السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«مأساة يرول».. «أنتيغون» سودانية

«مأساة يرول».. «أنتيغون» سودانية
3 فبراير 2010 22:30
افتتحت مسرحية “مأساة يرول” فعاليات الدورة السابعة لملتقى المسرح العربي في الشارقة الذي تنظمه سنوياً دائرة الثقافة والإعلام بالإمارة، كما قدمت السبت الماضي على خشبة المسرح الوطني في أبوظبي. المسرحية التي تقدمها “فرقة كواتو” السودانية هي من تأليف الخاتم عبد الله وإخراج السماني لوال أرو وبمشاركة عدد من ألمع الممثلات والممثلين السودانيين. تقوم بنية الحدث الدرامي في المسرحية على أسطورة شعبية في جنوب السودان لها صلة بتعاقب مواسم المحل والجفاف، وما لذلك من ارتباط ضارب في عمق الحضارات النيلية القديمة بفكرة تقديم “عروس النيل” قرباناً للرب وتطلباً عبرها لهطول الأمطار. هذه هي البذرة الجنينية التي تفرعت منها واستطالت شجرة العرض المسرحي المتشابك العلاقات والرؤى والمسالك في مقاربته لجملة من أعقد ملامح الواقع السوداني المعاصر. ففي المستوى السطحي الخارجي لبنية الحدث، ليس هناك سوى أفق عريض ممتد أجدب. وليس سوى ثمة حلوق ظمأى وأفواه فاغرة تجأر بالشكوى والرجاء، وعيون تتطلع إلى سماء لا برق فيها يومض ولا رعد فيها يدمدم ويرعد. وكان ميسوراً على النص المسرحي في لحظة الترقب اليائس تلك، أن يتوه في فيافي صحراء ممتدة قاحلة، لا لون لها ولا وجود إلا لهزيم الريح والانتظار العقيم الساكن الممل. لكن وكما قال “أثول فوجارد” الكاتب المسرحي الجنوب إفريقي، فإن أجمل دراما القارة وأرقاها هي تلك المسرحيات الباهرة التي أبدعتها مخيلة الشعوب الإفريقية المقهورة. لإشارة أثول فوجارد هذه دلالة عميقة على عبقرية شعوب القارة السمراء وقدرتها الخلاقة على إعادة إنتاج واقعها اليومي مسرحياً وجمالياً، بأفراحه وأحزانه وهمومه وأوجاعه. وفي حالات كثيرة ربما يقوم المسرح مقام الواقع نفسه، سخرية وهدماً وإعادة بناء له في المخيلة الشعبية الجمعية. هذا ما فعله كاتب “مأساة يرول” الخاتم عبد الله ودلت عليه بنية الحدث الدرامي في تكثيفها وديناميتها المتصاعدة المتوترة نحو ذروتها المأساوية. فما كان من سبيل لترويض صحراء اليأس وكسر حالة العدم والسكون، سوى استنهاض الذات واستلهام قوة الأجداد والأسلاف وإحياء أمجاد الماضي الغابر بحرارة إيقاعات الطبول وانتفاضات الجسد الراقص التي تزلزل السكون وتهزم عين المستحيل. وفي هذا المستوى، يبنى النص المسرحي بصرياً وجمالياً بلغة الجسد والتشكيلات الحركية الراقصة المتجانسة.. بتداخلات اللون والإضاءة والأزياء وطقوسية وسحر المكان الفولكلوري الذي يدور فيه الحدث الدرامي الضارب بجذوره في أحشاء الثقافات الإفريقية، التي يشكل الطبل ولغة الإيقاع مفردات رئيسية في قاموس نظامها اللغوي غير المنطوق ولا المكتوب. تداعي نفسي غير أن سينوغرافيا العرض البصري هنا، لا تعدو عن كونها شكلاً من أشكال التداعي السمعي البصري والإفضاء النفسي لذوات تدرك سلفاً مأساوية مصيرها، وتعي حقيقة كونها في مواجهة مصير وجودي يشبه كثيراً سجن اللا مفر الذي جسّده سارتر في مسرحيته الشهيرة التي حملت العنوان نفسه “لا مفر”. في ذلك السجن الوجودي، تضحك الشخوص المسرحية على نفسها، تسخر من وجودها وقدرها، ثم ترقص وتهتز طرباً ونشوة لأمجاد أيام خلت.. وآه لو تعود يوماً لتذهب العطش وتفتح بوابات