الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«ساعي البريد» يقرع شاعرية بابلو نيرودا

«ساعي البريد» يقرع شاعرية بابلو نيرودا
11 يوليو 2013 00:38
لماذا تعود سينما الفضائيات هذه الأيام لعرض الفيلم الايطالي “ساعي البريد” Il postino للمخرج البريطاني مايكل رادفورد؟ في الواقع إن الذاكرة لا تستطيع إغفال مثل هذا الفيلم الجميل والرائع في مضمونه وجمالياته وشكله ومذاقه الفني ولغته السينمائية المعبّرة، وهو الذي يعيدنا إلى سيرة شاعر الحب والثورة في المنفى بجزيرة سالينا الايطالية، التشيلي بابلو نيرودا (1904 ـ 1973)، الحائز على جائزة نوبل في الأدب. ويبدو أن مثل هذا العنوان “ساعي البريد”، قد جذب إليه نخبة من صناع السينما في العالم، فأنتجت شركة وارنر براذرز، بذات العنوان فيلما من تمثيل وإخراج كيفن كوستنر عن الرواية الفائزة بأدب الخيال العلمي لديفيد برين عام 1975، وعلى مستوى السينما العربية، تم إنتاجه عام 1968 عن رواية بذات الاسم ليحيى حقّي للمخرج حسين كمال، وصنف الفيلم من بين أفضل مائة فيلم على مستوى السينما العربية. أما “ساعي البريد” الايطالي الذي نحن بصدده فقد نال ثماني عشرة جائزة عالمية، ورشّح خمس مرات لجائزة أوسكار أفضل فيلم، وإخراج، وتمثيل رجالي، وسيناريو، وموسيقى أفلام درامية. وسيناريو الفيلم كما هو معروف مستند إلى رواية بعنوان “الصبر المحترق” للكاتب أنتونيو سكارميتا. ونعتقد أن عرض هذا الفيلم مؤخرا، يأتي في إطار التقدير الخاص للابداع في أميركا اللاتينية، وأيضا كنوع من الاحتفاء بمرور نحو مائة عام على مولد هذا الشاعر التشيلي الاستثنائي الذي يعتبره الكثيرون أكثر من شاعر، ووضعوه في خانة المبدعين المناضلين ضد كل أشكال القمع والاستبداد في العالم، فكانت قصائده وشعره إلى اليوم رمزا ثقافيا ما زال يحتفظ بقوته ونضارته وشجاعته. يقدم مايكل رادفورد في هذا الفيلم، الذي تم إنتاجه وعرضه الأول عام 1994 باللغة الايطالية، عملا سينمائيا متميزا إن لم يكن استثنائيا من تحت عباءة ثنائية الأدب والفن، ينسج فيه عدة موضوعات ويطورها بأسلوب بديع مشحون بالمشاعر الإنسانية والعاطفية الرقيقة في إطار موضوعات متعددة كالعلاقات الانسانية والشعر والسياسة والفكاهة والدعابة والحب والحزن والرومانسية، حيث يجمع المخرج بين هذه الموضوعات في قصة الفيلم بأسلوب سردي متناسق تعزز جماله قوة أداء ممثليه وإيقاعه المتوازن وتصويره الرائع. أما قصته فتستند إلى رواية أدبية تدور أحداثها العام 1952 في قرية تقع في جزيرة إيطالية صغيرة تتحدث عن ساعي بريد إيطالي بسيط وخجول، وعلاقته بالشاعر التشيلي الطليعي بابلو نيرودا، الذي انتهي به المطاف للعيش في المنفى في تلك الجزيرة للتمتع بقسط من الهدوء والراحة بعيدا عن المشكلات السياسية في بلاده، وخلال هذه العلاقة المشرعة على الجانب الانساني والابداعي، يشرع ساعي البريد في تطوير أحاسيسه ومداركه في نظم الشعر بما فيه تعبيرات مجازية وإستعارة وفي تدوين قصائده وتأملاته في دفتر مذكراته، وبعد أن يقرر الشاعر مغادرة الجزيرة والعودة إلى تشيلي بعد حصوله على عفو خاص، يواصل ساعي البريد كتابة الشعر بافتتان وحماسة وصبر ورومانسية ترتبط بهوية المكان، وحين يعود الشاعر في نهاية المطاف إلى الجزيرة مرة ثانية، يجد في انتظاره تسجيلا بصوت صديقه ساعي البريد، يحمل له رسالة شعرية مؤثرة، فيما تؤكد قصة الفيلم على تشابك العلاقات الإنسانية، وتظهر كيف يمكن لشخص أن يؤثر في حياة شخص آخر مهما تفاوتت ثقافتهما وخبراتهما في الحياة. في التفاصيل، تقدّم لنا اللقطة الأولى من الفيلم الصيّاد “ماريو روبولو”، (لعب دوره الممثل الايطالي الراحل ماسيمو ترونيسي) متجها إلى منزله، فيما تستوقفه لافتة معلّقة على باب مصلحة البريد في قريته، أنهم بحاجة إلى شخص جبلي نشيط، للعمل بوظيفة ساعي بريد، وبعد