الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كارثة الرحلة 17.. لماذا آثر الهولنديون الصمت؟

28 يوليو 2014 01:30
خلال سنوات ستّ قضيتها في أمستردام، كان الشيء الوحيد الذي لم يسعفني عقلي في فهمه هو الجموح العجيب الذي يطغى على الهولنديين لتنظيم الأفراح والاحتفالات. وهم شعب شغوف باستغلال المناسبات وإقامة الاستعراضات ذات الطابع الشعبي الوطني، ولعلهم يتفوقون في هذا الشغف حتى على نجوم هوليوود. أما عندما يتعلق الأمر بأخبار السياسة والرياضة، فإنهم سرعان ما يعبرون عن ضجرهم وصدّهم عن متابعة الموضوع. ويمكن تفسير هذه الميول من خلال الإشارة إلى المساحة الضيّقة لوطنهم. وعندما يكون عدد سكان بلد ما 16 مليوناً محشورين في وطن تقلّ مساحته عن مساحة 41 ولاية أميركية منفردة، فسوف تقل المسافة التي تفصل بين الناس. ولم يكن النصر الذي حققه ويسلي شنايدر وروبن فان بريزي في تصفيات كأس العالم لكرة القدم، ليمثل بالنسبة للهولنديين أكثر من مصادفة عابرة هبطت عليهم من السماء. ولقد تداعت إلى ذهني هذه الخواطر عن الشعب الهولندي عندما رحت أتفرّس النصب التذكارية الرمزية الكئيبة التي انتشرت في ساحات المدن الهولندية كلها هذا الأسبوع. فقد كان ثلثا عدد ركاب الرحلة 17 للطائرة الماليزية المنكوبة التي تحطمت فوق أوكرانيا والبالغ عددهم 298 راكباً، من الهولنديين. وبادرت عدداً من أصدقائي الهولنديين بالسؤال عن مشاعرهم حيال هذه الكارثة، فسمعت ما توقعته منهم. وتبيّن لي أن كل هولندي يعرف واحداً على الأقل من ضحايا الطائرة. وقالت لي امرأة إن ابنتها صديقة لفتاة قضت هي وعائلتها كلها في الحادث. وكانوا جميعاً في طريقهم لقضاء عطلتهم في بورنيو. وقالت لي الأم: «عندما تفكر كيف أصبح بيتهم خالياً من أهله، فإنك لا تكاد تصدق ما حدث». وتفكّر قلّة من الهولنديين بتنظيم تظاهرات للاحتجاج ضد روسيا. وعمدت فتاة هولندية إلى نشر عنوان ابنة فلاديمير بوتين التي تعيش في هولندا وعمّمته على حسابها في موقع «فيسبوك» لتوجيه رسائل الاحتجاج إليها. وحفل موقع «تويتير» بتغريدات الاستنكار لما فعله الروس. لكن، ورغم هذه الكارثة الوطنية التي ألمّت بالهولنديين، وحيث قدرت نسبة الضحايا بالمقارنة مع العدد الكلي للسكان كما لو أن 6 آلاف أميركي قد ماتوا دفعة واحدة، فإنهم آثروا الصمت. وحتى عندما ظهرت بعض الأصوات القليلة التي تطالب بتنظيم يوم للحداد الوطني، فإن دعوتهم لم تلقَ استجابة من الناس. وكانت موجة الحزن تعبر عن نفسها في المظهر الطبيعي غير الرسمي. وبدا ذلك جليّاً من خلال جبال الورود التي ألقيت أمام أحد مطاعم أمستردام حيث أقيم النصب التذكاري لأرواح الشهداء. ويختلف الهولنديون أيما اختلاف في عاداتهم عن الأميركيين، وخاصة في ردّات فعلهم إزاء الأحداث والأزمات الطارئة. وعندما تصيب الأميركيين فاجعة أو مأساة وطنية، فإنهم يميلون بغرائزهم إلى اللجوء للأيديولوجيات أو المثاليات عند مناقشتهم لها. ومن ذلك مثلاً أنهم رأوا في أحداث 11 سبتمبر 2001 أنها تشكل «هجوماً شرساً على الحرية». إلا أن الهولنديين غير ميالين بطبعهم لفلسفة الأمور وإخضاعها للنظريات والافتراضات والأيديولوجيات. وربما يكون في وسعنا أن نقيم علاقة ارتباط بين هذه الميول وما واجهه الهولنديون من مآسٍ خلال الحرب العالمية الثانية على أيدي النازيين، إلا أن الأمر يعود في الحقيقة إلى تاريخهم المغرق في القدم. ولقد تمكنت هولندا من إثبات وجودها رغم أنها دولة صغيرة محاطة بدول أكبر لها تاريخها العريق. ويمكن تفسير ذلك أيضاً بأن المجتمع الهولندي تمكن من الانتصار ليس في حربه ضد الأقوام الأخرى، بل في كفاحه ضد الطبيعة. ولقد قُيِّض للهولنديين أن يعيشوا فوق أراضٍ منخفضة عن مستوى سطح البحر تشكل في مجملها مصبّات لعدد كبير من الأنهار، وكان عليهم أن يخوضوا معارك لا تنتهي ضدّ المياه التي تحاول التسرّب إلى مدنهم وحواضرهم وأراضيهم من كل الجهات. وهكذا أصبحوا في موقف بدا فيه أن إقامة السدود ومصدات المياه أكثر فعالية من تنكّب الأيديولوجيات والأطروحات السياسية. ويشتهر الهولنديون الآن بأنهم شعب تكمن سعادته في ممارسة الحياة الاجتماعية الصاخبة أكثر من الميل إلى حمل السلاح. وهناك أمر آخر تعكسه وقائع الرحلة «17». فلقد كانت هولندا خلال تاريخها الحديث ملاذاً آمناً للاجئين الذين تضيق بهم أوطانهم، وكانت تمنحهم جنسيتها وحق المواطنة فيها. ويظهر ذلك جلياً من خلال التعرف على الجنسيات الأصلية للركاب الهولنديين الذين كانوا على متن الطائرة. فلقد كانت من بينهم عائلة كاملة من أصل فيتنامي تعيش في مدينة «ديلفت» التي يتحدر منها الفنان التشكيلي الشهير «جوهانس فيرمير»، ورجل من أصل صيني مع زوجته، وطالب من أصل إسرائيلي، وعائلة كاملة من أصل ماليزي، ورجل من أصل أميركي، وعدة ركاب من أصل جنوب أفريقي، وآخرون من أصل ألماني وبريطاني. وبدأنا نسمع بعض الأصوات القليلة التي تطالب بمراجعة مشكلة التعددية الإثنية ضمن المجتمع الهولندي. ومن أشهرهم اليميني المتطرف «جيرت فيلديرز» زعيم «حزب العمل من أجل الحرية» وعضو البرلمان الهولندي الذي حذّر من أن يؤدي تدفق المهاجرين إلى طمس الإرث الحضاري والثقافي للشعب الهولندي، وزعم أن الأعداد الكبيرة من المهاجرين المسلمين قد يحولون أرض الطواحين الهوائية إلى مسجد عملاق! إلا أن وسائل الإعلام فندت أطروحاته وبيّنت تنكّره لأهم المقومات التي يشتهر بها الهولنديون؛ وهي التسامح والتعايش مع الآخرين. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©