السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التجريد توأم الإنسانية

التجريد توأم الإنسانية
3 فبراير 2010 22:33
تمارس الندوات التثقيفية التي تقيمها شركة التطوير والاستثمار السياحي في إطار فعاليات “جوجنهايم.. مسيرة متحف” في “جاليري وان” في أبوظبي، نوعاً من الإيغال في مضامين العمل الفني وأساليبه، أو تسليط ضوء مكثف على اتجاهات أو مدارس أو تيارات فنية معروفة. ولقد كان الفن التجريدي هو محور الندوة التي عقدت مساء الرابع والعشرين من يناير الماضي، وتحدث فيها أربعة فنانين عن أعمالهم، وقدموا شهادات عن منجزهم الفني في إطار هذه المدرسة. بالنسبة إلى جمهور يتعطش لمعرفة ماهية الفن التجريدي والأسس التي تقوم عليها اللوحة التجريدية، جاءت الندوة فرصة مواتية لمعرفة الكثير عن الفن التجريدي بشكل عام وعن ثلاث تجارب عربية مهمة بشكل خاص، لها حضورها على خريطة الفن التجريدي (الفنان المصري آدم حنين والفنانة الفلسطينية الأميركية سامية حلبي والفنان ومؤرخ الفنون الفلسطيني المقيم في باريس كمال بُلاّطة)، وتجربة إماراتية لافتة للفنانة ابتسام عبد العزيز التي تتخذ من التجريب الفني طريقة للتعبير. تقصت الندوة تلك اللحظة الفارقة التي حملت معها بدايات ظهور الفن التجريدي في أوروبا، وتحول الفنانين الأوروبيين من الفن الواقعي ليطوروا فناً جديداً عرف في ما بعد بالفن التجريدي. في بداية الندوة عرف البروفيسور ناصر الرباط أستاذ برنامج العمارة الإسلامية في جامعة “ماساتشوستس” والمشرف على برنامج “آغا خان” للعمارة الإسلامية، بهدف الندوة التي “تناقش العلاقة بين التجريد في الدول الأوروبية وبين الفن في العالم العربي منذ بدايات القرن العشرين”. ونوه إلى أن الفنانين سوف “يسلطون الضوء عبر نظرة تاريخية على معنى التجريد في العالم العربي، وكيف ظهرت ملامح التجريد الغربي في أعمالهم”. حنين.. والفن المصري منذ خمسينيات القرن الماضي بدأ الفنان المصري آدم حنين طريقه الفني نحاتاً، أما الرسم فكان ثمرة من ثمار حياته في فرنسا. لم يكتشف حنين ما يزخر به الفن المصري القديم من جماليات في القاهرة بل اكتشفها في باريس. هناك، وجد طريقه نحو الشهرة في سبعينيات القرن الماضي، وكان لاستلهامه الرموز المصرية القديمة دور غير قليل في لفت أنظار الفرنسيين، وهم في العادة مولعون بالثقافات الأخرى ورموزها القديمة خاصة الثقافات الشرقية. ويرى حنين أن العودة إلى العصور القديمة في مصر، من شأنها أن تضع أيدينا وتفتح عيوننا على كنز من كنوز الفن التجريدي، حيث يتجلى التجريد في أكثر من مكان مثل الهرم، والمسلة، والمساجد والمقرنصات، والخط العربي، والتذهيب. أما عن الفن المعاصر فقد عرفته مصر مع الحملة الفرنسية، ثم عبر البعثات التي تم إرسالها إلى أوروبا وفرنسا فعاد أصحابها بتجربة وخبرة ذات منحى غربي، لاسيما أن خطاب النهضة والتحديث وضرورة الاستفادة من علوم الغرب كان شائعاً في ذلك الوقت. يقول حنين: “نشأت منذ أكثر من مائة عام أول مدرسة للفنون في مصر، بمنهاج أوروبي، وأساتذة أكاديميين من الدرجة الثانية. رغم ذلك وجد في تلك المرحلة التي عاصرتها من ينادي بمحاولة خلق فن مصري غير متأثر بغيره”. لكن حنين، حسب قوله، لم ينتم إلى مدرسة بعينها، وعرض عدداً من الأعمال على شاشة كبيرة أمام الجمهور تظهر عدداً من المراحل التي مر بها، وتوثق لتجربته الفنية. حلبي.. وقبة الصخرة في القدس، وفي العام 1936 ولدت الفنانة سامية حلبي التي هاجرت مع أسرتها إلى الولايات المتحدة. ورغم مرور أربعة عقود لا تزال قبة الصخرة المشرفة، تمارس تأثيرها على أعمالها إلى اليوم. تقول حلبي إن الفن بالنسبة إليها لا يعني الألوان أو الأصباغ التي يضعها الفنان بالفرشاة على الكانفاس، بل يتسع المفهوم ليضم النحت، والفخار، والموزاييك، والزجاج المعشق، وتطعيم الخشب والرخام، واللوحة، والصورة الفوتوغرافية، ووسائل الميديا الإلكترونية والرقمية، وترى أن التجريد حقيقة، وأنه لم يكن ولا ينبغي له أن يكون خاصاً بالفنانين أو بمشاعرهم، وتعتقد أن التجريد فن قديم وليس حديثاً، وأنه جزء من تكوين المجتمعات القبلية، وشكل من أشكال تنظيم الصورة يتميز بالقدرة على الاختزال والتبسيطية التي ترى أنها ثيمة لا تقدر بثمن لأنها ساهمت في تطور الكتابة. ولكي تؤكد فكرتها عملياً، قامت الفنانة بعرض والمقارنة بين تسعة من الأعمال، أبرزت من خلالها التطورات الأساسية للفن التجريدي، وعبر تحليل عميق لثيمات وقيم وجماليات هذه الاعمال قدمت لنا الفنانة سرداً لأهم الانعطافات التي شهدها الفن التجريدي فضلاً عن موقع عملها في إطار تاريخ الفن كما تفهمه هي. ورغم صعوبة تلخيص ما قالته لأن بعضه يترتب على بعض يمكن الإشارة إلى أنها أظهرت كيف تطور التجريد في العالم القديم وظهرت رموزه في فنون القبيلة، ثم تطوره في الفن الإسلامي وكيف وصل إلى أوج تألقه وصفائه في الثقافة العربية الإسلامية، كونه مكرسا لخدمة الدين ويجسد قيم الصفاء والنقاء والتقوى، معرجة على تطوره في الخط العربي بشكل خاص، مشيرة إلى أن الأثرين المهمين في التجريد الإسلامي في مجال الخط (صفحتي القرآن الكريم) اللذين عرضتهما موجودان في متحف ومكتبة المسجد الأقصى في القدس، وأن من المحزن أن يكونا عرضة لخطر السقوط والانهيار وبالتالي ضياع محتوياتهما بسبب الحفريات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي تحتهما. وقالت: “عبثاً يبحثون عن تراث لهم هناك”. ومن بين ما أشارت إليه أن التجريد في القرن التاسع عشر والقرن العشرين كان “فن الثورة” وتصدى للرأسمالية ليس في أوروبا فقط بل في أميركا أيضاً، ولم تكن “كوميونة باريس” التي أخرجت العلاقة ولأول مرة بين الفنانين لتتم أمام حشد من الجمهور، سوى الخطوة الأولى، تلاها التكعيبيون الذين أضافوا الانفعال ثم المستقبليون الذين أضافوا السرعة، عن إدراك (كما تظهر مقالاتهم) بأنهم يدخلون مبدأ البعد الرابع، وهو بعد الزمن إلى أعمالهم، وهذه الإضافة هي التي جعلتهم تجريديين. لكن الفن التجريدي اكتمل لدى فناني الثورة الروسية عند ماليفيتش الذي كان يمثل شريحة اليسار، والبنيويون الذين مثلهم ليوبوف بوبوفا حيث أزالوا التظليل والمنظور والجاذبية من الصور، وأصروا على أن تكون أعمالهم بلا موضوعات، ومن هنا عرفت بأنها شكلانية. لكن النقد أخذ هذا المعنى وقلبه رأساً على عقب، واعتبر النقاد أن عدم وجود فكرة أو موضوع في العمل الفني يعني أن التجريد لا يملك صلة مع الحقيقة الموضوعية، وأن أعمالهم هي اختراع عقلي. وقد وافق بعض الفنانين على مثل هذا الطرح مثل كاندينسكي الذي وصف التجريد بأنه مثالي، باطني، روحاني، مؤسس على الخيال وذاتية الفنان، كما رفضت هي سامية حلبي ما يقوله كاندينسكي “عن الروحي في الفن”. ومع الفنانين السوفييت تلقت الحركة التجريدية في نيويورك في خمسينيات وستينيات القرن الماضي دفقة جديدة وطاقة تعبيرية، لكن نقاد الفن المعاصرين تناقضوا مع التجريديين الذين رأوا أنهم يجانبون المنطق، وينسلخون عن الواقع ومشكلاته السياسية والاجتماعية. أما عن تجربتها وكيف تطورت ضمن تاريخ الفن فأظهرتها المقارنة بين عمل من أعمالها رسمته في العام 1980 وصورة لجدار قبة الصخرة، التي اعترفت أنها تأثرت بها بعمق وأنها تركت أثراً على أعمالها منذ العام 1980 وإلى الآن، ثم استكملت الملمح الثاني من تجربتها (العالمي الطابع) بمقارنة بين عمل للفنانة ماريا اندر رسمتها في العام 1920 تصور اللوحة الأكثر أهمية في الثورة السوفييتية ولوحة رسمتها هي في العام 1996، مبينة كيف تلتقي اللوحتين في الأفكار، وقالت: “كانت ماريا طالبة حين رسمت هذه اللوحة المدهشة عن اللحظة الأكثر جمالاً في الثورة السوفييتية، وهي واحدة من الأعمال القليلة التي بقيت لدينا منها، وتعكس لحظة مهمة في تاريخ تطور الفن. والأفكار التي تحتويها