الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرقيب الذاتي.. قمع المخيّلة

الرقيب الذاتي.. قمع المخيّلة
22 يناير 2014 21:21
يقول الدكتور عبد السلام المسدي: «إن حرية الرأي لا يقتلها شيء مثلما يقتلها الخوف من سوء التأويل، وإن الفكر الحر لا يطفئ شعلته شيء مثلما تطفئها الرقابة الذاتية المتولدة من ذاك الخوف».. فهل ثمة ما يعطل الإبداع أو يقتله أكثر من الرقيب الذاتي لدى المبدع ذاته؟ سؤال يستدعي الطرح ويفتح قوساً واسعاً على الجدل، ومن هنا كانت رؤى ونقاشات مبدعين عرب حوله في هذا الاستطلاع: يجيب فوزي الحداد (كاتب وباحث ليبي) على سؤال كهذا بـ «نعم»، ويضيف: الرقيب الذاتي أكبر معطل لإبداع كل كاتب، وكلما تحرر المبدع من قيوده التي يصنعها بنفسه كلما ارتقى في سلم الإبداع.. فالمثقف الذي يراعي القيم السائدة ويهتم لها لا يمكن أن يكون من كبار المثقفين والمفكرين، فهؤلاء المتحررون من رقابة السلطة الاجتماعية والذاتية هم قادة مشاعل التنوير في المجتمع، لذلك ينبغي على المبدع إن كان مثقفا أن يعتد بموقفه ويقف خلفه دون اعتداد بما يمكن أن يصمه به المجتمع الرافض للتغيير والجديد دائما. وتقول نرمين خنسا (روائية من لبنان): لا شك أن المبدع ينشد دائماً التعبير بحرية عن أفكاره، وآرائه، ومشاعره، وهواجسه، دون أن يحد ذلك أي قيد أو رقابة، سواء كانت ذاتية أم اجتماعية أم من جهات رسمية. فهذه الرقابة التي قد تكون ناجمة عن عوامل نفسية أو حواجز سياسية.. اجتماعية ... عقائدية وما شاكل ذلك قد تمنع البوح بمكنونات الفكر والذات، وبالتالي، فإن ذلك سيؤثر بشكل سلبي على العمل الإبداعي بكل أنماطه وأنواعه ومسمّياته. فالإبداع زهرة لا يفوح عطرها إلا في فضاء حر ومضيء. غير أن هذه الحرية الابداعية يجب أن يكون لها شروط ،وضوابط وقوانين ترتقي وتسمو بها إلى أعلى درجات الإبداع، لأن الحرية المطلقة إن لم تكن مقترنة بالجدية وبالمسؤولية وبعيدة كل البعد عن العبثية وعن الفوضى، فإنها بالتأكيد ستشوه مفهوم الحرية وستأخذ العمل الابداعي إلى منحى آخر. سلطة التابوهات أما علي الربيعي (شاعر وكاتب من ليبيا)، فيشير إلى أن «الإبداع في أحد أهم أوجهه يعني التصدي لكافة أشكال السلطات القمعية القبيحة، أيا كان منشؤها أو مسببات وجودها، ما دامت تعمل على الحد من الحريات، استنادا إلى كونها ـ الحرية ـ مطلبا إبداعيا لا غنى عنه. كما قد يتوجب علينا أيضا، الإقرار بأن ثمة عناصر أخرى عديدة يمكن أن تتشكل وفقا لوجودها أطر فنية تتخذ مظهرا سلطويا ذا صيغة رقابية، والتي بدورها تضغط بشدة على المبدع لتدمره كليا، كنفق الارتهان لتيمة معينة (المكان أو الموضوع) لإنتاج جنس أدبي بعينه، بحيث تكون محاولة الخروج من النفق أشبه بولادة ابداعية