الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أردابيولا.. الكتابة المضادة

أردابيولا.. الكتابة المضادة
22 يناير 2014 21:31
قدم القاص والمترجم العراقي «محمد سهيل أحمد» إلى قراء اللغة العربية، لأول مرة، الشاعر الروسي (يفجيني يفتو شينكو) روائياً في روايته (أردابيولا) . والحق، أن شهرة (يفتو شينكو) الشعرية قد طغت على منجزاته الثقافية - الفنية الأخرى، فقد كتب السيرة الذاتية والرواية والمقالة والدراما والسيناريو، ومارس الإخراج السينمائي، كما مثل الدور الرئيس - سنة 1979 - في فيلم (Vzylot) وعمل فيلمين سينمائيين بوصفه كاتباً ومخرجاً هما: (روضة الأطفال -1983) و(جنائز ستالين - 1990). أما رواية (أردابيولا) فقد أنجزها عام 1984 وصدرت بعد عامين في نيويورك، عن دار (سينت مارتنيز) وترجمها إلى اللغة الانجليزية (آرمور رويسن). ثم بعد سنوات أعيد طبعها ثانية عن الدار نفسها، والمترجم يؤكد انه اعتمد الطبعة الأخيرة. ويذكر أنه: «جاء في الغلاف الأخير للطبعة الإنجليزية: موسكو تواجه بعض المآزق.. المدينة مبتلاة بطاعون أتت به تماسيح مفعمة بالخسة والدهاء، غارقة في حفلات العربدة، ومسكونة بهاجس اقتناء الجينز الأميركي». البروسترويكا وأخواتها رواية (أردابيولا) قد تعد بمثابة نكتة فظة وشديدة القسوة في وجه الدنيا كلها وكارثة شخصية لبطلها وتمهيد لرحلته الجنونية، سعياً وراء الخروج من يأسه نحو أمل متجدد يكمن في ذاته. وحاولت الرواية أن ترسم صوراً تفصيلية عن مرحلة ما قبل وبعد (البيروسترويكا). وهي تندرج عن قصد أو دونه، ضمن ما يطلق عليه بـ(الكتابة الضد)، لكنها لا تقع في منطقة (البروباغاندا) السلطوية النفعية والمجانية والدعائية، ولعلها توثيق حقيقي لشرائح اجتماعية ينتمي الكثير منها إلى ما يطلق عليه، وفق التوجهات الفكرية والاجتماعية السابقة بـ «الشغيلة المثقفة»، أو «شبه المثقفة»، وبعضها تقدم في السن وعانى الإحباط، بعد أن نهكته وانتهكته (السلطة) بقهرها الدائم وشكوكها غير المبررة إنسانياً، وكذلك بفظاظتها، وفق الوقائع الفعلية التي جرت بالارتباط مع قناعات ناس تلك المرحلة، بالترافق مع أهوال الحروب الأهلية التي أثارتها القوى المضادة للتغيير الذي حصل عقب سقوط الحكم القيصري، والحروب العالمية المفروضة، قصداً، لمواجهة تلك التغييرات التاريخية والساعية بمختلف الوسائل لوأد ما أنتجته من تحولات كانت أثمانها مريرة ومفجعة وباهظة جداً على الناس. وكان من نتائج التغيير أن تحولت أحلام القسم الآخر الأكثر شباباً من المواطنين نحو الحياة في الغرب، وبات يواجه مصاعب سنوات شبابه عبر التعامل، خلسة في السوق السوداء، حتى وإن كان عبر المضاربة بتذاكر دور العرض السينمائية التي تعرض أفلاماً هندية، وعاش شغوفاً بجميع ما هو قادم من العالم الرأسمالي: الدولار، الكوكا كولا، بناطيل الجينز، الويسكي خاصة (الوايت هورس)، وسجائر ( الـمالبورو) برائحتها النفاذة القادمة من بعيد، والانخطاف بالـ (روك اند رول) بإيقاعاته الصاخبة. يوضح (أردابيف)، بطل الرواية، للفتاة التي التقطها في سيارته من الشارع، وكانت تحمل نسخة من مجلة (الآداب الأجنبية) وتعاني الإجهاض بطريقة بدائية، انه يعمل على مواجهة مرض السرطان الذي ينشب أظفاره في صدر أبيه، عامل الفحم في قطارات سيبريا، عبر محاولاته البحثية الجامعية من خلال تهجين حشرة مع نبتة الـ (أربيدولا) مؤكدا لها: «نحن علماء الوراثة فقط مَنْ يستطيع ذلك من خلال المزاوجة بين الحشرة والنبتة». عذابات سيبيريا وتؤشر الرواية إلى بعض شعراء روسيا ومنهم: ميخائيل سفيتلوف وولعه اللامحدود بالغابات الروسية، وسرجي يسنين الذي شنق نفسه في غرفة بأحد الفنادق الرخيصة، وهو في الثلاثين من عمره، ومايكوفسكي وانتحاره في قمة مجده الشعري، وعشرات الكتاب والفنانين، بمختلف إبداعاتهم التي تلقى الرفض المتواصل وتثير الشكوك حولهم، ومعهم كثير من البشر ومصائرهم الأليمة، بعد أن ذووا في معسكرات السخرة في الثلوج السيبرية. ينال (أردابيف) درجة علمية مرموقة عن بحثه الذي يطبع في موسكو أولاً، ثم في الولايات المتحدة، والمانيا، وفرنسا، وايطاليا، وفي بلدان أخرى، وفي ذروة احتفاله بإنجازه يجد في غرفته برقية أمه التي تؤكد فيها باقتضاب: «أبوك توفي.. الجنازة الأربعاء». فلا يكترث للأمر، بل ما يهمه دأبه الدائم وسعيه المحموم إلى الحصول على ريع كتابه بالعملة الصعبة، فلم يحضر جنازة أبيه، لكنه يتخيل عمال سكك الحديد يحملون تابوتاً مغطى بملاءة حمراء على امتداد احد الأغصان. وينحدر من بعيد صوت أمه إليه: «هل ستأتي لدفني يوماً...»؟. السرد إذا انفتح الجانب السردي في الرواية ينفتح على فضاءات متعددة منها الصوت المنفرد والتداعي غير المقيد بالزمان والأمكنة، والشعر والموسيقى والغابات والحانات الرخيصة وخيانات العلاقات الزوجية، التي باتت خامدة بفعل تراكم الأيام والسنوات، والانغماس حد الهوس بشرب (الفودكا) الرديئة من قبل الجميع، وبضمنهم الفتيان وإن كانت مسروقة. ويسجل، للمترجم، انه قدم الرواية بلغة عربية مشحونة بشاعرية مرهفة عكست عوالمها وأجواءها بتمكن، وهي من السمات المعروفة عن قصص «محمد سهيل احمد» منذ فوزه بإحدى الجوائز الثلاث لملحق جريدة «الجمهورية» الثقافي عام 1964، ومجاميعه القصصية: «العين والشباك» 1986 - الكويت، و«الآن وبعد سنين» دار الشؤون الثقافية العامة « بغداد- 2005، و«اتبع النهر» 2010 - اتحاد أدباء وكتاب البصرة، وكذلك ثمة تراجم عدة له أهمها رسائل «رامبو» التي نشرها صيف عام 1974 في مجلة «الأقلام» العراقية. يلاحظ في رواية (أردابيولا) أن السرد والوصف يرتبطان ويتمازجان فيها بوساطة مقاطع متكاملة من الكلمات والجمل المتواصلة وعبر التتابع الزمني لخطابها الروائي، الذي لا تؤثر في تماسكه تنقلات شخصيتها الرئيسة في الأمكنة المتعددة والأزمنة المختلفة، وبذا تغدو (أردابيولا) بمثابة (استشراف) لمجتمع بات في طريقه إلى الانهيار والتحلل التاريخي وعلى حافة التفكك تدريجياً، وعلى الجميع أن يلقي جانباً تلك العقود التي تبددت بكل ضنكها وأحلامها وآمالها، وعليه أن يدفع الثمن مجدداً بسبب التغييرات الجديدة العاصفة، وانهيار أحلام ملايين البشر في كل مكان من هذا العالم. الشاعر الروسي (يفجيني يفتو شينكو) ذهب في كتاباته الشعرية والسردية إلى التأريخ - الروسي تخصيصاً- معتمداً الوثائقية المتوفرة له. ومع انه أبدى اهتماماً بالمحطات ووجهات النظر الحكومية في سرديات التاريخ المعلنة رسمياً، إلا أنه بقي يبحث في الوجه الخفي في الوقائع المخفية قصدياً. من خلال تنقيبه في صبوات الروح الروسية الشعبية وتراثها الإنساني، وبحثه في الوجه المغيب للواقع والتاريخ، متجاوزاً الإطناب والبهرجة والتزويق، وواقفاً ضد تزوير الحقيقة، وتأبيد الذل والتزييف، داعياً وساعياً في شعره وكل نتاجاته الفنية لتأثيث الحياة بالمثل الإنسانية المشروعة العظيمة - البسيطة. فكاهة سوداء يمكن اعتبار رواية (أردابيولا) مزيجاً من الشخصنة والسخرية المُرّة وكذلك (الفانتازيا) التي تجنح بقصدية نحو الحس الغنائي، وهي بمثابة بانوراما للحياة الروسية - الأوكرانية والسيبيرية، وتعود في أحداثها ووقائعها لزمن ما قبل تفكك الاتحاد السوفييتي. يفتو شينكو الشاعر، في رواية (أردابيولا) حرص على التعامل فنياً وثقافياً مع مفاهيم (بيروستريكيّة)، وتقديم شخوص الرواية عبر الكناية والتلميح. فعمد إلى أن تغدو شخصياتها بين الموقف الوسطي، فلا هي مع ما يسمى، رسميا في ظل النظام السابق، بكتّاب (الضد) كـ بوريس باسترناك والكسندر سولجنستين وغيرهما في كل المجالات الإبداعية - الفنية الروسية، ولا مع التوجه السلطوي البيروقراطي والسعي لتجميل الفظاعات التي تواجه الإنسان، والبحث عن المبررات والتلفيق المتواصل والخادع، وتجميل رعب السلطة القامعة وبيروقراطيتها، عبر ممثليها، كما في شكوى مصور الصحيفة الرسمية جراء غضب (مديرها) الدائم عليه وتذمره المتواصل من صوره الفوتوغرافية، كون: «الناس يظهرون فيها بثياب مهلهلة متهرئة». وسخرية المصور، السرية، تجاه مديره، لأنه: «يعتقد إني أتدخل في لباسهم». ناقد مجلة (نيويورك بوك ريفيو) وضع (أردابيولا) في خانة رواية (الفانتازيا)، فاعترض عليه بعض النقاد الغربيين، مؤكدين، أنه يمكن اعتبار رواية الشاعر (يفتو شينكو) هذه، فكاهة سوداء تقع في منحى سردي، وتقرأ باعتبارها عملاً شعرياً في رواية مرةً، أو عملاً روائياً شعرياً مرة أخرى. وقد عدت رواية (أردابيولا) بعد نشرها في الغرب بأنها تنتمي إلى الرواية العلمية. (أردابيولا) ليست الرواية الأولى التي كتبها(يفتو شينكو) فقد قدم عام 1967 رواية (بيرل هاربر) وتناولت الحرب العالمية الثانية وما جرى فيها من فظاعات، وكذلك كتب رواية عام 1982 بعنوان (أماكن الحبات) تمحورت ثيمتها على نزع ملكية أراضي (الكولاك)، بالإكراه، في سيبريا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، كما كتب رواية (لا تمت قبل الأوان) عام 1993، وهي ذات طابع سياسي وفلسفي وذاتي في الوقت نفسه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©