيرًا وطويلاً فِي معرفةِ/ تحديدِ هذَا الدَّورِ إِلى أَن توصَّلتُ، فِي الماضِي، إِلى افتراضٍ، لمْ يُقنعْني بعدُ؛ أَنَّ الشَّاعرَ لهُ دورُ القابلةِ. مَا أَشعرُهُ، كشاعرٍ وبافتراضِ أَنَّ الشُّعورَ أَقوى منَ الفكرةِ، أَنَّ الشَّاعرَ هوَ رحمُ القصيدةِ؛ تتكوَّنُ بهِ، وتتغذَّى منْ/ علَى مكوِّناتِهِ المختلِفةِ (الشَّاعر) الَّتي ذكَرتُها فِي الإِجابةِ السَّابقةِ. أَميلُ كثيرًا إِلى “نظريَّتي” هذهِ حدَّ الاقتناعِ الأَوَّليِّ بِها إِلى أَن يَثبُتَ عكسُها/ بُطلانُها. لستُ أَهربُ منْ سؤالِكَ بِما قلتُهُ أَعلاهُ، لكنَّ حصرَ الحالةِ فِي شيءٍ منَ الكلماتِ غيرُ ممكنٍ، حيثُ القصيدةُ تعتملُ فِي الرَّحمِ/ اللاَّوعي لدَى الشَّاعرِ/ لديَّ، وهيَ تنشِئُ تكوينَها الكلِّيَ. كمْ صحوتُ لأَرى فِي مهدِ مكتبِي مولودَ/ أَوراقَ قصيدةٍ بعددِ طبقاتِ الكينونةِ، فأُقلِّبُها بعينيَّ، وأَقرؤها بيديَّ (!)، لأَجدَ فمِي يصرخُ فِي داخلِي: مَن ولدَ/ كتبَ هذَا؟ متَى؟ وكيفَ؟ وأَينَ؟ بلْ وكلُّ أَسماءِ/ أَفعالِ/ حروفِ الاستفهامِ! الشَّيءُ الَّذي يُمكِنني تذكُّرهُ، قبلَ الدُّخولِ فِي اللاَّوعيِ، هوَ لحظةُ بذرتِها/ برقتِها/ إِشراقتِها/ خضَّتِها/ هزَّتِها (كمَا انتفضَ العصفورُ بلَّلهُ القطرُ). كتبتُ عنْ هذهِ فِي شهادةٍ بعنوانٍ “تأْتي إِليَّ كأَنَّها الأُولى”- أَي تأْتي كلُّ قصيدةٍ كأَنَّها أَوَّلُ قصيدةٍ-، محاولاً تحويلَ تلكَ اللَّحظةِ إِلى تصويرٍ بالكلماتِ، ولستُ أَدري إِنْ كنتُ استطعتُها أَم لاَ: “مَن ذا الَّذي يَسْتَطِيعُ تَفْكِيكَ صُوَرِ الإِقَامَةِ المُرَكَّبَةِ، بَعْدَ الخُرُوجِ بِجُهْدٍ مُضَاعَفٍ مِن بَابِ حَدِيقَتِها الشَّبَحِيِّ، وَقَد كَانَ في غَيْبُوبَةٍ لِحِينٍ مَا؟ بَل أَيُّ ذَاكِرَةٍ لَهَا القُدْرَةُ عَلَى تَقْشِيرِ ثَمَرَةِ تِلْكَ الغَيْبُوبَةِ بِإتْقَانٍ؟ والَّتي هِيَ أَيْضًا، لَيْسَتْ كَتَوأَمِ حَبَّةِ البَصَلِ الجَارِحَةِ. وَلكِنْ، كُلُّ مَا أَذْكُرُهُ، أَنَّني في بِدَايَةِ الحَمْلِ الشَّعْرِيِّ وَقَبْلَ الوَضْعِ- الكِتَابَةِ، أُصَابُ بِـ(وَحَمٍ) شَدِيدِ التَّأْثِيرِ عَلى لَحَظَاتي وَسُلوكِي الحَيَاتِيّ، وَيَنْعَكِسُ هذَا سَلْبِيًّا عَلى آخَرينَ مِمَّن أَوَدُّهُم يُقِيمُونَ حَوْلي، خُصُوصًا في سَاعَاتِ النَّهارِ المُرْبَكَةِ - المُرْبِكَةِ، وَالُمرَتَّبَةِ بِفَوْضَاها إِلى مَا بَعْدَ حَافَّةِ المَلَل. أَنَا لَستُ أَنَا الَّذي يَعْرِفُون؛ فَهُناكَ شَيْءٌ يُحَاوِلُ تَفْجِيرَ (إِنَائِي) الهَادِئِ، كَأَنَّ (الهَدِيَّةَ) قُنْبُلَةٌ مَوْقُوتَةٌ بِإرَادَتِها، وَكَمْ أُصَابُ بِالنَّدَمِ إِذَا لَمْ أَسْتَطِعِ احْتِضَانَها كأَنَّها طَائِرٌ بَرِّيٌّ، وَمَا أَكْثَرَ الطُّيُور الَّتي كَانَتْ، وَلا تَزَالُ تَبْرُزُ لي لِلَحَظَاتٍ دُونَ أَنْ تَتَمكَّنَ يَدِي مِنْ عِنَاقِ يَرَاعٍ، بِسَبَبِ انْشِغَالي بِحَالةٍ حَياتِيَّةٍ تَقْلِيدِيَّةٍ، إِذْ عَليَّ أَنْ أُطَارِدَهَا طَويلاً وَهِيَ تَعْبُرُ مُناخَاتٍ وجُغرَافِيَّاتٍ تُجَدَّدُ في كُلِّ مُحَاوَلَةٍ: كُنْ شَاعِرًا واقْبِضْ عَلَيَّ. هكَذَا يَقُولُ عَطْفُ الإِبْدَاعِ الشِّعْرِيِّ فِيهَا، بِدَايَةً، لِفَقيرٍ لَمْ يَقْتَنِعْ بَعْدُ بِكَرَمِ العَطْفِ الكَثيرِ= القَلِيلِ. لاهِثًا، أُطَارِدُ القَصِيدَةَ الَّتي تَشْرَئِبُّ لي مُطَارَدَةً طَوِيلَةً؛ هِيَ لا تَتْعَبُ وَلا تَسْتَسْلِمُ بِسُهولَةٍ، رَغْمَ رَغْبَتِها في شَاعِرِهَا. وَأََنا أَفْقِدُ الْكَثيَرَ مِنْ حَرارَةِ شَهْوَتي، إِنْ شَعَرْتُ بِعَبَثِيَّةِ الُمطارَدَةِ، لأَنَّ الْقَبْضَ الُمفْتَعَلَ سَيَكُونَ نَيِّئًا، أَوْ خُدَاجًا، فَيَعْلُو صَوْتُ فَضيحَةِ الشَّاعِرِ”. القصيدة القاتلة.. ? يقول الشاعر الفرنسي برنارد مازو إن لكل شاعر قصيدته التي تتحين فرصة قتله ولو مجازًا.. مع ذلك ثمة شعراء قتلهم شعرهم فعلاً.. أَليس كذلك؟ ? وتحضرُني مقولةُ الشَّاعرِ (هِنْري مِيشُو): “إِنَّ مجرَّدَ التَّفكيرِ بِقصيدةٍ يكفِي لِقتلِها”! إِذًا: هلْ هيَ عمليَّةُ قتلٍ متبادلةٍ بينَ الشَّاعرِ والقصيدةِ؟! علَى الرَّغمِ منْ أَنَّ هذهِ المقولةَ غايةٌ فِي درجةِ الإِحساس الشَّفيفِ الشِّعريِّ لدَى الشَّاعرِ القائلِ، ومثاليةٌ عُظمى، كأَنَّهُ رفضٌ لِلَمسِ جناحِ الفراشةِ كيْ لاَ تعلقَ أَلوانُها