ثانية. وعلى الرغم من أنها حالة تلتصق أكثر بالحس الفني لدى المبدع أكثر من التصاقها بالسلطة الرقابية، إلا أنها حالة موجودة ومبررة لأسباب لسنا بصدد ذكرها, كما أنه شكل آخر من أشكال الرقابة الشنيعة، والذي قد ينضوي أيضا تحت لواء السلطة تلك، ويعمل على ممارسة قمعه الفظيع على أصابع ومخيلة المبدع ليستحوذ بالتالي على مساحات التنوير الشاسعة المفترضة لإنتاج الفن في عمومه حتى يبتلعها كليا. إنما وعلى النقيض من ذلك ،فإن الإبداع أيضا يتجلى في الكيفية التي يتم من خلالها قبول الحرية كضرورة حيوية، إنما ليست مطلقة، كما أنها لن تكون خيارا بأيّ حال,وذلك لأنها تتوسل اختراق كافة أشكال السُلطة في صورها المتعددة، ومن ثم دحرها لمصلحة الفن.إنما يجب أن يتم ذلك بوعي تام،بما في ذلك السلطة الرقابية الذاتية،فالمبدع مطالب بتحقيق انتصاره على ذاته على الدوام،إخلاصا لتجربته الفنية.لأن الإبداع يكمن في قبول المسألة الرقابية بوصفها تحدياً يجب تقبله بشكل مستمر. وعلى الرغم من التفاوت في الرؤى الإبداعية لكل مبدع إزاء الرقابة كمفهوم تعسفي شمولي، إلا أن هناك إرادة ذاتية ـ مهما كانت درجة ارتهان المبدع لسلطته الرقابية ـ تعمل في المقابل طوال فترة مكابدة إنتاج الفن على مجابهة تلك السلطة ودحرها.لكن السؤال الذي تؤسس الإجابة عنه للقيمة الإبداعية الجمالية للفن ـ في كافة أشكاله ـ ليست له أي علاقة بدرجة سطوة الرقيب وحجم فعاليته التي تقوض مساحة الإبداع،لأن الفن ينفر تلقائيا من كافة أدوات السلطة وواجهاتها،ويعمل بشكل تلقائي على ابتكار أدواته الخاصة من أجل اختراقها ـ ولا ننسى هنا بأننا نتحدث عن الإبداع بوصفه مكابدة ـ علاوة على وجود شكل ما من أشكال الرقابة والذي يتربص بكل مبدع وأدواته. لذا ستتحدد القيمة الجمالية للفن حسب تصوري من الإجابة عن السؤال التالي :إلى أي مدى سينجح المبدع في تجاوزه لضوابط السلطة الرقابية تلك؟! من هنا تحديدا وعند هذه الحالة الوجدانية التي تلي مرحلة سابقة من القبول الواعي لتلك السلطة، ومن ثم مقاومتها وإفنائها، لابد لإرادة المبدع هذه بأن تنتصر على السلطة في نهاية المطاف، وإلا فلن يتحقق الإبداع، وإن كان سيبدو انتصارا مجازيا، إلا أنه ذو دلالات، بحيث يكمن تحققه في تجاوز اللاممكن ودوس المحظور، ذلك الغيبي والجاهز. من هنا يتضح جليا أن السلطة الرقابية في شكلها الذاتي المروّع التي تتجلى في إخفاق المبدع في خرق تابوهات بعينها (الدين ـ الجنس ـ السياسة)، لتتخذ من الخضوع لنواميسها شرطا حيويا لنتاجها الفني، هي سلطة قمعية ستعطل بالضرورة العملية الإبداعية، وسيتحول «المبدع» من رقيب نخبوي إلى حارس تابع لسلطة أخرى خاسرة غير سلطته الخاصة, لكن إذا تجاوزنا هذه التابوهات التي قد يستسلم المبدع طوعا