مهمة جداً في عملي المؤرخ في 1996 لتخلص إلى نتيجة مهمة قالتها في ثقة ويقينية: “التجريد هو أكثر فن يصلح لوقتنا الحالي، لا شيء يعدله أو يفوقه”. بُلاّطة.. والأيقونة المقدسة إذا كانت سامية حلبي وجدت في قبة الصخرة منبعاً تستلهم منه أعمالها، فإن الفنان الفلسطيني كمال بُلاّطة الذي يعيش في فرنسا منذ العام 1997 وجد في المربع/ الأيقونة ثيمة صالحة وثرة لتترجم ما يجول في باطنه إلى أعمال فنية رائقة، ولعل النماذج التي عرضها للجمهور وأوضح من خلالها كيف يتشكل المربع ويتغير ويتشابه ويختلف مبدعاً في كل مرة معنى جديداً، ومدلولاً إضافياً هو خير مثال لما استطاع هذا الفنان أن يقدمه عبر تجربة ذات سوية فنية عالية، تمكنت من المزج بين الأصالة والمعاصرة وقدمت القديم في ثوب حداثي بشكل ناجح وبليغ. وقد عكست أعماله بسبب تركيزه على الضوء أجواء شفافة وشديدة الصفاء، تحيل إلى مفاهيم التجربة الصوفية وما يعيشه فيها المريد من أمداء روحية. وقال بُلاّطة إن الضوء بالنسبة إليه هو بمثابة فسحة سماوية تضفي على العمل الفني أبعاداً إنسانية ودلالات عميقة. وأضاف إن أعماله تنتمي إلى أعمال جيل من الفنانين العرب الذين بحثوا في أصالة الفن التجريدي وحضوره في الثقافة العربية الإسلامية. وفي ما يخص التجريد وجذوره تحدث بُلاّطة عن الملامح التجريدية في الفن الإسلامي مركزاً على المربع، مشيراً إلى وجود نقاد وفنانين يرون أنه فن غربي. تجريب بلا حدود القاسم المشترك الأكبر في تجربة الفنانة الإماراتية ابتسام عبد العزيز هو التجريب، التجريب المفتوح إلى آخره وبلا حدود. وقد فضلت الفنانة نفسها في مداخلتها أن تسمي أعمالها تجريبية، ولم تجانب الصواب في ذلك. وقالت إن الفن يعني لها “مجمل الوسائل والمبادئ التي يقوم بها الانسان لإنجاز عمل يعبر عن أفكاره، فالعمل الفني تجسيد لفكرة ما بأحد الأشكال التعبيرية الفنية”، لافتة إلى أن “الفن وثيق الارتباط بالتقدم الاجتماعي والعقل الإنساني، وبالحضارات اذ انه يمثل مختلف قيمها ورقيها الفكري والتعبيري. وبالتالي لكل حضارة فنها الذي يحمل سماتها المميزة”، ومن هنا “لا يمكن فهم الفن بعيداً عن إطاره الاجتماعي وبيئته الزمانية”. وتهدف ابتسام إلى دمج طبيعة العصر وتقنياته مع طبيعة أعمالها لتلبي حاجتها الملحة للاطلاع على اتجاهات الفنون المعاصرة. وهي تستخدم لتحقيق ذلك الأعمال التركيبية، الفيديو، الصور الفوتوغرافية، الخرائط، الأرقام والأشكال الهندسية، الأعمال النظامية، وكل ما يمتلك سمة التطور في انتاج أغلب أعمالها. كذلك لجأت الى معالجة الموضوعات الحياتية اليومية لتترك دلالات مؤثرة ومثقلة بتحاليل نفسية، مواضيع مثل الحياة، الموت، الشقاء، السعادة، الغيرة، الحب، الكره وغيرها. فيما تطرح بعض أعمالها العلاقة القوية بين الثقافة البصرية والتكنولوجيا الحديثة للاستفادة منها في إعطاء القوة الثقافية البصرية الجديدة لطبيعة أعمالها، التي يحاول بعضها توثيق الزمن المتسارع، ويعرض بعضها الآخر أفكاراً تبحث عن الطبيعة الإنسانية وتبحر في مغامرة البحث عما يدور في أدمغتنا نحن البشر، ومنها ما يعرض مفهوما آخر للتغيير المتسارع في بيئتنا، وغيرها من المفاهيم البصرية التي تشرح عملية التضاد بين الظل والضوء. ومنها ذو علاقة وطيدة (بفن الوهم البصري) في عرض يوحي بالتشويش المرئي للأشكال والخطوط الهندسية، والتي هي بالتأكيد تفصح عن مدى ارتباطها، كما تقول، بعلم الرياضيات، فعمليات التلاعب بالأرقام والأنظمة الرياضية... ما هي إلا تحريض على التغيير من أجل كسر قيود الأنظمة”. وجسدت الأعمال التي عرضتها هواجسها وأسئلتها ذات المدلولات الفلسفية والفكرية، وعكست التطور المستمر في تجربة هذه الفنانة التي تسعى بشكل مخلص ودؤوب (كما هو واضح مما عرضته) إلى التجديد والاكتشاف وقول الأشياء المألوفة بطريقة غير مألوفة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©