سلسلة إجراءات روتينية سريعة، يصبح ساعي البريد الخاص بالشاعر المنفي بابلو نيرودا الذي لعب دوره بأناقة عالية الممثل الفرنسي الراحل فيليب نواريه، مصورا لنا جوانيات نيرودا الذي كان يميل الى العزلة في حياته. ومع تطور الأحداث تنشأ بينهما صداقة متينة، حيث يؤثر الشاعر على الساعي بأفكاره التقدمية، ورؤيته للحياة ورجال السياسة والناس على وجه العموم، فيما يكشف مكان التصوير الذي تمّ إختياره بعناية شديدة، عن مكونات ومعالم بيت نيرودا في جزيرة تداعب الخيال، وساحل رائع، يتناسب والجانب الرومانسي الدافئ لمضمون العمل. ويقدم المخرج من خلال هذه الثنائية على مستوى التصوير وتجسيد المشاعر الانسانية، عملا فنيا متدفقا، ومليئا بالآراء والمفاهيم حول فساد السياسة وقسوة الحياة، في إطار لغة رفيعة، وتعبير سينمائي يثير جماليات (فن المناقشة)، كما يجمع مايكل رادفورد بمهارة عالية كل أفكار وموضوعات الفيلم في قالب سردي متناسق، يتعزّز بجمال وروعة التمثيل الذي قدمه كل من ماسيمو ترونيسي وفيليب نواريه ضمن إيقاع متوازن، بحيث أن كل من شاهدوا هذا العمل الذي سجّل في قائمة كلاسيكيات السينما العالمية، تأثروا به، وبخاصة تأثرهم بذلك الصياد الجبلي الحزين، الذي عشق الشعر وكتبه، حتى مات في مظاهرة شعبية، فيما تسجل نهاية الفيلم أعمق ما يمكن أن يكشف عن قيمة الوفاء، حينما يعود نيرودا ثانية إلى مكان منفاه، لزيارة صديقه التلقائي الودود، فلم يجد سوى طفله الصغير وزوجته، ورسالة صوتية مؤثرة تكشف أيضا عن قيمة العزلة الداخلية، التي يحتاجها الانسان في خضم هذه الحياة المتواترة اللاهثة المجنونة، عزلة داخلية تفجر طاقات إبداعية كبيرة. الفيلم كما يبدو من أحداثه، يجمع بين الواقع والخيال والأسلوب الشاعري في معالجة الأحداث وتقديم الفكرة، فهنا شخصية حقيقية هي الشاعر نيرودا، وشخصية وهمية، هي ساعي البريد ببعدها الانساني العميق، وكيف يتعلق بصديقه الشاعر من خلال الجانب الابداعي، وأيضا كيف يعمل طوال الأحداث على كسب ودّ هذه الشخصية المرموقة، وهو ينقل إليه يوميا عشرات الرسائل من نساء معجبات به، رغم تقدّمه في السّن، ما يزيد من إعجابه بشخصية الشاعر، وصموده، وكذلك بجماليات قصائده وطريقة نظمها وفرادة لغتها، حتى يصبح في النهاية مثله الأعلى، ومن ثم إعلانه الصريح عن الاعجاب بآراءه اليسارية، فيما هذا الامتداد الرومانسي الجميل، يتمدد في الفيلم حينما يلتقي ساعي البريد بفتاة أحلامه، شابّة رائعة الجمال والخيال، تدعى “بياتريس” (لعبت دورها الممثلة ماريا جرازيا تيوسنوتا) حضرت إلى الجزيرة كي تزور خالتها التي تدير حانة صغيرة، ولكنها في بداية الأمر لا تعيره إهتماما كبيرا، إلا أنّه يتمكن بمثابرته وصدق مشاعره وبتشجيع من صديقه الشاعر الوصول إلى قلبها، ومن ثم الزواج منها. وتبدو قيمة وجماليات الفيلم، من خلال فن المونتاج البديع الذي تم إستثماره بعناية وبخاصة في الجزء الأخير من الأحداث، لتحقيق ذلك التأثير العاطفي المذهل لدى المشاهد، حيث يؤكد المخرج من خلال جماليات الصورة المركبة، وعمق الكادر على قدرة خاصة في الجمع بين الشخصيات والمواقف المختلفة، بأسلوب ينساب منه دفء التعبير، لكي يترك لدى المتفرج إحساسا عميقا بشخصيات الفيلم التي لم تتوقف عن التدفق لحظة واحدة سواء في لحظات الفرح أو لحظات المرارة تحت غطاء من الصدق الفني وتحقيق غرض الايهام الذي قلما تجده بهذا النضوج في مثل هذه الافلام التي تعنى ضمن بالسيرة الذاتية. كما لعبت الصور القريبة، دورا مهما في إبراز المشاعر الداخلية للشخصيات، وهي تعاني المرارة، وتكتسب في النهاية إيقاعها من تلك العلاقات الانسانية المتشابكة، ولعل ذلك ما جعل ساعي البريد، يحمل علامته الفارقة في أي مكان يعرض فيه حتى اليوم. “ساعي البريد” لا يمكن لنا تصوره على أنّه فيلم ثقافي عن الشعر والشعراء، وعن هزيمة المثقف أمام السياسة والعسكر، فهو في الواقع أكثر بكثير من ذلك، وإلا لما حقق هذا النجاح الساحق في عروضه حول العالم وفي المهرجانات السينمائية الدولية، حيث ما زالت عديد الفضائيات المهتمة بالسينما الطليعية الجادة تعرض للجمهور هذا الفيلم المؤثر والعميق، ففي داخل قصص الحب الجميلة، وفي سياق المفاهيم حول القيم والتقاليد القروية الأصيلة، حيث سعادة الانسان بأبسط الأشياء في الحياة، بمواجهة قمع وتسلط المدينة المتخمة بكل الأشياء، ثمة خيط رفيع ينسج وقائع وظروف سياسية، بل وتاريخ سياسي مؤلم، كان سببا في نفي الشاعر خارج محيطه، وخارج رحم الابداع، فيما يتحايل النص ومخرجه على كل هذه التوليفة حينما ينجح في تصوير قيمة إنسانية على درجة عالية من الوعي، وتتمثل في إيمان الانسان بنفسه، وثقته بقوته الداخلية، وانتصاره في داخله، ثم انتصاره على فساد السياسة والمجتمع. ولتأكيد هذا المعنى، يختتم المخرج فيلمه بقصيدة عظيمة للشاعر نيرودا: “سلام الحماقة أهو سلام/ أيضع الفهد الحرب/ لماذا يدرس المعلم/ جغرافية الموت؟/ ماذا يحدث للسنونوات/ التي تعود متأخرة إلى المدرسة/ أصحيح أنها توزع عبر السماء/ رسائل شفافة؟” كما أنه جنح إلى الطابع الغنائي في نقل مفهوم الأدب إلى قلب التعبير السينمائي، وببراعة سجلت له الفرادة في التناول والشغل السينمائي المحترف بكل ممكنات السينما وتقنياتها، وهذا الجهد غير العادي في الجمع بين التوثيقي والروائي، إستند نجاحه على جملة من المقومات أهمها قيمة الموضوع، وجماليات التصوير والاضاءة السينمائية المحترفة، والموسيقى المفعمة بالمشاعر والمنتظمة مع ردود أفعال الشخصيات، وتداخلها مع التطور الحدثي إلى جانب التركيز على إظهار الصورة البديعة المشرقة لبيت نيرودا الذي كان يملكه في تلك الجزيرة ما أضفى بعدا واقعيا أكثر على الأحداث، مضافا إلى كل ذلك جمال الاخراج وفهمه لطبيعة النص، وطبيعة الظروف المحيطة بالشخصية الرئيسية في الفيلم، ومن ثم تركيزه الشديد وبصورة إستثنائية على شخصية ساعي البريد، التي لعبها ببراعة متناهية الممثل الايطالي الشهير ماسيمو ترويسي (41 عاما)، وهو في الأصل كاتب سينمائي ومخرج، وكان خلال أدائه لهذا الدور يعاني حالة مرض شديدة في القلب، ووافته المنية بعد أقل من إثنتي عشر ساعة بعد إنتهاء تصوير آخر مشهد في الفيلم، الذي عرض مباشرة بعد رحيله، ورشح عن دوره لجائزة الأوسكار لأفضل دور رئيسي يقوم به ممثل، ونذكر هنا أن هذه الحالة من الحالات النادرة التي يتم فيها ترشيح ممثل بعد وفاته. وقد ساهم ماسيمو في كتابة سيناريو العمل بشراكة مع الكاتبة السينمائية آنا بافيجنوفا. ويبدو أن المخرج رادفورد قد اصبح متخصصا في رصد أفلام المشاهير والعظماء، وبخاصة بعد نجاح تجربته الرابعة في هذا المجال، بفيلمه الوثائقي “بيترو تشياني” عن حياة عازف البيانو وموسيقي الجاز الشهير ميشيل بيتر وتشياني، والذي عرض بنجاح كبير، في فعاليات مهرجان السينما الأوروبية في دورته الأخيرة، بمدينة إشبيلية الاسبانية. كما تتجسد هذه الاهتمامات في جوانب عديدة من أفلامه التي تركز على الجانب السياسي والتاريخي، مثل فيلمه الشهير “البغلة” الذي ينغمس في أجواء نهايات الحرب الأهلية الاسبانية في الأندلس، بميزانية وصلت إلى سبعة ملايين يورو. وإذا كنا لا ننسى هذه القيمة الفكرية والجمالية لفيلم “ساعي البريد”، فلا يمكن أيضا أن نغض النظر عن التمازج الثقافي والفني للعاملين في الفيلم من جنسيات مختلفة، تشجيعا لمفهوم السينما المستقلة، وكيف تنجح الجهود والروح الجماعية في السينما، للخروج من تقليديات فن السينما، إلى إنتاج أرحب، حيث أن الانتاج والكتابة والتمثيل والاخراج بروح جماعية يسهم في الخروج من الأزمة الخطيرة التي تتعرض لها السينما العالمية عندما تتوقف عند أشخاص بعينهم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©