أو قسرا لواجهاتها, إلى حيث الحدود القصوى الممكنة التي سيقف عندها ،فإننا سنكتشف بأنه يحلق عاليا بلا حدود، وأن المضامين الجوهرية المتحققة في نتاجه تنأى عن التساؤل المُلح حول تلك القيم الجمالية، لأن مسألة اختراق تلك السلطة ستكون محملة بدلالات ابداعية كذلك. لذا يمكن استخلاص بأن الرقابة الذاتية مسألة لا مناص من الاعتراف بصورها الموجودة (وإن كانت بدرجات متفاوتة)،وأنه من العبث انكارها بشكل مطلق،كما أن العملية الإبداعية رهينة لإرادة المبدع الذي سيكتشف الزوايا المظلمة بالقدر الذي سيستمر في ولوجه لتلك التابوهات، وأن الحرية المطلقة تُحجم المبدع على الذهاب بعيدا، ومرد ذلك إلى أن الوجود المجرد للحرية يخضع كذلك لاشتراطاتها. لا إبداع مع قيود وتدخل آمال عوّاد رضوان (شاعرة وكاتبة من فلسطين) إلى السؤال بتعريف الفعل الإبداعي أولاً، تقول: «الإبداعُ يختزلُ الزّمانَ والمَكانَ، بومضاتِهِ المضغوطةِ بقالبٍ فكريٍّ صغيرِ الحجم، كبيرِ المَفعولِ والتأثير، إذ يُكوّنُ ثروةً حضاريّةً مُتميّزةً!. الإبداعُ كنزٌ وطنيٌّ مُتجدّدٌ مَرِنٌ، يُساهمُ بابتكاراتِهِ الخلّاقةِ في بناءِ المجتمع فِكريا، وحضاريا، وموسيقيا، وفنيا، وأدبيا، وثقافيا، وسينمائيا، ورياضيا، وسياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، وهذا الكنزُ صالحٌ لكلّ زمانٍ، فلا تنتهي صلاحيّةُ استخدامِهِ، طالما أنّهُ يَنقشُ بصمةً عميقةً بنّاءةً في ازدهارِ الحضارةِ، والعدالةِ، والحُرّيّةِ، والإنسانيّةِ، والفِكر المتجدّدِ، وطالما أنّه يُوطّدُ لغةَ التّواصلِ بين الحضاراتِ، مِن خلالِ الحوارِ البنّاءِ، ومُعالجةِ التّصادماتِ بينَ الثقافات. الإبداعُ يَنسابُ بتلقائيّتِهِ عفويًّا سيّالاً، دونَ أن يَخضعَ لإملاءاتٍ وتكتيكٍ، أو تعديلٍ وإجهاضاتٍ قسْريّةٍ، بسببِ ضغوطِ مُحَرَّماتٍ وتابوهاتٍ مُوجِّهةٍ، مِن أعراف، وجنسٍ، ودينٍ، وسياسةٍ ومجتمعٍ!. الإبداعُ حُرٌّ، يُساهمُ في تعزيزِ هُويّةِ وثقافةِ المُبدعِ وقِيَمِهِ الوطنيّةِ والإنسانيّةِ، مِن خلالِ استثمارِهِ لمَواطِنَ جَمالٍ، تنبُعُ مِن بؤرةِ فِكرِهِ العاصفِ بالاطّلاعِ الواسع، فتقودُهُ ثقافتُهُ الشاسعةُ إلى بَراحِ مساحةٍ زمنيّةٍ مفتوحةٍ، وإلى آفاقَ رحبةٍ لا تُقيّدُها حدودُ الوقتِ، ولا تتصدّى لها سدودُ المَواردِ، بل يُعبّرُ المبدعُ عن مدى ثقافتِهِ وانفتاحِهِ وأيديولوجيتِهِ، مِن خلالِ اختيارِ الكلماتِ وخطوطِ إبداعِهِ الّتي يستخدمُها بموضوعيّةٍ، ودونَ هيمنةِ نزعتِهِ القوميّةِ والدّينيّةِ، ودونَ الانحيازِ المُدجَّنِ المُوجَّهِ!». وتضيف: «المُبدعُ في خلوتِهِ الإبداعيّةِ المَسحورةِ واللّامَشروطةِ بالدين والسّياسةِ والمَوروثاتِ، تتسلّلُ أطيافُ إبداعِهِ العاريةُ مِن ذاكرتِها، ومِنَ اتّجاهاتِها المَسكونةِ بالقلقِ، وبفائقِ حُرّيّتِها تنطلقُ مُتمرّدةً مُراوِغةً مِن قمقمِها الوحشيّ، في رحلةٍ استكشافيّةٍ عشوائيّةٍ ضبابيّةِ المَلامح، دونَ أن تتزوّدَ ببوصلةٍ أو رقيبٍ ذاتيّ أو رقيبٍ خارجيّ، ودونَ أن تأبَهَ لِعيونٍ مُتلصِّصةٍ، أو قلوبٍ مُتربِّصةٍ بهِ، بل تتسيّدُ لغتُها الزئبقيّةُ في لعبةِ نسْجٍ إبداعيٍّ عميقٍ، فتتخطّى الحواجزَ والعراقيلَ والأدغالَ المُتشابكةَ، لتُحلّقَ ببراعةِ بوْحِها المُتماهِيةِ معَ روحِهِ في فضاءاتِ أفكارِهِ، وتغوص في أغوارِ أعماقِهِ، سابِرةً مُحيطاتِهِ المُتلاطمةِ، لتقتنصَ مَحاراتِ الدّهشةِ، وطفراتِ الإبداعِ اللّامُهجّنةَ واللّامُدجّنة!. مع ذلك، لا بد وأن يكونَ في داخلِ كلِّ مُبدعٍ رقيبٌ ذاتيٌّ، وهذه الرّقابةُ حاضرةٌ بتفاوتٍ مِن مُبدعٍ إلى آخر، وهذا الأمرُ يَعيهُ المُبدعُ ويُدركُهُ في الغالبِ، إذ تُساهمُ هذهِ الرّقابةُ وهذهِ المَحاذيرُ في تشكيلِ بناءِ شخصيّتِهِ وثقافتِهِ وأبعادِ صوتِ رؤاهُ، فتضبطُ إيقاعَ إبداعِهِ جَماليا، وتُحرّرُ أدواتِ إبداعِهِ مِن عقالاتِها، ممّا تجعلُهُ مُتوازنًا ومُتّسِقا معَ شخصِهِ، فلا يَخشى إبداعَهُ ولا يُبغضُهُ! ولكن، حينَ يكونُ الإبداعُ نقيضا لشخصِ المُبدعِ، وغيرَ مُتصالِحٍ معَهُ، وفي صراعٍ مقيتٍ وبغيضٍ معهُ، فهذا الأمرُ يَحولُ دونَ إبداعِهِ الحُرّ، بل ويَجعلُهُ مُوَجَّها، مُقيَّدا، مُفبرَكا، مَهزوزا، مُشوَّها، وقابلا للزّوالِ السّريع، وعندَها يكونُ الرّقيبُ كفنَ الإبداعِ ولحْدَهُ. في تقييمِ الإبداعِ قد تتدخّلُ عِدّةُ عواملَ مُتحَكِّمةٍ عاصِفةٍ، ومُؤثِّرةٍ في توجيهِ الرأي العامّ مِن استحسانٍ أو مُواجَهةٍ ومُناكفةٍ، وفي الوقتِ ذاتِهِ، قد يَعملُ الجهلُ على تحريفِ وطمْسِ معالِمِهِ ووأدِهِ، مِن خلالِ رقاباتٍ تعسُّفيّةٍ ورَجعيّةٍ، مُوجّهةٍ بلغةٍ مُستهدَفةٍ تدميريّةٍ، تؤدّي إلى تصادُماتٍ فِكريّةٍ، وإلى صراعاتِ توليدِ تيّاراتٍ مُعادِيةٍ ومُضادّةٍ، فتعملُ على حجْبِ وحذْفِ وإخفاءِ ذلك الإبداع، أو تحرقُهُ، أو تُبيدُهُ تحتَ مُسمَّياتٍ تتعدّدُ، وتحتَ تبريراتٍ وحِججٍ واهيةٍ تتناقضُ وهذا الإبداع، كصَوْنِ الذّوْقِ العامّ، وعدم السّماحِ لتَسلُّلِ أفكارٍ مُشوَّهةٍ تمسُّ بالمجتمع، وإلخ.... في جدليّةِ الإبداعِ والرّقابةِ الشّائكةِ واللّامُنسجِمةِ- (لعبةُ القطّ والفأر)- تكمُنُ مِصيدةٌ شرسةٌ تُجيزُ وتمنعُ، تُهدّدُ كينونةَ الإبداعِ، وتَستبيحُ ديْمومَتَهُ، هذهِ المِصيدةُ هي عينُ تمساحِ الرّقابةِ الخارجيّةِ الزّجاجيّةِ، الّتي لا تتذوّقُ الإبداعَ مِن ناحيةٍ، ومِن جهةٍ أخرى، ضراوةُ أسنانِ تمساحِ الرقابةِ الخارجيّة، وما تتمتّعُ بهِ مِن صَلاحيّاتِ قوى قبَليّةٍ قمْعيّةٍ مُتسلّطةٍ، تؤْمنُ بفِكرٍ أحاديِّ الاتّجاهِ، فتغتالُ الإبداعَ وتَستهينُ بهِ وتُحَقّرُهُ، إذ تُنَصِّبُ مَنابرَها ومُلكيّتَها وشرْعيّتَها كوصيّةٍ على القِيمِ الأخلاقيّةِ والإبداعيّةِ، رافضةً لحُرّيّةِ التّعايشِ، ومُعادِيةً لتعدّديّةِ الفِكرِ المُناهِضةِ بمُعتقداتِها ومَبادئِها، وبذلك، قد تلغي وتَحرِمُ أجيالا قادمةً مِنَ الانفتاح، وقد تُهَمّشُ مُبدِعينَ وتُعتّمُ عليهم، وقد تعملُ على إبادتِهم ومُصادرةِ إبداعاتِهم وأفكارِهم بتيّاراتِها المُختلفة، حفاظا على سِيادتِها وتَجَبُّرِها، وخوفا مِن فتْحِ عيونِ وعقولِ الشّعبِ على حقائقَ وتناقضاتِ وانتهاكاتِ وعوراتِ هذهِ القوى. هل يُمكنُ للإبداع أن يَستثمِرَ رُموزَهُ اللّمّاحةَ ونفوذَهُ المُراوِغَ، في تطويعِ هذهِ القُوى والتّحايُلِ عليها؟ كيف؟ كيف يُمكنُ أن يَخلقَ المُبدعُ توازُنًا نفسيا واجتماعيا، ما بينَ إبداعِهِ، وما بينَ عينِ الرقيبِ وقارئِهِ؟ بالاعتدال؟ بالتعديل؟ بالموالاة؟ بالاعوجاج؟ بالهربِ إلى بلدٍ أكثرُ أمْنا، ويحترمُ حرّيّة التعبير؟ أم باليأس، والتوقّفِ عن مُمارسةِ إبداعهِ، وشراءِ حياتِهِ المَهزومةِ المقهورة؟. يؤثر ولا يعطل ويعلق ناجي رحيم (شاعر من العراق) على السؤال بالقول: هذا سؤال مركّب يمكن النظر إليه على عدة مستويات، كما يمكن تفكيك أجزائه لتصبح هي نفسها أسئلة قائمة بذاتها. السؤال يتضمّن حقيقة تأثير الرقيب الداخلي على عملية الإبداع، نعم، الرقيب يؤثّر قطعا على عملية الإبداع، لكن هل يعطّلها؟ أجيب بلا قاطعة. لا تعطّل سلطة الرقيب الداخلي عملية الإبداع.قد يغيّر الرقيب الداخلي من مسار عملية الإبداع، فتتخذ أشكالا متعددة قبل أن تستقر في منجز أخير. هنا نتحدث عن تأثير لا تعطيل. نحن نلمس كمتلقين ناتج عملية إبداع، في مجالات متنوعة، رواية، قصيدة، لوحة، الخ، لكننا لا نستطيع، طبعا، أن نتابع صيرورة هذا الشغل الروحي، الفردي، أية أشواط قطع وكيف، في أية منحنيات ودوائر سار، الخ . نتعامل مع منجز ابداعي، قد يدفعنا إلى مواجهة مع أنفسنا، نبحر فيه وفينا، نتساءل مثلا كيف تمكن روائي أو شاعر من طرق عوالم، نعرفها بصيغة أخرى، كيف سلط ضوء الإبداع على جوانب لم نشاهدها بمثل هذا السطوع ، لم نتوقف عندها بمثل هذا الطرح، المعنى الذي أحاول الوصول إليه هو أن بوصلة المبدع تشير رغم حضور رقيبه الداخلي. أرى أن تأثير الرقيب الداخلي على صيرورة إبداع، أيّ إبداع، يتناسب طرديا مع انغلاق أو انفتاح مجتمع ما، لا أظن أن مبدعا يمكن أن يتبرعم، يتفتّح، ينطلق في تناول همومه، هموم مجتمعه، العالم، الخ، إذا كانت سطوة الرقيب الخارجي تحصي عليه أنفاسه. لا أحبذ أدوات التعريف، أحاول الابتعاد عنها قدر الإمكان، لعله رقيبي الداخلي هو من حدّد لي هذا، لكن لابدّ من استعمال أل