بالأَصابعِ، ومنْ ثمَّ انعدامُ إِمكانيَّةِ إِعادةِ الأَلوانِ للجناحِ، كمَا وصفتُه فِي إِحدى قصائدِي. فعلُ/ كلمةُ/ القتلِ، وإِنْ كانَ/تْ مجازًا، شيءٌ بشعٌ جدًّا فِي المعجمِ الشِّعريِّ مقارنةً بدورِ الشِّعرِ الإِنسانيِّ/ الحياتيِّ/ الجماليِّ. مَا يقولهُ التَّاريخُ إِنَّ هناكَ شعراءَ قتلهمْ شعرُهمْ، هيَ مقولةٌ مشتبَهٌ بِها بالنِّسبةِ إِليَّ، حيثُ القصدُ فِيها هوَ القتلُ الفعليُّ/ الفيزيائيُّ، لأَسبابٍ قدْ تبدُو شعريَّةً فِي ظاهرِها؛ مثلاً (المُتنبِّي) فِي هجائهِ اللاَّذعِ جدًّا لآخرينَ ومدحهِ المثاليِّ لذَاتهِ، قيلَ إِنَّه سببُ قَتْلهِ، فهلْ هذَا ما عنيتَهُ أَنتَ؟ هل كانتْ قصيدتهُ/ قصائدهُ سببًا أَم أَداةً؟ أَنا أَرفضُ بشدَّةٍ جعلَ القصيدةِ أَداةَ هجاءٍ/ مدْحٍ/ ...، لأَنَّها لنْ تكونَ قصيدةً بِهذا المعجمِ غيرِ الشِّعريِّ، عدَا عنْ كونِها تقفُ على منبرِ النَّظمِ فِي قاعةِ قدْ تعجُّ، فقطْ، بصوتِ اصطكاكِ الأَكفِّ، لاَ رنينِ الشِّعرِ الَّذي يتغلغلُ فِي شهواتِ الحواسِّ القارئةِ. القصيدةُ النَّقيَّةُ لمْ تُمارِسْ ذاتَ يومٍ قتلَ شاعرِها وغيرِ شاعرِها مطلقًا، بلْ تلِدهُ وتُحْييهِ كلَّ مرَّةِ قصيدةٍ، لأَنَّها نقيَّةٌ/ صافيةٌ/ عذبةٌ/ صادقةٌ/ مخلِصةٌ/ إِنسانيَّةٌ/ حرَّةٌ حريَّةَ جنينٍ فِي الرَّحمِ، أَو دُوريٍّ بعدَ السَّماءِ الصِّفرِ.. أَليسَ كذلكَ؟! ? هل تشعر أن الشعر لا يزال حميمًا كما السابق، وأن له قراء كثيرين؟ ? مرَّ ويمرُّ الشِّعرُ، كأَيِّ كائنٍ، فِي حالاتٍ عدَّةٍ؛ فمِنْ عافيةٍ إِلى مرضٍ، ومنْ ربيعٍ إِلى خريفٍ، ومنْ واحةٍ إِلى صحراءَ، ومنْ ... إِلى ...، وبالعكسِ أَيضًا. هذَا طبيعيٌّ جدًّا فِي ظروفٍ متقلِّبةٍ، ومناخاتٍ متغيِّرةٍ، وسطوةِ شيءٍ علَى شيءٍ آخر. الأَهمُّ فِي هذَا وذاكَ أَوَّلاً هوَ الشَّاعرُ ذاتهُ: هلْ يكونُ رحمًا حيويًّا/ محتويًا للقصيدةِ الشِّعرِ، أَم كائنًا متطفِّلاً علَيْها؟ إِذًا، حميمةُ الشِّعرِ، منْ قبلُ/ الآنَ/ ومنْ بعدُ، مسأَلةٌ نسبيَّةٌ قطعًا، وأَنَّ مسأَلةَ القراءِ هيَ أَيضًا كذلكَ. لمناسبةِ سؤالِكَ المهمِّ، فأَنا أَجدَ أَن أُثبتَ هذَا المقطَعَ منْ شهادةٍ/ كلمةٍ لِي، خلالَ حفلِ تكريمٍ لِي أَقامَهُ (بيتُ الشِّعرِ فِي فِلسطينَ) بعنوانِ “كشمسٍ عموديَّةٍ علَى خطِّ الارتواءِ”: “ثَمَّ مسأَلةٌ مهمَّةٌ ضمنَ الإِدراكاتِ القديمةِ والمُتجدِّدةِ دائمًا بالنِّسبةِ إِليَّ، هيَ مسأَلةُ جماهيريَّةِ الشِّعرِ، أَوِ انتشارهِ بينَ النَّاسِ علَى اختلافِ مستوياتِهم الثَّقافيَّةِ، بصفتهِ أَسرعَ وسيلةٍ للتَّعبيرِ عنْ كثيرٍ من قَضايا الإِنسانِ.. أَفهمُ أَنَّه وسيلةُ تعبيرٍ، لكنِّي لمْ أُؤمنْ، يومًا مَا، بضرورةِ الانحدارِ باللُّغةِ إِلى مَا دونَ مُستوى الشِّعريَّةِ الَّتي هيَ أُوكسجينُ دمِ القصيدةِ، وإِنَّني أَعتنقُ قولةَ (لويز جيليك): “لَم أَكُنْ يومًا ممَّن يشعرونَ بضرورةِ توسيعِ قاعدةِ قرَّاءِ الشَّعرِ، فأَنا أَشعرُ أَنَّ مَن يحتاجونَ الشِّعرَ يجدُونهُ”. أزمان افتراضية ? بعض النقاد يسوّقون للرواية، قائلين إنه زمن الرواية، بدليل ذهاب الكثير من الشعراء نحو كتابة الرواية. ما رأيك؟ ? زمنُ الرّوايةِ.. زمنُ الشِّعرِ.. زمنُ العولمةِ.. زمنُ الإِنترنت.. زمنُ ... كلُّها وغيرُها هيَ مسمَّياتُ أَزمانٍ افتراضيَّةٍ فِي زمنٍ واحدٍ. أَن يكونَ هذَا الزَّمنُ “زمنَ الرّوايةِ”، حسبَ أَحدِ النُّقَّادِ (جابر عصفور)، وتبنِّي هذهِ المقولةَ مِن بعضِ نقَّادٍ آخرينَ وغيرِهم، هيَ مقولةٌ بعينٍ واحدةٍ؛ إِذا كانتْ هذهِ المقولةُ بُنِيتْ علَى إِحصاءٍ عددِيٍّ للإِصداراتِ الرّوائيَّةِ مقارنةً بالمجموعاتِ الشِّعريَّةِ، فإِنَّ الواقعَ الإِصداريَّ يبيِّنُ أَن لاَ تفاوتَ فِي هذَا. وإِذا كانتْ علَى أَعدادِ قرَّاءٍ، فإِنَّ العددَ ليسَ مقياسَا لأَنَّ قرَّاءَ الشِّعرِ الحديثِ/ المُغايرِ/ النَّوعيِّ همْ قرَّاءُ نوعيُّونَ، معَ كاملِ الاحترامِ والتَّقديرِ لكلِّ القرَّاءِ، حيثُ لغةُ الشِّعرِ الحديثِ/ الحداثةِ، تختلِفُ اختلافًا نوعيًّا عنْ لغةِ الرّوايةِ؛ لغةُ الشِّعرِ تكثيفيَّةٌ، ولغةُ الرّوايةِ إِسهابيَّةٌ، والبشرُ يميلُونَ إِلى الحكايةِ/ السَّردِ السَّهلِ، أَكثرَ منْ ميلِهمْ إِلى التَّأْويلِ بتفعيلِ المخيلةِ. لاَ أُريدُ الخوضَ أَكثرَ فِي هذهِ القضيَّةِ الزَّمنيَّةِ، ليسَ لأَنَّني شاعرٌ أُدافعُ عنْ/ أَغارُ علَى الشِّعرِ، بلْ لأَنَّ هناكَ قرَّاءَ للشِّعرِ وللرّوايةِ فِي كلِّ آنٍ، والمسأَلةُ مَيلٌ تذوُّقيٌّ فِي أَبسطِ تحليلِها. يقولُ (رُوبرتْ لُولْ): “الشِّعرُ حدثٌ، لاَ سجلَّ حدثٍ”؛ هذَا هوَ الفارقُ الأَهمُّ بينَ الشِّعرِ والرّوايةِ. مسأَلةُ كتابةِ كثيرٍ منَ الشُّعراءِ الرّوايةَ، لاَ أَعتقدُ أَنَّهمْ كثيرونَ مقارنةً حتَّى بعددِ الشُّعراءِ الحقيقيِّينَ.. أَليسَ كذلكَ؟ ثمَّ وجدتُ مِنها مَا هوَ خارجَ مفهومِ الرّوايةِ، أَو يدورُ حولَها عبثًا أَن يُدركَها. أَعرفُ أَنَّ الإِنسانَ يولدُ بتعددِ الموهبةِ، لكنْ بالتَّأْكيدِ تتمكَّنُ منهُ موهبةٌ أَكثرَ منْ غيرِها مهمَا حاولَ أَن “يعدِلَ” بينَها. يَبقى فِي هذَا السِّياقِ سؤالانِ: هلْ فشلَ شاعرٌ مَا بإِدراكِ الشِّعرِ، فاتَّجهَ إِلى الحقلِ الأَسهبِِ، أَمِ التحاقًا بـ”زمنِ الرَّوايةِ” (الموضةِ) مهمَا كانتْ روايتهُ على اعتبارِ أَنَّه قدْ يكونُ شاعرًا رسخَّ اسمَهُ نوعًا مَا، وبالتَّالي تكونُ درجةُ استقبالِ روايتهِ عاليةً؟ السُّؤالُ الآخرُ: لِمَ لمْ يذهبْ روائيُّونَ إِلى الشِّعرِ/ القصيدةِ؟! أَتركُ الإِجابةَ لمَنْ يعنيهِ الأَمرُ. ? لكن الرواية هي الأكثر قراءة في العالم العربي، وقارئ عادي يشتري في معرض الكتاب كذا رواية مقابل مجموعة شعرية في الغالب، ما رأيك؟ ? أُحيلُ سؤالكَ يَا صديقِي إِلى الإِجابةِ السَّابقةِ. أَمَّا بخصوصِ القارئِ العاديِّ الَّذي يَشتري أَكثرَ منْ روايةٍ مقابلَ مجموعةٍ شعريَّةٍ، فأَتركُ (كِينِيثْ رُوكْسروتْ) يعلِّقُ علَى هذَا: “عِندي مشكلةٌ معَ أَولادِ الـ... أُولئكَ الَّذينَ يزعمونُ أَنَّهمْ يحبُّونَ الشِّعرَ ثمَّ لا يشترونَ ديوانًا واحدًا”. الأَكثرُ أَهمِّيةً هوَ فِي مقولةِ (دُونْ مَاركِيز): “نشرُ كتابٍ منَ الشِّعرِ أَشبَهُ بإِلقاءِ بتلةِ زهرةٍ فِي المحيطِ وانتظارِ صدَى الصَّوتِ”. أَعتقدُ أَنَّ هاتَينِ المقولتينِ تُسعفاني كثيرًا فِي الإِجابةِ. ? هل فكرت في دخول مغامرة الرواية؟ لماذا؟ ? لاَ.. لاَ.. علَى الرَّغمِ منْ أَنَّني أَعتبرُ نفسِي قارئَ روايةٍ جيِّدًا، ونحنُ نعرِفُ أَنَّ القراءةَ تثقِّفُ، لكنَّها لاَ تخلِقُ موهبةً. لمْ أُفكِّرْ فِي دخولِ مغامرةِ الرِّوايةِ لسبَبينِ: الأَوَّلُ أُحِيلهُ إِلى الآيةِ القرآنيَّةِ الكريمةِ {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لهُ}، أَي ليستْ لديَّ موهبةُ كتابةِ الرّوايةِ. الثَّاني هوَ أَنَّني أَستطيعُ أَن أَقولَ أَيَّ/ كلَّ شيءٍ شعرًا، علَى الرَّغمِ منْ أَنَّ “كتابةَ الشِّعرِ الحرِّ مثلَ لعبِ كرةِ المضربِ بلاَ شبكةٍ” (رُوبرتْ فرُستْ). المشهد العربي ? دعني أسألك كيف تقرأ المشهد الأدبي العربي الراهن؟ ? المشهدُ الأَدبيُّ العربيُّ الرَّاهنُ أَشبَهُ بلوحةِ فُسيفساءٍ حيثُ درجةُ حضورِ اللَّونِ لهَا قوَّتُها الحضوريَّةُ فِي شتَّى أَركانِ/ زوايَا الأَدبِ العربيِّ، وإِن كانَ الحضورُ الشِّعريُّ والرّوائيُّ والقصصيُّ هوُ الأَكثرُ بروزًا علَى حسابِ الفنونِ الكتابيَّةِ الأُخرى. هذهِ اللَّوحةُ لاَ تقتصِرُ علَى الأَعمالِ الجماليَّةِ/ الإِبداعيَّةِ فقطْ، بلِ استطاعتْ كتاباتٌ باهتةٌ، بأَنصافِ مواهبٍ، أَو عدمِها، أَن تأْخذَ مكانًا، لاَ مكانةً طبعًا، فِي تلكَ اللَّوحةِ، بسببِ سُوءِ استخدامِ وسائلِ التَّواصلِ لتَمريرِ نصوصٍ قاتلةٍ منْ لُغتِها الخطَّاءَةِ بجهلِها اللُّغةِ أَوَّلاً، وليسَ انتهاءً بعبثيَّةِ كثيرٍ منَ المنابرِ الثقافيَّةِ؛ ورقيَّةً وإِلكترونيَّةً ودورَ نشرٍ، وعبثِ الجالسينَ علَيْها كالسَّلاطينِ العَرب. لاَ أَسعى بهذَا إِلى تحويلِ النَّظرِ إِلى الجانبِ الباهتِ منَ اللَّوحةِ كالنَّظرِ إِلى الجزءِ الفارغِ منَ الكوبِ، (الفراغُ ليسَ البياضَ الجميلَ)، بلْ لِلَفتِ الانتباهِ إِلى هذهِ الحالةِ المشوَّهةِ لِلعملِ علَى علاجِها مَا أَمكنَ. “وظيفةُ الشِّعرِ أَن ينظِّفَ واقعَنا الَّذي تخثَّرتْ فيهِ الكلماتُ بأَن يوجِدَ صمتًا يحيطُ بهِ كلُّ شيءٍ” (ستيفن مالارميه). هذَا الصَّمتُ/ البياضُ النَّقيَّ الَّذي نريدهُ ونحتاجهُ فِي عالمِنا/ حياتِنا/ وجودِنا، كيْ نكتبَ تاريخنَا الجديدَ؛، صنيعَنا نحنُ، وبأَيدينَا المُبدِعةِ. نعرِفُ أَن لاَ كمالَ فِي الأَشياءِ المخلوقةِ، لكنَّ الضَّميرَ الإِبداعيَّ لاَ يَتعبُ منْ قرعِ الجرسِ باستمرارٍ، ونعرِفُ أَيضًا أَنَّ الإِبداعَ، وإِن أَقامَ فِي أَدراجٍ معتمةٍ، وليسَ فِي أَبراجٍ مضيئةٍ، فهوَ ذاتيُّ الإِضاءةِ والتَّنويرِ، حتَّى أَنَّ ظلَّهُ مضيءٌ، كمَا هوَ ظلُّ معشوقةِ الشَّاعرِ الجميلِ (أُوكتافيُو باثْ). ? وكيف تقرأ زملاءك في وطنك وفي الوطن العربي؟ ? أَقرأُ، هنَا وفِي الوطنِ العربيِّ، حالةَ إِبداعٍ شعريٍّ مشعٍّ/ مغايرٍ/ حداثيٍّ، لاَ بأْسَ بهِ، يحاولُ المرورَ منْ بينِ الرُّكاماتِ المريضةِ/ الرَّسميَّةِ/ المدجَّنةِ/ ...، كيْ يُقِيمَ/ يوسِّعَ دائرةَ النُّورِ/ التَّنويرِ/ التَّحديثِ/ الحرِّيَّةِ/ الجمالِ/ الإِنسانيَّةِ، علَى الرَّغمِ منْ هذهِ الرُّكاماتِ الفاحشةِ الَّتي كأَنَّها سِيقانُ العثراتِ منَ الرَّصيفِ إِلى الرَّصيفِ، لأَنَّ الشِّعرَ الإِبداعيَّ لاَ يستسلمُ حتَّى للنَّجاةِ، ولاَ يجنحُ لغوايةِ الدِّعَةِ، ولاَ يدخلُ إِلى الحدائقِ المزيَّفةِ، ولاَ يمِيلُ معَ الرِّيحِ، ولاَ يحنِي رأْسَ قامتِهُ إِلاَّ تقديرًا للفرحِ/ الحبِّ/ الثَّورةِ/ الحقيقةِ/ الإِنسانيَّةِ/ لشاعرِهِ الإِنسانِ، ومنْ حُسنِ حظِّهِ أَنَّهُ يستطيعُ المشيَ والسَّباحةَ والتَّحليقَ. ثَمَّ مَن يحفرونَ فِي أَغوارَ عميقةٍ لتَنقيةِ جذورِ الحياةِ، وثَمَّ مَن يغوصُونَ عميقًا لإِيقاظِ لؤلؤِ الأَملِ، وثَمَّ مَن يَمنحُونَ أَجنحتَهمْ لطُيورِ الصَّباحِ. وعلَى الرَّغمِ مِن هذَا، فإِنَّ ثَمَّ مَن يكرَهُ بحبٍّ، ويحبُّ بكرهٍ! ? ماذا تقرأ الآن؟ ? أَقرأُ منذُ بضعةِ أَيَّامٍ مختاراتٍ مِن شعرِ الـ(تَانْكَا) للشَّاعرةِ اليابانيَّةِ (مَارِيكُو كيتاكُبُو)، وهوَ شعرٌ قريبٌ مِن/ شبيهٌ بشعرِ الـ(هَايكُو)، إِلاَّ أَنَّه يتشكَّلُ مِن خمسةِ أَسطرٍ، فِي حينِ أَنَّ الـ(هَايكُو) يتشكَّلُ مِن ثلاثةِ أَسطرٍ، وهوَ سابقٌ لهُ مِن حيثُ القِدَمِ. قِراءتي هذهِ تمهيدٌ لقِيامي بترجمةِ تلكَ المختاراتِ إِلى اللُّغةِ العربيَّةِ، وأَعتقدُ أَنَّها ستكونُ المرَّةَ الأُولى الَّتي يترجمُ فِيها هذَا النَّوعُ مِن الشِّعرِ اليابانيِّ إِلى العربيَّةِ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©