السجن العدمي. وتحت كل الأحوال، فلا بأس من تداعي التداعي والتعلق بأهداب الماضي وأمجاده على أمل أن يتفتق الواقع المجدب يوماً عن غدران وحقول وخضرة. وتشير الدلالات الضمنية للنص في فصليه إلى ما هو أوسع مدى ورمزية من نطاق المجتمع القروي الضيق الذي تدور فيه الأحداث، لتطال توصيف واقع الحال في وطن مترامي الأطراف بطول وعرض مليون ميل مربع! تلك هي لغة الفن الإشارية في التعبير عن جدلية علاقات الجزء والكل وتفكيك الظاهرة وإعادة تركيبها كما يفهمها الفلاسفة. في مستواه الثالث والأخير، يبلغ الحدث الدرامي ذروته بتكثيف وتوتر خيوطه وإيقاعاته صوب المأساة. هنا تستخدم بنية الحدث تقنية الـ”فلاش باك” وتستثمر بذكاء لعبة بناء الحدث داخل الحدث والمسرحية داخل المسرحية، بينما تبني حبكتها في تواصل حي مرئي مع تراث طويل ممتد بين شتى مراحل تطور أشكال المسرح الإفريقي من جهة، وكلاسيكيات الدراما اليونانية العائدة إلى كنوز القرن الخامس قبل الميلادي من الجهة الأخرى. فمن هذه الأخيرة، لا تزال تجلجل في آذاننا صرخة بطلة مسرحية سوفوكليس القوية “أنتيغون”: “لقد خُلقتُ كي أحب لا لأكره.. ليس ثمة قوة في الأرض ولا في السماء تمنعني تشييع أخي”. هي صرخة خالدة أطلقتها أنتيغون في وجه الطاغية كريون الذي أمر بدفنها حية عقاباً لها على عصيان أوامره الناهية عن دفن جثة أخيها بسبب قتله لشقيقه منتهكاً بذلك إرادة كبير الآلهة زيوس. وهنا تصرخ البطلة الإفريقية السودانية “يرول” في وجه جلادها المخادع خلف قناع الرب بقولها: “إنني أفهم الرب عوناً ورحمةً.. أراه وراء الجفون وضيئاً كنجمة، رقيقاً كنسمة. رب كهذا سيخلق من روحه الطاهرة ضياءً ونوراً على من يصطفيه”. ثم تقذف في وجهه بالقول: “أهذا هو إلهك يا سيدي؟ أهذا الذي قلت للناس أن يعبدوه؟ إذن فادعه للوليمة كي يتلقم”! وهناك من الأنثروبولوجيين ومؤرخي الحضارات من يربط ربطاً عميقاً جديراً بالنظر بين أصول الميثولوجيا الإغريقية والإفريقية، ويحاجج برسوخ جذور ثقافية مشتركة لشعوب هاتين المنطقتين. مقارنة سودانية وفي تراث المسرح السوداني الممتد لما يقارب القرن من الزمان، معالجة لماحة سابقة لثنائية السلطة والدين، وإن اختلف أسلوب تناولها باستلهام الكاتب المسرحي هاشم صديق لأسطورة “سالي فوحمر” في مسرحيته “نبتة حبيبتي” التي قدمت على خشبة المسرح القومي في بواكير سبعينات القرن الماضي. ويمثل هذا المستوى من بنية النص المسرحي، المحور الرئيسي الذي يدور حوله الصراع الدرامي، وتبلغ المسرحية ذروتها لتنتهي إلى مصرع يرول المأساوي. أما على صعيد النظام المفاهيمي للنص وبنيته الجمالية المعرفية، فتثير المسرحية جملة من الأسئلة الفلسفية العميقة، ذات الصلة بتعقيدات وجدليات السلطة والمجتمع، مصاغةً بلغة الفن وقدرته على قدح الذهن وإثارة الأسئلة الوجودية القلقة: كيف يمكن للدين أن يؤوَّل على هذا النحو البراجماتي الذرائعي الشائه؟ وكيف يُعفّر سندس الملكوت السماوي بأحذية البشر وأرجلهم الوحلة الخشنة، وتدنّس روحانيته الصافية بأدران أهوائهم ونزواتهم ورغائبهم الدنيوية الفاضحة الوضيعة؟ وبأي الوسائل والآليات تمارس السلطة الدينية استلابها واستغلالها لعاطفة الشعوب الدينية إلى هذا الحد الذي لا يمت إلى الدين بأدنى صلة؟ ففيما يبدو من بناء شخوص المسرحية ونسج علاقاتها، أنه كان مستحيلاً على العراف تحقيق مآربه الذاتية من دون التعويل على ذهنية تآمرية خبيثة جُبِل عليها، مكَّنته من إنجاز سلسلة معقدة من تكتيكات الفرز والإقصاء وإقامة التحالفات والاصطفافات الاجتماعية التي مهدت له الطريق أخيراً لما أراد. ولكن يمضي هو الآخر لينتهي به الحال إلى صحراء ظمأى أخرى، وإن ارتوى غليله بدماء من اشتهى وسال لها لعابه الآثم الدنيء. بهذا نصل إلى تناول النص لمفهومي الوعي والوعي الاجتماعي الزائف، بين جملة المفاهيم الرئيسية التي عالجها. فحالة التعلق الاجتماعي الواهم بوعود العراف الزائفة، ليست هي سوى مقاربة درامية ذكية لواقع الوعي الزائف الذي تحرص السلطة على تكريسه واستثماره عبادة لمصالحها الدنيوية الضيقة، بما في ذلك استراتيجيات الاستلاب الديني للشعوب. جماليات بصرية فيما يتصل بتناول عناصر العرض المرئي المجسد على خشبة المسرح: فضاءً مسرحياً وإضاءة وأزياءً وحركة وتمثيلاً وإخراجاً، فإن ذلك كله مما يندرج في مكونات الأثر الوجداني الجمالي المعرفي الأخير الذي طبعه العرض في عقول ووجدان الجمهور. وما شدني أكثر من الخوض في تفاصيل هذه العناصر والمكونات الجمالية للغة العرض البصري، هو الرسالة النهائية القوية التي بعث بها العرض هنا في دولة الإمارات: “إن في السودان مسرحاً ينبغي الالتفات إليه وأخذه مأخذ الجد في ترمومترات قياس مستوى تطور الفن المسرحي محلياً وعربياً وإفريقياً. إن في السودان نجوماً ليس لها أن تترك لتخبو في سديم العدم والتجاهل والنسيان”. ومن خلال متابعتنا للعرض في مختلف مستويات بنائه الدرامي والمسرحي معاً، رأينا كيف كان نسيج النص جزءاً لا يتجزأ من نسيج العرض البصري، وكيف كانت جدلية الشكل والمضمون فيه في تشابكها وتعالقها الجدليين بلا انفصام. وفي كل ذلك استدعاء لخبرات طويلة وتوظيف لمواهب غير مطعون فيها في مجال فنون الارتجال ومهارات الأداء المسرحي وتلقائية التمثيل التي طالما تشربتها نخبة الممثلين والممثلات المشاركين في العرض من معين ستانسلافسكي ونهجه في تدريب الممثلين. وعلى امتداد العرض كله يمر في أفق الذاكرة المسرحية الحية المشتركة، شريط طويل من اجتراحات التجريب والحداثة المسرحية: من معمل جروتوفسكي الذي وطّن فيه ممارسته الجمالية لمفهومه عن المسرح الفقير، إلى تيار المسرح الحي وفضاءات مسرح الشارع، وتجارب المسرح التعليمي في البرازيل وأميركا اللاتينية، وصولاً إلى طقوسية المسرح الإفريقي التي نهلت من تراث محلي منفتح على الثقافات والتجارب الإنسانية العالمية على مصراعيها. وفوق ذلك كله رأينا كم هو معقّد هذا السودان.. كم هو متعدد واقعه، مخاتل ومبهر في آن! وختاماً يكتب العرض قصيدته ـ مقولته الدرامية الأساسية ـ بمفردة شعرية ضمنية مستترة مخبوءة فيه، ردد خلالها الممثلون والممثلات أصداء أبيات شاعر “أمتي” المأثورة: “سندق الصخر/ حتى ينبت الصخر/ لنا زرعاً وخضرةً/ ونرود المجد حتى/ يحفظ الدهر لنا/ اسماً وذكرى”.... ودق الصخر هذا تطلباً وإلحاحاً على تغيير الواقع التعيس، هو عندي بمثابة دفقة الوعي الأخيرة التي قصد العرض تأكيدها بقوة بعد إسدال الستار. وفهم المسرحيين لأصداء العرض والعناصر الضمنية المستترة فيه، لا يقل حصافة عن فهم أهل اللغة وعلماء اللسانيات للعناصر ذاتها في سياقها الألسني اللغوي. تلك هي شعرية العرض المسرحي وجماليته الآسرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©