التعريف مثلا كما هي حاضرة في السؤال (عملية الإبداع، المبدع) ، نحن نتحدث إذن عن همّ ، عن شغل إنساني لا يتوقف ما دامت الحياة ، المبدع كائن مهموم، يتفاعل مع أسئلة وحالات لا تنتهي، شيء في رأسه يمور ، ينظر إلى العالم ويقارن، يتساءل، يحدّد، تختمر عصارات في روحه، يبحث لها عن صيغ للتعبير، للتأشير، لمحاولة رمي حجر في مستنقع يراه، أو لمحاولة فتح نافذة تطلّ على مشهد لم يألف من قبل، لا رقيب داخلي يمكن أن يعطّل طاقته، طاقة الإبداع. وتذهب حنان محفوظ (شاعرة من ليبيا) إلى أن الرقيب الذاتي أكبر من الرقابة الخارجية في التأثير عند المبدع، وتقول بحسم: «لهذا أوافق رأي من يقول أن الرقيب الذاتي يعطل الإبداع فعلا عند المبدع، خصوصا عند المبدع مستيقظ الضمير». فيما يواجه عبدالرزاق العاقل (كاتب وباحث من ليبيا) السؤال بسؤال مقابل: لا اقصد مطلقا أن أواجه السؤال بالسؤال، ولكن طبيعة السؤال دفعني لهذا الفعل الرقابي لأن الضمير الذي يسكن داخل كل انسان يختلف قوته من شخص الى آخر؟! فعادة ما يشعر المبدع، وهو يمارس إبداعاته بوجود رقيب ذاتي قد يعرقل سعيه للتعمق في العناصر الابداعية التي يقوم بها، خاصة عندما يشعر بأن الجهات ذات الاختصاص في بلادنا المتمثلة في المؤسسات السياسية والاجتماعية والدينية قد تسبب له المضايقات والمخاوف التي تحد من إبداعاته، بدلا من ان تكون رقابة (إيجابية) لا تتدخل في نوع المُنجز الابداعي او غيره، لكنه يبتغي أن تراقبه بروح المسؤولية التي تهدف الى النجاح، وتعمل على التدخل إذا تجاوز الحدود المُخلة بالتوابث الدينية والوطنية للمجتمع لحل هذا الإشكال الخطير . اذن هل يحق لنا القول إننا امام مأزق حضاري كمجتمع حتى نسمح لأنفسنا او لهؤلاء أن يكونوا عقبة في وجه الابداع ؟، ويا تُرى ماذا عملنا من اجل ذلك؟ وهل هذا التدخل سيعمل على تقدم الأمة ؟باعتبار ان المبدع يستطيع رؤية الأشياء التي لا يستطيع غيره رؤيتها ليقوم بتشخيصها وتقديم الحلول الناجعة لها .نقول إذا كانت الرقابة الذاتية في مفهومها الواسع داخل المبدع تُشكل الخطر بعينه على الكتابة إذا تمرد على النفس، فما هي الوسيلة المثلى للخروج من مأزق التضارب بين المبدع والسلطة الرقابية (اذا وجدت)، فلقد قال ماركيز في احد احاديثه تعقيبا على هذا المفهوم بأنه إذا أراد كتابة أدبا ناضجا، فعليّه ان يضع الرقيب على الرف، معتبرا ذلك حالة اقتصاص، ومشيرا الى انه لم يبق متسع من العمر لأداة الرقيب الذاتي او الشخص الاعتباري، لأن ما تبقى من العمر فهو له وما يريده، وما يؤمن به، وما يجب ان يقوله من دون أن يخشى الموت أو غيره! لذا نستنتج في تصورنا بأن الكاتب يجب ان يتحلى بالشجاعة الكافية وبحجم المسؤولية الفكرية والانسانية المناسبة لكل مرحلة، لأنه ليس من المعقول أن نطلق على أنفسنا مبدعين في وقت نهتز فيه أمام أول خطر نتلقاه من الرقابة الذاتية. أو السلطوية فمن خلال هذه البانوراما جلية المعالم لذا الفرد المبدع ان لا يكون هناك وجود للرقيب الداخلي في انفسنا باعتبار انها مرتبطة ببناءات الإنسان وإملاءاته الثقافية والاجتماعية والسياسية، والتربوية التي شكلت وعي الكاتب ومن خلال ذلك نتوقف عند شواهد راسخة في التراث العربي، كنصوص ابن المقفّع التي ظلّت حاضرة ودُحرت الرقابة، ونصوص أبي نواس، والتوحيديّ الذي ساوره إحساس بالإخفاق والعدم جرّاء انسداد الآفاق، ونصوص ابن رشد المحروقة. لنرى ونحن في هذه الظروف الاستثنائية ان مصير الرقابات الدكتاتورية هو الهزيمة بعد ادعائها الباطل لحمايةَ القيم والتعاليم. من جهتها، تؤكد الكتابة خلات أحمد (شاعرة كردية) أن الكتابة هي الحرية. المساحة التي نقف فيها أمام أنفسنا عراة إلا من أنفسنا. مع ذلك ليس سهلاً التخلص من الرقيب الذاتي، الذي ليس سيئاً دائماً. هذا يتوقف على الكيفية التي يتعامل بها المبدع معه. السؤال الأزلي ويصف وحيد الطويلة (روائي من مصر) السؤال بأنه «سؤال أزلي، متجدد دوما،كأننا بتجدده نجزم أننا لم نقض على هذا الرقيب الذاتي ـ وأن تواجده في فضاء الكتابة دليل واضح على عدم غيابه». لا بأس إّذاً، الصفعات التي انهالت على أقفيتنا في المدرسة والبيت وعند الحديث أمام الكبار، والصفعات التي انهالت أمام أعيننا من رجال البوليس على وجوه أقاربنا وحوشنا ودولتنا كل ذلك ترك ندبة في الروح ودعا الرقيب الداخلي للحضور دون دعوة، لكن الفضاء الأوسع التي تبادلت فيه الدولة والتيارات الاسلامية تحديداً بكهنوتها كانت هي التي دعت إلى جعل الرقيب (كالملاك الحارس) وباتت اصوات دعواتهم وتدخلهم القمعي الفظ أشبه بأصوات كلاب الجحيم. سأعترف، في ألعاب الهوى كانت المسألة جد صعبة، بطلها يجد نفسه أمام الميزان يوم الحساب، كانت المسألة أكبر من الرقيب الداخلي، كانت مسألة الفن، لعلي استعنت بكل التصورات الشعبية المتداولة ولم انقص منها شيء كنت ادخل إلى أكثر المناطق وعورة وأنقذني سر الكتابة أو قل أنني ذهبت إليه، للكتابة أسرارها حتى في المعلن المعروف، في باب الليل حذفت جملة حوار يتيمة ليس بسبب الرقيب الداخلي ولكن حتى عدم الحاجة رغم جمالها لكنها كانت فجة في جمالها. الرقيب الداخلي زرعته سلط وقوى ناشطة في امساكها بسيف الأدب والتأدب والانصياع والتراث، يناوشنا ربما قبل الكتابة، لكنه لحظتها ينصاع لنا، يجب أن ينصاع لنا، وحتى لو اقترفنا ما اقترفنا فنحن ونحن نكتب إنما نقاوم، نقاوم كل تلك الهراوات والفتاوى، لكن علينا أن نقاوم بجمال، جمال ووعي كتابة تليق بالكتابة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©